العبث بالفرص
وسيظل العناد، كما الغرور، صخرةً تتحطَّم عليها مشروعات قائمة، وآمال وطموحات، وسيظل العناد، كما الغرور، سببًا من أسباب الشقاء، على المستوى الفردي والأسري، وأبعد من ذلك من المستويات، والسعيد منَّا من لم يتَّصف بالعناد، ومن لا يلقي له بالًا كثيرًا
يا ما جنى العنادُ على الناس! ويا ما تصدَّعَت بيوت، بعد أنْ قطعت شوطًا بعيدًا في البناء، كان ثمرتها بنين وبنات! لكن يحصل موقف تعانَدَ عليه الطرفان، فكان الفراق، ويا ما فَقد شخص فرصةً ذهبية، سنحت له في عمله، أو في تجارته، فعاند فيها، فودَّعته الفرصة، غير آسفة على وداعه! والفُرَص لا تتكرَّر.
أعرف زميلًا كان - ولا يزال - طاقةً فاعلة، كان موهوبًا، وكان من الممكن أنْ يتسلَّم مواقعَ مهمَّةً علميًّا، ثم إداريًّا، تعاند في بداية مشواره العلمي والعملي مع رئيسه المباشر، وركب رأسَه، ووضع نفسَه في صفِّ رئيسه، بل ربَّما أنَّه رأى في نفسه أكثر من رئيسه، فأعطى ذاته مكانةً أكثر مما هو واقعها، وكانت نتيجتها أن انتقل من هذه المنشأة العلميَّة إلى منشأة إدارية فنية، بعد أنْ تبيَّن ألَّا مقام له فيها، ففقد فرصةَ الترقِّي العلمي، الذي قلَّ أنْ يناله إلَّا الموهوبون.
لكنَّ زميلي هذا كانت له وجهة نظر أخرى، أطاحت به من هذا المجال العِلمي، فذهب يبحث عن مَجال آخر، وكأنه يمنُّ على تلك المؤسسة العلميَّة الفرعية، بما لديه من طاقاتٍ علمية وثقافية وفكرية، وكان - ولا يزال - لديه طاقات علميَّة وثقافية وفكرية، صاحبي هذا الذي ألمتُ له كثيرًا، وألمت لموقفه، وكأنَّه يتمثَّل قولَ الشاعر العربي:
أضَاعُوني وَأَيَّ فَتًى أَضَاعُوْا *** لِيومِ كَرِيهَةٍ وَسِدَادِ ثَغْرِ
الواقع أنَّ هذه المنشأة التعليميَّة لم تَفقد صاحبي؛ لأنَّها أحلَّت محلَّه مَن هو في مستواه، أو ربما فوق مستواه، علمًا وخُلُقًا، و"مشى أمرُها"، ولم تأسَف على خروجه منها، ولم يتمثَّل هو بعد ذلك بقول الشاعر العربي الآخر:
سَيَذْكُرُنِي قَوْمِي إِذَا جَدَّ جِدُّهُمُ *** وَفِي اللَّيلَةِ الظَّلْمَاءِ يُفتَقَدُ البَدْرُ
لم تكن لهذه المنشأة في هذا المساق ليلةٌ ظلماءُ، بل إنَّ لياليها كانت تغصُّ بالبدور، وهجها متفاوت، ولكنها مجتمعة تضيء سماءَ المنشأة، إنَّه العناد الذي أفقد صاحبي فرصةً لا تعوَّض.
على أيِّ حال، ضربتُ مثلًا بصاحبي هذا، الذي تنقَّل بعد ذلك إلى أكثر من جهة، كان قلقًا في جميعها، مجابهًا رؤساءه في جميعها، مصادمًا لهم، متمسِّكًا برأيه دائمًا، ففوَّت على نفسه فرصًا تُعزى إلى إصراره على العناد.
هناك أمثلة أخرى، ومواقف متعدِّدة، تُثبِت - على المستويات كافَّة - أنَّ الأمور تتفاقم وتصِل إلى حدود صعبة جدًّا، بسبب عِناد بين الطرفين أو أكثر، وسيظل العناد، كما الغرور، صخرةً تتحطَّم عليها مشروعات قائمة، وآمال وطموحات، وسيظل العناد، كما الغرور، سببًا من أسباب الشقاء، على المستوى الفردي والأسري، وأبعد من ذلك من المستويات، والسعيد منَّا من لم يتَّصف بالعناد، ومن لا يلقي له بالًا كثيرًا، بل ويُكثر من التروِّي وإبداء بعض التنازُلات التي - دائمًا - تعود بالمصلحة على الأطراف المعنية وتحقِّق المراد، ولو على المدى البعيد.
لا يتَّفق العناد مع التنازُلات، ولا تتمُّ جميع الأمور على الوجه المراد لها إلَّا بالتنازُلات مِن الطرفين، لا من طرف واحد فقط؛ إذ يلتقيان، أو يلتقون في منتصف الطريق، ولعلَّ في صُلح الحديبية من العِبر والدروس ما يغني عن المزيد من إيضاح الفَرق بين العناد ونقيضه؛ إذ إنَّ التنازُلات التي أبداها رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم كانت ممهِّدةً لنصرٍ من الله تعالى وفتحٍ قريب، رغم أنَّ بعض الصَّحابة رضي الله عنهم لم يكونوا "مرتاحين" للوهلة الأولى من هذه التنازُلات.
__________________________________
أ. د. علي بن إبراهيم النملة
- التصنيف: