محنة الخوارج
لـمَّا مات عثمان بن عفـان رضي الله عنه، بويع علي بن أبي طـالب رضي الله عنـه بالخلافـة وكـان أحـق الناس بها، وأفضل من بقي، لكن القلوب نحوه كانت متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة..
لـمَّا مات عثمان بن عفـان رضي الله عنه، بويع علي بن أبي طـالب رضي الله عنـه بالخلافـة وكـان أحـق الناس بها، وأفضل من بقي، لكن القلوب نحوه كانت متفرقة، ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة، ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدونه من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقوام، وكان ما كان»[1].
فوقعت الفتنة واقتتل المسلمون بصفِّين ومرقت المارقة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق»[2]. وكان مروقها لما حكم الحكمان وافترق الناس على غير اتفاق[3].
وذلك لما رجع علي بن أبي طالب ومن معه من المسلمين من صفين وقرأ الأشعث بن قيس الكتاب، فقام إليه عروة بن أذينة فقال أتحكِّمون في دين الله الرجال؟ فكان هو أول من حكم، ثمَّ ضرب بسيفه عجز دابة الأشعث بن قيس، فغضب الأشعس، وجاء الأحنف بن قيس وجماعة من رؤسائهم يعتذرون إلى الأشعث بن قيس من ذلك. ولـمَّا دخل علـيٌّ رضي الله عنه الكوفـة سمع رجلاً يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء. فقال علي: لَلَّذين فارقناهم خير من هؤلاء وأنشأ يقول:
أخوك الذي إن أحرجتك ملمةٌ
من الدهر لم يبرح لبثك راحماً
وليس أخوك بالذي إن تشعبت
عليك أمورٌ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِماً
ثمَّ مضى فجعل يذكر الله حتى دخل قصر الإمارة، ولـمَّا قارب دخـول الكـوفة اعتـزل من جيشه قريب من اثني عشر ألفاً، سموا بالخوارج، وأَبوا أن يساكنوه في بلده، فنزلوا بمكان يقال له حروراء، وعتبوا عليه أشياء منها أنه انسلخ من قميص كساه الله إياه، واسم سماه الله به، وحكَّم في دين الله الرجال، ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ عليّاً ما عتبوا عليه وفارقوه عليه أمر فأذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجلٌ قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس، دعا بمصحف إمام عظيم، فوضعه بين يديه، فجعل يصكه بيده ويقول أيها المصحف حدث الناس، فناداه الناس فقالوا يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] فأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل. ونقموا عليَّ أن كاتبت معاوية، كتبت: علي بن أبي طالـب، وقـد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: لا اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» قال كيف تكتب؟ قال أكتب: باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اكتب»، فكتب، فقال اكتب: «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» فقال: «لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك» فكتب: «هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً» يقول الله تعالى في كتابه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب: 12]. فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطت عسكرهم، فقام ابن الكوا فخطب الناس، فقال يا حملة القرآن! هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكـن يعرفه فأنا أعرفـه ممن يخاصم في كتاب الله بما لا يعرفه. هذا ممن نزل فيه وفي قومه {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] فردوه إلى صاحبه، ولا تواضعوه كتاب الله. قال بعضهم: والله لنواضعنه، فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه، وإن جاء بباطل لنبكتنه بباطله فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب فيهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على علي الكوفة، فبعث علي إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر النَّاس ما قد رأيتم فقفوا حيث شئتم، حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيننا وبينكم: أن نقيكم رماحنا ما لم تقطعوا سبيلاً أو تطيلوا دماً، أو تظلموا ذمةً، فإنَّكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء[4] {إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].
قتل عبد الله بن خباب:
ثم إن الخوارج استعر أمرهم، وبدؤوا بسفك الدماء وأخذوا الأموال، وقتلوا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجدوه سائراً بامرأته على حمار فانتهروه وأفزعوه، ثم قالوا له: ما أنت؟ فأخبرهم.
قالوا: حدثنا عن أبيك الخباب حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفعنا به، فقال: حدثني أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « «ستكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح كافراً ويمسي مؤمناً». قالوا: لهذا سألناك. فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. فقالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها. قال: إنه كان محقّاً في أولها وآخرها؟ قالوا: فما تقول في عليٍّ قبل التحكيم وبعده؟ قال أقول: إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها[5]، والله! لنقتلنك قِتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامراته وهي حبلى متم، فنزلوا تحت نخل مثمر، فسقط منه رطبة، فأخذها أحد فلاكها في فيه، فقال له آخر: أخذتها بغير حلها، وبغير ثمن! فألقاها. ثم مر بهم خنزير، فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير وهو من أهل الذمة، فأرضاه.
فلما رأى ذلك ابن خبَّاب قال: لئن كنتم صادقين في ما أرى فما عليَّ بأس، إني لمسلم ما أحدثت في الإسلام حدثاً، ولقد أمَّنتموني. فأضجعوه وذبحوه، وأقبلوا إلى امرأته. فقالت: أنا امرأة ألا تتقون الله، فبقروا بطنها. وقتلوا أمَّ سنان الصيداوية وثلاثاً من النساء»[6].
وبلغ عليّاً رضي الله عنه نبأ قتلهم عبد الله بن خباب وقتلهم الكثير من الأطفال والنساء، وقد كان رضي الله عنه متأهباً للعودة إلى صفين لمقاتلة أهل الشام، فرأى أن العودة لمقاتلة هؤلاء المفسدين أولى[7].
ثم بعث إليهم أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم، وأعلمهم أنَّهم إن فعلوا ذلك فهو تاركهم وذاهب إلى أهل الشام، فما كان منهم إلا أن أرسلوا إلى عليٍّ رضي الله عنه يقولون له: كلنا قتل إخوانكم، ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم، وهذا بمثابة إعلان حرب على علي رضي الله عنه وجيشه، فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة ناصحاً، فوعظهم وبالغ في وعظه، فلم ينفع، وكذلك أبو أيوب الأنصـاري، فأنَّبهـم ووبخهـم فلم ينجع، ثم تقدم إليهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوعظهم وخوفهم وحذَّرهم وأنذرهم وتوعدهم، وقال إنكم أنكرتم عليَّ أمراً أنتم دعوتموني إليه فنهيتكم عنه، فلم تقبلوا وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه، ولا ترتكبوا محارم الله، فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمراً تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيماً عند الله؛ فكيف بدماء المسلمين؟ فما كان جوابهم إلا أن تنادوا في ما بينهم لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيؤوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة، فاصطفوا للقتال، وتأهبوا لِلنِّزَالِ فجعلوا على ميمنتهم زيد بن الطائي السِّنبِسِي وعلى الميسرة شُريح بن أوفى وعلى خيالتهم حمزة بن سنان وعلى الرَّجَّالَةِ حُرْقُوصَ بن زهير السعدي، وجعل عليٌّ على ميمنته حُجْرَ بْنَ عدي وعلى الميسرة شبيب بن ربعي وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري وعلى الرَّجَّالَةِ أبا قتادة الأنصاري وعلى أهل المدينة قيس بن سعد بن عبادة، وأمر عليٌّ أبا أيوب الأنصـاري أن يرفع رايـة أمان للخوارج، ويقول لهم من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو آمن؛ إنَّه لا حاجة لنا فيكم إلا في من قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرة وكانوا في أربعة آلاف، فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله بن وهب الراسبي فزحفوا إلى عليٍّ فقدم عليٌّ بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصفَّ الرَّجَّالَةَ وراء الْخَيَّالَةِ، وقال لأصحابه كُفُّوا عنهم حتى يبدؤوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة ، فحملوا على الخيالة الذين قدمهم عليٌّ ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة فاستقبلهم الرماة بِالنَّبْلِ فرموا وجوههم وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج، فصاروا صرعى تحت سنابك[8] الخيول، وقُتِل أمراؤهم عبدُ الله بن وهب وحرقوصُ بن زهير وشريحُ بن أوفى وعبدُ الله بن سخبرة السلمي، عليهم من الله ما يستحقوا.
ولم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى ويقول بؤساً لكم! لقد ضركم من غركم. فقالوا يا أمير المؤمنين! ومن غرهم. فيقول: الشيطان، وأنْفُسٌ بالسوء أمَّارة غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنَّهم ظاهرون ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم واقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم[9].
ومع هذا لم يسبِ لهم ذرية ولا غَِنم لهم مالاً ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين، ولـمَّا سئل عنهم، أمشركون هم؟ قال من الشرك فروا. قيل أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. فقيل فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا[10].
هؤلاء هم الخوارج كانوا ينظرون إلى علي رضي الله عنه وأئمة المسلمين حوله بأنهم هم الخوارج، وقد رأينا كيف أنصفهم علي رضي الله عنه من نفسه، فوقف على حدود العدل وزانهم بميزان الشرع، وصرح بأنَّهم مؤمنون رغم ظلمهم وغدرهم وبغيهم الذي جاوز الحدود، فلله الأمر.
[1] عقيدة التوحيد وبيان ما يضادها من الشرك الأكبر والأصغر والتعطيل والبدع وغير ذلك لصالح الفوزان، ص 168- 169، الطبعة الأولى 1434هـ - 2013م، مكتبة دار المنهاج ــ الرياض.
[2] أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الذكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، ح1064.
[3] منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية لابن تيمية، 1/ 160.
[4] البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 311.
وانظر: المستدرك للحاكم، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، كتاب: قتال أهل البغي وهو آخر الجهاد، 2/ 165 / 2657.
[5] منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع لسليمان بن سحمان العسيري، ص 57 - 58.
[6] منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع ، ص 58.
[7] عقيدة أهل السنة والجماعة لناصر بن علي عائض حسن الشيخ ، 3 / 1145.
[8] السنبك طرف الحافر وجانباه وجمعه سنابك، لسان العرب، 10/ 444، مادة: (سنبك)
[9] البداية والنهاية، 7 / 319 -320.
[10] البداية والنهاية، 7 / 321.
______________________________________
د. حمدي طنطاوي محمد
- التصنيف:
- المصدر: