قصة الهجرة النبوية - ليلة الهجرة ووداع الوطن الحبيب

منذ 2020-08-19

إنَّ في سيرة نبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام من الدروس والعِبَر، ومن الهدى والبيِّنات ما ينبغي أن يتأمَّله المؤمنون، وربنُّا قد قال عزَّ وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

قصة الهجرة النبوية - ليلة الهجرة ووداع الوطن الحبيب

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفُسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهْدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

فيا أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ في سيرة نبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام من الدروس والعِبَر، ومن الهدى والبيِّنات ما ينبغي أن يتأمَّله المؤمنون، وربنُّا قد قال عزَّ وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}  [الأحزاب: 21].

 

في ظلال سيرة سيدِ الخلْق محمد عليه الصلاة والسلام نَسْتَرْوِحُ وإياكم في ظلالها الوارفة، ونرتشف من رحيقها، ونَسْتَلْهِمُ مِن دروسها وعِبَرِها ما فيه الخير وحسن العُقبى في الآخرة والأولى.

 

وفي محطَّةٍ من محطات حياة نبيِّنا عليه الصلاة والسلام الشريفة، نتوقَّف مرةً أخرى في مَسِير نبيِّنا عليه الصلاة والسلام في هجرته الشريفة المباركة.

 

وفي شأن الهجرة النبوية يقول نابغة الأدب الأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم: ‏"وكانت خطواتُه صلى الله عليه وسلم في هجرته تَخطُّ في الأرض ، ومعانيها تَخطُّ في التاريخ".

 

وقد سجل القرآن العظيم هذا الهجرة النبوية الشريفة بما يتضمن تأييد الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام والتقبيح والنكير والوعيد لأكابر مجرمين قريش الذين اقترفوا هذا الجرم العظيم.



يوضح ذلك عدد من الآيات القرآنية:

كقوله سبحانه: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: ٤٠].



وقوله جلَّ وعلا: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: ١٣] .

وَقَوْلِهِ تَعالى: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: - ٣٠] .

وَقوله تَعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلّا أنْ يَقُولُوا رَبُّنا اللَّهُ} [الحج: ٤٠].

وقوله تَعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وإيّاكم أنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: ١].



وقوله تَعالى في إخْراجِهِمْ لَهُ: {ألا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أيْمانَهم وهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ}  [التوبة: ١٣]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ العظيمة.

 

وكنتُ قد عَرَضْتُ في خُطب ماضية شيئًا من ذلك في قصة هجرته عليه الصلاة والسلام، وكذلك ما كان من مروره بسيِّدةٍ مِن سيِّدات العرب؛ وهي أم معبد وما كان من وصفها للنبي عليه الصلاة والسلام وصفًا دقيقًا بليغًا، يَعْجز عن مثله البلغاء. وما كان في تلك المحطة مِن العبر والدروس والمعجزات الواضحات.

 

وأيضًا جاء الحديث في خُطبة ماضية عن أولى اللحظات لدخول نبيِّنا عليه الصلاة والسلام لِمُهَاجَرَهِ المدينة النبوية المنوَّرة، وما كان مِن استقبال المؤمنين له، وما كان من بدايات خُطبته أوَّل خُطبة خطَبها بالمدينة.

 

وفي ظلال هذه الهجرة الشريفة التي نَسْتلهم جميعًا منها العِبَرَ والدروس نتوقَّف أيضًا عند لحظات عظيمةٍ مِن لحظاتها، وذلك لحظاتِ مُغادَرة النبيِّ عليه الصلاة والسلام لمكة التي بها وُلد، وفيها نشأ وترعرع، ولها أحبَّ حبًّا كثيرًا.

 

ولقد كان نبيُّنا عليه الصلاة والسلام في لحظاتٍ مضَت في أوائل بعثته يَسمع رجلًا عالمًا يُشير إلى أنه ستأتي أيامٌ ستُخرج يا محمد من مكة، فيبلغ به العجَب كلَّ مبلغ، كان ذلك حين بدايات الوحي، لما نزل على نبيِّنا عليه الصلاة والسلام، فما كان من السيدة الكريمة، والمرأة النبيلة العظيمة، خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلا أن انطلقَت هي ورسول الله عليه الصلاة والسلام إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل، وكان رجلًا قد قرأ الكتب المتقدِّمة وعنده العلم، فلما قصَّ عليه النبيُّ عليه صلى الله عليه وسلم ما كان له من بدايات الوحي الذي نزل عليه به جبرائيل عليه السلام في غار حِراء، فإذا بورقة لما سمع ذلك يقول: ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومُك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هم»؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. رواه البخاري.

 

فتأملوا في هذا التعجُّب الذي بلغ في خاطر رسولنا صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيَّ هم»؟ يتألم ويتفجَّع: لماذا أُخرج؟ وأنا مَن أنا عندهم حبًّا وكرامة، فكان إذ ذاك يُدعَى الأمين والصادق، ثم سيخرجوني من هذه البلدة، مِن حَرَمِ الله وجِوار بيته، مِن بلدة جدي إسماعيل وإبراهيم، يخرجوني مِن هذه البلدة التي بلغ حبُّها في القلب كلَّ مبلغ؟ فهو عليه الصلاة والسلام يَستَغرب أن يكون هذا مآله، وأن تفعل معه قريش ذلك.

 

فتمضي الأيام، ويُشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأذيَّة وهذا العداء من قومه، ما جاء رجل بمثل ما جئتَ به إلى عودي، عاداه قومه وحاربوه ولم يقبلوا منه، حتى جاءت ليلة الهجرة في اللحظات التي يخرج فيها نبيُّنا عليه الصلاة والسلام من مكة، فيقِف على مَشارفها مُلتفتًا إليها وقد بلغَت اللوعة في قلبه كل مبلغ، كيف يُخرج منها؟ فإذا به عليه الصلاة والسلام يخاطب مكة: «والله إني أعلم أنك خيرُ أرضِ الله وأحبُّها إلى الله، ولولا أنِّ أهلَكِ أخرجوني منك ما خرجتُ».

 

وفي رواية أخرى: «ما أطيَبَكِ مِن بلد، وما أحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرَك». رواه الترمذي.

 

هكذا يتحسَّر عليه الصلاة والسلام على بلدته مكة، نعم إنها مكة التي هي أفضل البلاد وأعظمها، ثم أيضًا أمر آخر؛ هي التي درج فيها وتربَّى وهي وطنه الأول، ولذلك فإنَّ حب الوطن الذي عاش فيه الإنسان ودَرَج وتربَّى، وكان عيشه على ترابها، هذا أمر فطري غريزي، وفي هذا يقول العلَّامة الغزالي رحمه الله: البشر يألفون أرضهم على ما بها ولو كانت قفرًا مستوحشًا، وحبُّ الوطن غريزة متأصلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتُقص.

 

هكذا يُغادر نبيُّنا عليه الصلاة والسلام مكة المكرمة التي أحبها، والتي ألِفها، والتي عَلِم عظمتَها عند رب العزة سبحانه.

 

ولذلك استجاب النبي عليه الصلاة والسلام لأذن ربه له بالهجرة من مكة على حبِّه لها، ولكن ما مِن اتباعِ أمرِ الله وما شرعه سبحانه مِن بُدٍّ وإن خالف ما يحبُّه الإنسان ويهواه.

 

وهكذا الصحْب الكرام رضوان الله عنهم يَدْرُجون على مَدْرَج نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، فإنهم الذين اتبعوه من أهل مكة، ولذلك عَظُم عليهم وشقَّ أن يُغادروها.

 

ولذلك كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يتدرَّج معهم في توطيد خبر انتقالهم من مكة، والهجرةِ منها.

 

تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري في صحيحه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إني أُرِيتُ دارَ هجْرتِكم ذاتَ نخلٍ بين لابَتَيْن»، فهاجَرَ مَن هاجَرَ قِبَل المدينة ((بين لابتين))؛ وهما الحَرِّتَانِ المعروفتان بالمدينة.

 

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: فهاجَر مَن هاجر قِبَل المدينة، ورجع بعضُ مَن هاجر قِبَل الحبشة إلى المدينة، وتجهَّز أبو بكر مهاجرًا قِبَل المدينة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:  «على رِسْلِكَ؛ فإني أرجو أنْ يُؤْذَن لي». فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنتَ وأمي؟ قال: «نعم». فحَبَسَ أبو بكر رضي الله عنه نفسَه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه. رواه البخاري.

 

وتقول عائشة رضي الله عنها: لما قَدِم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة قَدِمَها وهي أوبأ أرضِ الله مِن الحمَّى، وكان وادِيها يجري نَجْلًا؛ فأصابه منها بلاء وسُقم، وصَرَفَ الله ذلك عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فُهيرة وبلال في بيتٍ واحدٍ، فأصابتهم الحمَّى، فاستأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم فأذِن، فدخلتُ إليهم أعُودهم، وذلك قبل أن يُضْرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يَعلمه إلا الله مِن شدَّة الوَعك، فدنوتُ مِن أبي بكر فقلتُ: يا أبتِ كيف تجدك؟ فقال:

كلُّ امرئٍ مَصَبَّحٌ في أهلِه *** والموتُ أدنَى مِن شِراكِ نَعلِه

قالت: فقلتُ: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوتُ من عامر بن فهيرة فقلتُ: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:

لقد وجدتُ الموتَ قبْل ذوقه *** إنَّ الجبانَ حتْفُهُ مِن فَوْقِهِ

كلُّ امرئٍ مجاهِدٌ بطَوْقه *** كالثَّور يُحْمَى جِلْدُه بِرَوْقِه

 

قالت: فقلتُ: والله ما يدري عامر ما يقول، قلتُ: وكان بلال إذا أقلعَت عنه الحمَّى اضطجع بفِناء البيت، ثم يَرفَع عَقيرتَه؛ يرفع صوته ويقول:

ألا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلة *** بوادٍ وحولي إذخر وجليلُ

وهل أردَن يومًا مياهَ مجنَّة *** وهل يبدوَنْ لي شامة وطَفيل

يشير إلى المواضع التي ألِفها بمكة.

 

قالت: فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقال: «اللهم حبِّب إلينا المدينة، كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ، وانقُل حمَّاها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مُدِّها وصاعها». رواه البخاري.

 

وكان بلال رضي الله عنه لشدة حزنه على تركه لوطنه، رغم ما حدث معه من تعذيب له فيها، والإيذاء الذي لقِيَه من أهلها، يقول: اللهم العَن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.

 

لقد عَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مدى حبِّ أصحابه لبلدتهم وموطنهم مكة، فكان يسأل الله كثيرًا أن يَرزقه هو وأصحابه حبَّ المدينة حبًا يفوق حبَّهم لمكة؛ لما لها من الفضل في احتضانها للإسلام ودعوته، وحمايتها ونصرتها للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تقول عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحُبِّنا مكة أو أشدَّ». (رواه البخاري).

 

وجاء عن أنس رضي الله عنه؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «اللهمَّ اجعل بالمدينة ضِعْفَيْ ما جعلتَ بمكة من البركة» (رواه البخاري).

 

وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اللهمَّ إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» (رواه مسلم).

 

وقد استجاب الله تعالى دعاء خليله محمد صلى الله عليه وسلم، فعُوفي المسلمون بعدها من تلك الحمَّى، وأصبحَت المدينة موطنًا محبَّبًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل الله تعالى فيها من البركات ما هو مُشاهَد من ذلك الحين.

 

ومَن سكن بالمدينة في القديم وإلى اليوم يَتحدَّث عن بركاتها؛ بركاتها النفسية، وبركات معايشها، وبركات أوقاتها وغير ذلك من أنواع البركات، يَلمَس هذا كلُّ مَن حلَّ بالمدينة، وهذا ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

والمقصود أيها الإخوة المؤمنون: أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تكن أمرًا سهلًا، بل كان أمرًا شاقًّا يُخالِف ما جُبلَت عليه النفوس مِن حُبِّ الأوطان وإلفها، وحب الاستقرار بها حتى لو عانت في ذلك ما تُعانيه.

 

وهذا يوضح أيضًا جانبًا مما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الكرام، مِن تقديم محابِّ الله ومراده على محابِّهم ومراد أنفسهم.

 

وقد كانت هذه الهجرة المباركة الطيبة، التي بقيت آثارها إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها بظهور الإسلام وبقائه إلى آخر هذه الحياة الدنيا، كما قال ربُّنا سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [الصف: 8].

 

ونبيُّنا عليه الصلاة والسلام يَستَحضر أيضًا خَبَرَ الله له، إذ قال عز من قائل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين} [الأنفال: 30].

 

قال العلَّامة ابن عطية الأندلسي رحمه الله: أجمَعَ المفسرون على أن هذه الآية كانت في شأن اجتماع قريش بدار الندوة، لما تداولوا أمرَهم: كيف يصنعون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان من العاقبة الحميدة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهذا النبي الكريم أنه أظهَرَه عليهم، ومَكر بهم.

 

وفي هذا يقول العلَّامة السعدي رحمه الله: قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ يعني: حين تشاوَر المشركون في دار الندوة فيما يصنعون برسول الله صلى الله عليه وسلم، إمَّا أن يُثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه، وإما أن يقتلوه فيستريحوا – بزعمهم - مِن شرِّه، وإما أن يخرجوه ويُجْلوه مِن ديارهم. فكلٌّ قد أبدى من هذه الآراء رأيًا، فاتفق رأيهم على رأيٍ رآه شريرُهم أبو جهل، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتىً، ويعطوه سيفًا صارمًا، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرَّق دمه في القبائل. فيرضى بنو هاشم ثَمَّ بدِيَته، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش، فترصَّدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليُوقعوا به إذا قام من فراشه. فجاء الوحي من السماء، وخرج عليهم، فذرَّ على رؤوسهم التراب وخرج، وأعمى اللَّه بصائرهم عنه، حتى إذا استبطؤوه جاءهم آتٍ وقال: خيَّبكم اللَّه، قد خرج محمد وذَرَّ على رؤوسكم التراب. فنفض كل منهم التراب عن رأسه، ومنع اللهُ رسولَه منهم، وأذن له في الهجرة إلى المدينة، فهاجر إليها، وأيَّده الله بأصحابه المهاجرين والأنصار، ولم يزل أمرُه يعلو حتى دخل مكة عَنْوة، وقهر أهلها، فأذعنوا له وصاروا تحت حُكمه، بعد أن خرج مستخفيًا منهم، خائفًا على نفسه. فسبحان الله اللطيف بعبده الذي لا يُغالبه مُغالب. انتهى كلامه رحمه الله.

 

وهذا يشير إليه قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}  [القصص: 85]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو رجوع رسول الله وعَوْدُه إلى مكة بعد أن أُخرج منها فاتحًا لها ولله الحمد والفضل والمنَّة سبحانه.

 

فهذا أيها الإخوة المؤمنون، شيءٌ مما في غضون هذه السيرة المباركة، فحريٌّ أن نتأملها، وأن نتدبرها، وأن نَدْرُج على مَدْرَج رسولنا عليه الصلاة والسلام؛ لننال الفضل والفوز في الدنيا والآخرة.

 

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

خالد بن عبد الرحمن الشايع

بكلوريوس في الشريعة الإٍسلامية ومن طلبة الشيخ ابن باز رحمه الله

  • 5
  • 0
  • 7,026

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً