مع الحبيب صلى الله عليه وسلم - المخلفون
حتى بلغت محنتهم يومهم الخمسين, فلما ثبتوا على التوبة وضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم , أنزل الله قبول توبتهم وعمت الفرحة سائر أهل الإيمان بزوال الغمة عن إخوانهم.
المخلفون:
كانت غزوة تبوك بمثابة الاختبار الواضح الذي تميزت فيه الصفوف ووضح الإيمان كما وضح النفاق, فالجيش المسلم في عسرة وسيلاقي أكبر قوة في الأرض.
ولم يتخلف من المؤمنين الصادقين إلا ثلاثة دون أي عذر, وأما أهل النفاق فتخلفوا ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم تقدموا بأعذار كاذبة فأوكلهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نياتهم والله الموعد.
أما الثلاثة فصدقوا ولم يكذبوا وقالوها صراحة أنهم لم يكن لهم أعذار, فأخرهم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينزل الوحي ببيان حكمهم, وظلوا أربعين يوماً منبوذين ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم باجتناب الزوجات حتى بلغت محنتهم يومهم الخمسين, فلما ثبتوا على التوبة وضاقت عليهم الأرض وضاقت عليهم أنفسهم , أنزل الله قبول توبتهم وعمت الفرحة سائر أهل الإيمان بزوال الغمة عن إخوانهم.
قال المباركفوري في الرحيق المختوم:
المُخَلَّفون
وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه، امتاز به المؤمنون من غيرهم، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن، حيث يقول: { {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} }[ آل عمران:179]. فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (دعوه، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه)، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا. نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر، وهم الذين أبلاهم اللّه، ثم تاب عليهم.
ولما دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المدينة بدأ بالمسجد، فصلي فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتي من الأعذار، وطفقوا يحلفون له، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه.
وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك، ومُرَارَة بن الربيع، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة، وتغير لهم الناس، حتى تنكرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة، ثم أنزل اللّه توبتهم: { {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} } [التوبة:118].
وفرح المسلمون، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم.
وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم: { {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ} } [التوبة: 91]. وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة: (إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العُذْرُ)، قـالوا: يا رسول اللّه، وهــم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة). أ هـ
#أبو_الهيثم
#مع_الحبيب
أبو الهيثم محمد درويش
دكتوراه المناهج وطرق التدريس في تخصص تكنولوجيا التعليم من كلية التربية بجامعة طنطا بمصر.
- التصنيف: