الإمام الطبري - (12) مكانة الإمام الطبري ومنزلته العلمية
مضى الكلام في ثناء العلماء البالغ عليه في علمه ودينه، وزهده وورعه، ومع هذا فقد كانت له منزلة عظيمة عند أهل الإسلام في وقته وبعده...
مضى الكلام في ثناء العلماء البالغ عليه في علمه ودينه، وزهده وورعه، ومع هذا فقد كانت له منزلة عظيمة عند أهل الإسلام في وقته وبعده، إلى زمننا هذا ونحن بعد ألف ومائة سنة من وفاته، وهذا لَعَمْرُ اللهِ من القَبول الذي يوضع للعبد في الأرض، ودوام ذِكره والترحم عليه؛ فجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبرائيل: إني أحب فلانًا فأَحِبَّه، فيُحبُّه جبرائيلُ، ثم ينادي أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأَحِبُّوه فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضع له القَبول في الأرض»، ومثلُه من يبغضه الله.
ولا إخال الإمامَ ابنَ جرير إلا من هؤلاء المحبوبين، الذين وُضِع لهم القبول في الأرض بين خلق الله.
• فهو في علم القرآن:
الإمام البارع؛ إذ كان حافظًا مجوِّدًا للقرآن، قارئًا له بالروايات، محسنًا لها؛ حيث أحاط بها، واختار لنفسه منها قراءة، وألف فيها كتابًا حافلاً في ثمانية عشر مجلدًا كبارًا، جمع فيها المشهور والشاذ، وعِلل وتوجيه القراءات وأسانيدها.
ومع هذا رُزِق صوتًا نديًّا شجيًّا في قراءة القرآن، كان شيخ المقرئين ببغداد ابن مجاهد يسعى لسماعه، ويقول: لا أظن أن أحدًا أوتي مثل صوته، أو أن الله خلق بشرًا يُحسِن هذه القراءة.
وسبق قول الخطيب البغدادي فيه: أنه جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره؛ فكان حافظًا للقرآن، عارفًا بالقراءات، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام القرآن.
• وفي التفسير:
تبوَّأ الإمام الطبري أعلى مكانةٍ؛ حتى نُعِت بإمام المفسرين، وأصبح تفسيره أوفر كتب التفسير المطبوعة وأشملها، بل وأضخمها، قال فيه الخطيب: له كتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله.
وهو التفسير الذي قال فيه أبو حامد أحمد الإسفراييني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصِّل تفسير محمد بن جرير، لم يكن كثيرًا.
ولما قرأ الإمام أبو بكر بن خزيمة - قرين الطبري - تفسيره كله، قال: إني لا أعلم على أديم الأرض أحدًا أعلم منه.
وأنت إذا نظرت في تفسيره، وجدت أقوال السلف من الصحابة والتابعين موثَّقةً بالإسناد، وتجد تفسيرَ الآية بنظيراتها من آيات القرآن، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسنَدِ منه سندًا، كما تجد فيه حكايات الإجماع عن العلماء من أهل عصره ومن سبقوه في الأحكام الفقهية وغيرها، وتفسيره للآيات اعتمادًا على لغة العرب من خلال شعرها ونثرها، مع العناية بالنواحي النحوية وخلاف النحاة في الإعراب، خصوصًا أهل الكوفة والبصرة، وهو في المباحث الكلامية والأدلة العقلية صاحب الحجة الباهرة، فهو إذا وجد مناسبة لهذا البحث، تطرق إليه، ورد على مُنتَحِلي الكلام من بضاعتهم.
فهو في الجملة كتاب حافل لا يستغني عنه طالب علم في فهم كتاب الله سبحانه وتعالى، فلا تعجب من عِظَمِ ثناء الأئمة عليه.
بل إن ابن جرير الطبري عُرِف أكثر ما عرف بهذا الفن - وهو التفسير - فلا تطرأ كلمة (التفسير) إلا ويرتفع في الذهن إمامه الطبري، وكتابُه التفسير، ولا تذكر كلمة (الطبري) إلا ويقال: صاحب التفسير.
وكان قد أملى هذا التفسير في مدة سبع سنين من (283 - 290هـ)، وقد استخار قبله في عمله ثلاث سنين.
هذا، وقد كان الطبري قد استشار تلاميذه في التفسير، فقال: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا ما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره إلى نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولو أملاه كما قدَّره أولاً، لكان تفسيره - والحال هذه - عشرة أضعاف التفسير الموجود في ثلاثمائة جزء.
تلك مكانته العلمية في هذا الفن المهم.
• أما في الحديث:
فهو المحدِّث الحافظ الثَّبَتُ، الذي أدرك كبار الحُفَّاظ ذوي الأسانيد العالية، فسمع في أول طلبه من كبار الأئمة، الذين أدركهم قبل وفاتهم؛ كعمران بن موسى الليثي (240هـ)، وأحمد بن منيع (244هـ)، والوليد بن شجاع (243هـ)، وهنَّاد بن السري (243هـ)، وطبقتهم، وأكثَرَ عنهم حتى بلغت مسموعاته من الإمام الحافظ محمد بن حميد الرازي (248هـ) نحو مائة ألف حديث، إن لم تزد، ونحوها عن أبي كريب محمد بن العلاء الهَمْداني.
وقد مرَّ وصف الخطيب البغدادي - وهو من هو في الحديث؛ إذ الناس عيال في الحديث عليه - للإمام ابن جرير في هذا الفن وعلومه بما يغني عن تَكْرَاره.
وتفسيره رحمه الله على طريقته في تلقي الحديث، وأداؤه أكثره بالرواية بالإسناد، وكذا المطولات من تواليفه، وأبرزها كتابه: "تهذيب الآثار"، الذي أبهر العلماء تصنيفُه ومنوالُه، ونسجُه ومثالُه، لكنه لم يتمه.
وصفه أبو حامد الفرغاني في ترجمته له: (بأنه ابتدأ تصنيف كتاب "تهذيب الآثار" وهو من عجائب كتبه، ابتدأ بما رواه الصديق - رضي الله عنه - كما صح عنده بسنده، وتكلم على كل حديث بعلله وطرقه، وما فيه من الفقه والسنن، واختلاف العلماء وحججهم، وما فيه من المعاني والغريب، فتم منه مسند العشرة، وأهل البيت والموالي، ومن مسند ابن عباس جزء، ومات قبل تمامه).
وهو كتاب على طريقة المسانيد في ترتيبه وعرضه، لكن منهجه يخالفها في التميز والاستطرادات الفقهية والعلل والأحكام... ولذا قال فيه ياقوت الحموي في معجمه: "... وهو كتاب يتعذر على العلماء عملُ مثله، ويصعب عليهم تتمتُه".
ولذا لم يذكر أن أحدًا حاول السير على منواله وإكماله؛ بل قال القفطيُّ: إنه أعيا العلماءَ إتمامُه.
ومدح هذا الكتاب - الدال على علو منزلته في هذا الفن عند أهله - الحافظُ ابن كثير في الطبقات، وأثنى عليه جدًّا فقال: "... وصنف المصنفات النافعة في الأصول والفروع، ومن أحسن ذلك "تهذيب الآثار"، ولو كَمَل لما احتيج معه إلى شيء، ولكان فيه الكفاية، لكنه لم يتمَّه".
ولو لم يكن مما يدل على سمو مكانته عند أهل الحديث إلا هذا الكتاب، لكفاه فخرًا وشرفًا! كيف وله كتاب "المسند المجرد" انتخب فيه ما رواه عن شيوخه على نحو طريقة المعاجم؟
- التصنيف:
- المصدر: