التعامل مع الواقع بين اعتزاله والغلو فيه
من نظر إلى العالَم اليوم ومشكلاته ووقوع التنافر بين أبناء البلد الواحد وصراعاته، سيجد جُلَّها من وراء تلك الأكاذيب، ولو أنهم رَدُّوا ذلك إلى ما أمر الله ورسوله به من التبيُّن والتثبُّت، لسُدَّت أبواب شرٍّ كثيرة، ولكان خيرًا لهم وأقوَم.
ارتضى الله تعالى لهذه الأمة دينًا يَصونها ويَحفظها مِن الانزلاق في هوَّة الشائعات، ونشر الفوضى، وتناول الأخبار والنقولات دون تثبُّت أو توثيق، وكذلك صيانتها من الغلوِّ في الاستسلام للعواطف دون لاجمٍ من دين أو عقل.
مِن محاسن الإسلام صيانته للمجتمع المسلم من الانزلاق في هوَّة الشائعات، ونشر الفوضى، وتناول الأخبار والنقولات دون توثيق، وكذلك صيانته من الغلوِّ في الاستسلام للعواطف دون لاجمٍ مِن قُرآن أو سنَّة، وصيانته كذلك بالتحذير من اعتزال أحوال المسلمين وهمومهم برُمَّتها، أو انفلات الحَماسة دون عقال مِن عقْل أو دين، كل ذلك عُدَّ حفظًا للدِّين والأعراض، وحفظًا للأمة مِن الضعف وتَسرُّب الوهن إلى أفرادها؛ فإن هذه الآفات تُوهن الأمَّةَ، وتُضعف العلاقات، وتُوغر الصدور، وقد جاءت معالجة هذه القضيَّة في الإسلام وفق قواعد شرعيَّة واضحة، ولا شكَّ أن أصحاب هذه المهمَّة المعنيين بهذا الدَّور هم أهل العلم والغيرة على هذا الدِّين، وكلُّ مَن نحا نحوهم.
ولو أُفرد لكلِّ آفة مِن هذه الآفات حديث، لطال المقام جدًّا، ولكن حسبنا مِن ذلك المرور بما يُناسب المختصر.
أما الخَوض في الشائعات، فهو محرَّم بأصل الشرع، فقد أخرج مُسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كَذبًا أن يُحدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ» [1]، وقد ألزم الشرعُ المسلمَ التؤدة وعدم العجلة في نقل الأخبار، وجعل ذلك أمرًا مفروضًا، وجعل الله تعالى إذاعة الشائعات صفةً مِن صفات المنافقين، فقال جل شأنه في كتابه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فالتسابق إلى نقل الأخبار السيئة وإشاعتها ليس مِن صفة المؤمنين، بل وصَفَهم الله تعالى بالفسق، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، والتبيُّن هنا في حق مَن يَعنيه الأمر، فليس على المجتمع أن يَنشغِل في البحث والتحقُّق والتبيُّن مِن كلِّ مسألة وخبر.
وتكفي نظرة على صفحات ووسائل التواصل الاجتماعي، ليُدرك المنصف أن ثَمة خللًا كبيرًا في تناول الأخبار المظنونة، وتلقي الأنباء مجهولة المصدر، فلا تثبُّت تراه عند القوم ولا تؤدة، بل تجد تبادُلَ النقولات من المكتوب والمصوَّر والمرئي دون توثيق أو تثبُّت.
فيتكلَّم الإنسان بكل قول سمعَه، يتلقَّاه لسانه قبل أن تتلقاه أذنُه، وقبل أن يَعرضه على قلبه، حتى يعلم هل هو صحيح أم باطل؟ ومما يَزيد الأمرَ دهشةً أن مِن هؤلاء من يعلم تمام العلم أن كثيرًا من هذه المنشورات مزيَّفة وملفَّقة وخدَّاعة، لا سيما وقد أصبح التلاعُب بالصور والمرئيات أمرًا سهلًا ميسورًا بما يُوهم أنه حقيقة، وما هو إلا أكاذيب محضَة، وسرابٌ بِقِيعة يَحسبُه الظمآن ماءً، والواقع يَشهد بذلك.
ومن نظر إلى العالَم اليوم ومشكلاته ووقوع التنافر بين أبناء البلد الواحد وصراعاته، سيجد جُلَّها من وراء تلك الأكاذيب، ولو أنهم رَدُّوا ذلك إلى ما أمر الله ورسوله به من التبيُّن والتثبُّت، لسُدَّت أبواب شرٍّ كثيرة، ولكان خيرًا لهم وأقوَم.
بل إنَّ الانزلاق وراء تلك الشائعات يُفضي ولا بدَّ إلى التَّجسُّس وتتبُّع العورات، والتجسُّسُ هو: البحثُ عن عيوبِ المسلمين وعَورتهم؛ قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا}، فقد رُوي عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم، أو كدتَ أن تُفسدَهم» [2].
ولو كان ذلك في أعراض أهل العلم، لكان أشدَّ إثمًا وأعظم بهتانًا؛ إذ لُحومهم مسمومة، وسنة الله في منتقصِهم معلومة، فعلى أولئك الذين يتتبَّعون الشائعات والمثالب، ويَبحثون عن الأخطاء والمَعايب، أن يتَّقوا الله، ويَعلموا أن الله بكلِّ شيء محيط.
••
أما عن اعتِزال أمور المسلمين، والتنكُّر لآمالهم وآلامِهم وهُمومهم، وكأنَّ القوم لا يَعنيهم الأمر، فهو في الحقيقة نقْصٌ عندهم في التربية، وخللٌ في انتمائهم لأمتهم.
"فلا تَجد في تصرُّفاتهم وأفعالهم عنايةً بهذا الشأن العام، فلا هم يَهتمون بآمالهم، ولا يتألمون لآلامِهم، ولا يذكرون ما هم فيه مِن المشكلات والأزمات، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأثر عندما يبلغه ضرر يَصلُ إلى مسلم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم لما جاءت الدافَّة إلى المدينة جعل يَدخُل ويَخرُج وقد احمرت وجنتاه واغرورقت عيناه، ثم صعد المنبر فقال: «تصدَّق امرؤ مِن درهمه، مِن ديناره، مِن صاع بُرِّه، مِن صاع تَمره»، حتى جمع لأولئك الدافَّة مالًا عظيمًا فقسمه بينهم، فكان صلى الله عليه وسلم يهتمُّ بأمر الضعَفة والمُستضعَفين من المسلمين[3].
وهذا فيه تركٌ صريح للهدْي النبويِّ؛ فعن عثمان رضي الله عنه قال: "إنَّا والله قد صَحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضَر، يَعودُ مرضانا، ويتْبَع جنائزنا، ويَغزو معنا، ويُواسينا بالقليل والكثير"[4].
"بل ربما يَفتخر البعض من طلاب العلم بأنهم يَجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جدَّ في هذه الحياة من أمور...، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقِّق لعلمه يَحرص على أن يَنزِل بعلمه في واقع الحياة"[5].
والشاهد من ذلك أن العالِم والمُفتي والداعية، ومَن نحا نحوهم، واقتفى أثرَهم - لن يستقيم لهم هذا الدور العظيم حتى يَكون لهم نصيب من معرفة أحوال الناس وطباعهم وتأثُّرهم بتغيُّرات الواقع.
يقول ابن القيم رحمه الله: "[معرفة الناس] وأما قوله: "الخامسة: معرفة الناس"، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المُفتي والحاكم؛ فإن لم يكن فقيهًا فيه، فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبِّق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يُفسد أكثر مما يُصلح؛ فإنه إذا لم يكن فقيهًا في الأمر له معرفة بالناس، تصوَّرَ له الظالمُ بصورة المظلوم وعكسه، والمُحقُّ بصورة المبطل وعكسه، وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصوَّرَ له الزنديق في صورة الصدِّيق، والكاذبُ في صُورة الصادق، ولبس كل مُبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يُميِّز هذا من هذا، بل يَنبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة مكر الناس وخِداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعُرفياتهم؛ فإن الفتوى تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله كما تقدَّم بيانه، وبالله التوفيق"[6].
وقال رحمه الله في مَوضِع آخر:
ولا يتمكَّن المُفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهْم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يُحيط به علمًا.
إنَّ تحكُّم العاطفة في النفس مع انفلات الحماس من ضوابط العقل، يُلحق الضررَ بالمرء ويُورده المهالك وإن كان على قدرٍ عظيم مِن العلم؛ فإنَّ العقل إن لم يَحكُم بالشرع أدَّى إلى انحراف وضلال، فمِن وسائل الثبات وأمْن الزلل عدمُ الحماس الزائد.
وهذا لا يَعني قتل العاطفة في النفس، فهي شيء فطريٌّ لا يُمكن الانفكاك عنه، ولكن ليس من الحكمة أن نغيِّب عقولنا ونَنساق باندفاع وطيش وراء عواطفنا، سواء في قرار أو ردة فعل؛ فإن نبْل المقصد وطِيب النية لا يُعفي من خطايا الوسيلة، وما تغييرُ المُنكَر رهن الاندفاع والعاطفة فحسب، بل يجب أن يحتكم إلى ضوابط الشرع والعقل.
"القطاع الكبير مِن المسلمين يَغيب عنه الوعي الديني الكامل، وتَغلب عليه العاطفة التي ينبغي أن تكون مُرتبطة بالكتاب والسنَّة، فأي عاطفة لا تَنضبط بالكتاب والسنة هي وبالٌ على الشخص وعلى الأمة؛ فمِن حق المسلم أن يغضَبَ عندما يُساءُ للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أي موضوع ينال ثوابت الإسلام، لكن بدون الاندفاع لهوى عاطفته.
وعلى أهل العلم والفضل أن يحدِّدوا طرق إحكام العقل، وضبط العاطفة، وسبل الرد على الاستفزازات ردًّا عمليًّا عن كيفية التزام المسلم بأخلاقيات دينه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى الإنسان المسلم أيضًا ألا يتصرَّف إلا بناءً على فهم ووعي لواقع الدين، ولا أتحرَّك بعاطفتي كـ"الدابة التي قتلتْ صاحبَها"، وأن يعلم المُسلم أن أيَّ فعل أو رد فعل بدون وعْي أو انضباط لا يردُّ حقًّا، ولا يمنع ظلمًا وعدوانًا؛ إنما يكون له آثار سلبية أكبر، وعلى الإنسان قبل أن يتصرَّف في أمر عام مُراجعةُ العلماء لضبط ميزان العاطفة والعقل.
يُعتبَر التعميم أخطر آفة وعيب مِن عيوب التفكير، وللأسف فالتعميم ناتج عن أسلوب التعليم الذي يَعتمد على التلقين والحفظ، بجانب أسلوب التربية الذي يَعتمد على عدم المناقشة والجدل"[7].
[1] رواه مسلم (1 / 10) في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأبو داود رقم: (4992) في الأدب، باب في التشديد في الكذب.
[2] رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2342).
[3] من خطبة للشيخ الددو بتصرُّف.
[4] أخرجه أحمد (1 / 69، رقم: 504)، والبزار (2 / 59، رقم: 401)، مجمع الزوائد للهيثمي (7 / 228).
[5] من دروس الشيخ سلمان العودة.
[6] إعلام الموقعين (4 / 157).
[7] جزء مِن مقال بمجلة الوعي الإسلامي.
___________________________________________
كتبه: شتا محمد
- التصنيف:
- المصدر: