لست أنت أيها الرئيس!
الرئيس الفرنسي أن يلعبَ دوراً كبيراً وأن يجعل من نفسه زعيماً تاريخياً، لكن الإشكالية أنه لا يمتلك من مقومات الكاريزما السياسية إلا تلك التي تجعله تحت دائرة الضوء كمنادٍ على بضاعة بالية لا تجد من يشتريها، أو اسما منبوذاً فوق لوحة أحد المتظاهرين يدعو لإسقاطه...
الرئيس الفرنسي أن يلعبَ دوراً كبيراً وأن يجعل من نفسه زعيماً تاريخياً، لكن الإشكالية أنه لا يمتلك من مقومات الكاريزما السياسية إلا تلك التي تجعله تحت دائرة الضوء كمنادٍ على بضاعة بالية لا تجد من يشتريها، أو اسما منبوذاً فوق لوحة أحد المتظاهرين يدعو لإسقاطه... ماكرون الذي ينتمي للقارة العجوز المأزومة بمشكالها، وتعاني من تراجع دورها السياسي على الساحة الدولية أمام تعاظم الدور الروسي حيث أضحت القواعد العسكرية البحرية على مرمى حجر من أوروبا، وتدخلاتها في الشرق الأوسط باتت أعظم أثراً من أوروبا مجتعمةً.
وهو الذي تئن بلاده تحت وطأة مظاهرات (السُّتر الصفراء)، ويتمتع بحالة من الرفض الشعبي لم تشهد لها فرنسا مثيلاً منذ عقود. رئيس تشير استطلاعات الرأي إلى أن شعبيته تتدهور بشكل شديد بين كل قِطاعات الشعب الفرنسي، في مكانة لم يصل إليها من بين رؤساء فرنسا السابقين إلا القليل، هذا الرئيس يحاول أن يخرجَ من حالة الضعف التي تحياها أوروبا، وحالة الانكسار الذي يشهدها داخل بلاده، وأن يجعل من نفسه (أورباناً)[1] جديداً، واصفاً الإسلام بأنه دين يعيش أزمة، وأن المسلمين إرهابيون! وهو بذلك يكاد يعيد العبارة بحروفها، سائراً على خطى سلفه (البابا أوربان الثاني) الذي وصف المسلمين في خطبته الشهيرة للتحريض على الحرب عليهم مدشناً أولى الحملات الصليبية على بلاد المسلمين بأنهم «جنس لعين أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين في الشرق»، هذا الأوربان القديم كانت تحوط بعقله خطط الهيمنة وتأسر نفسه مكنونات الحقد والحسد على خيرات بلاد المسلمين فكان يحمِّس جماهير المغفلين ليأخذوا ما بأيدي المسلمين من خيرات قائلاً: «هذه الأرض التي تسكنونها الآن والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال ضيقة لا تتسع لسكانها الكثيرين تكاد تعجز عن أن تجود بما يكفيكم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية، إن أورشليم [يقصد القدس] أرض لا نظير لها في ثمارها، هي فردوس المباهج، إن المدينة العظمى القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبُّوا لإنقادها».
وهكذا سارت فرنسا على نهج سلفها القديم تقضم من مقدرات الشعوب التي تحتلها ما تستطيع، إنها دولة مصاصي الدماء التي تعيش على دماء الشعوب الفقيرة... هذا ليس تحليلاً مفرطاً في نظرية المؤامرة، بل هي تصريحات رؤساء فرنسا السابقين؛ ففي مارس عام 2008م صرَّح الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قائلاً: «دون إفريقيا، فرنسا ستنزلق إلى مرتبة دول العالم الثالث»، وقد سبقه فرانسوا ميتيران حيث قال عام 1957م: «دون إفريقيا، فرنسا لن تملك أي تاريخ في القرن الواحد والعشرين»[2]. إنها البلاد التي لا نظير لها في ثمارها، بلاد المباهج... ما زال أوربان ينفث سمه في عقول النخب الفرنسية حقداً على الإسلام، وحسداً على الخيرات. لقد قالها الإمبريالي الفرنسي جاليس فيري قديماً 1884م: إن فرنسا مهمتها نشر الحضارة في إفريقيا، وإن الأعراق السامية لها الحق في السيطرة على السياقات الدنيا من الشعوب.
بدأت شبكات (فرانس أفريك) - أو قل: شبكات السرقة الدولية - عملها مع تأسيس الجمهورية الخامسة في فرنسا، ووصول (شارل ديغول) إلى السلطة عام 1958م؛ إذ منح ديغول اتفاقاً لـ 14 مستعمرة فرنسية سابقة في إفريقيا تحصل بموجبها على استقلالها خلال عامين مقابل اتفاق أمني مع فرنسا، اتضح فيما بعد أنه يشمل بنوداً غير معلنة، توضع بموجبها نسبة 85% من مدخولات هذه الدول تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي، مقابلاً للبنية التحتية التي ادعى الاستعمار تشييدها. وقد جلبت فرنسا إلى خزائنها بموجب هذا الاتفاق قرابة 500 مليار دولار عاماً بعد الآخر.
أعطى الاتفاق فرنسا أيضاً الحقوق الحصرية في الحصول على أي مواد خام يتم اكتشافها في أراضي مستعمراتها السابقة، كما منح الشركات الفرنسية أولوية في أي أنشطة اقتصادية في هذه البلاد، في حين احتكرت باريس وحدها عقود التدريب العسكري وحقوق الأنشطة الأمنية في هذه البلدان التي أجبرت - بموجب الاتفاق نفسه - على التحالف مع فرنسا في حال خوضها لأي حرب.
تم الكشف عن هذه الشروط وغيرها في منتصف التسعينيات من القرن الماضي إثر الفضيحة الشهيرة التي عُرِفَت آنذاك باسم قضية (ألف)، نسبة إلى شركة البترول الوطنية الفرنسية (ألف آكتين) المعروفة بـ (توتال) حالياً.
واليوم يحل أوربان الجديد فاتحاً على لبنان يتجول في الشوارع ويلتقي بالناس، ويعقد لقاءات مع السياسيين والأحزاب ويطرح الحلول ويضع الأطر لشكل الحكومة وكيف تدار، وفي الملف الليبي حل أوربان الجديد بجنده ومساعداته العسكرية لحفتر طمعاً في مباهج تلك الأرض التي تفيض بالنفط، وينزل ضيفاً ثقيلاً على الجزائريين وينعـم عليهم بجماجم أجدادهم المقاومين. وتحصد طائراته آلاف القتلى من المسلمين في مالي.
فرنسا التي تعيش على نهج أوربان «يد تأخذ الخيرات وأخرى تسعى لتغيير الهوية»، يحاول رئيسها اليوم إعادة أمجاد ذلك النهج القديم، وينعش اقتصاد بلاده بمزيد من النهب والسرقة، ويعظِّم من دوره السياسي بتصريحاته العنترية، لكن التاريخ والوقائع تخبرك - أيها الرئيس - أنه لست أنت، ولسنا نحن، فأنت ضعيف مأزوم داخلياً وخارجياً، ولسنا نحن وإن كان تشردت شعوبنا في أصقاع الأرض، أو سكتت الجماهير في بلادنا فإنه ليس عن استكانة ورضاً، لكن المقيد وإن أحاط به جلادوه يستجمع قواه للحظة يفك فيها نفسه، وينتقم من جلاديه، وقديماً قال الشاعر:
أرى تحتَ الرمادِ وميضَ جمرٍ
ويوشكُ أن يكونَ له ضِرامُ
فإنْ لَم يطفِها عقلاءُ قومٍ
يكون وقودُها جثثٌ وهامُ
وأخيراً: شكراً أيها الرئيس أنك ألحقت بركب العقلاء غافلين، وكشفت غطاء حقدك الدفين، وشدة الظلمة تنبئك عن اقتراب الفجر.
[1] البابا أوربانوس الثاني (1042هـ/ 29 يوليو 1099م)، وهو فرنسي انتخب لمنصب البابوية في روما عام 1088م، وهو الرجل صاحب الحملة الصلبية الأولى في التاريخ. له خطبة مشهورة دعا فيها الأوروبيين للتوحد واحتلال الشرق لتطهيره من المسلمين واسترجاع المقدسات المسيحية.
[2] (فرانس أفريك)... كيف تنهب فرنسا خيرات إفريقيا منذ أكثر من نصف قرن؟
_____________________________________________
بقلم/ أحمد عمرو
- التصنيف:
- المصدر: