التنوع الثقافي في المنظور الغربي

منذ 2021-02-18

بعد أحداث سبتمبر ومدريد ولندن ظهر سؤال - وما زال السؤال قائماً إلى اليوم لدى الباحثين الغربيين -: هل المسلمون في الغرب موالون للغرب أم موالون لجذورهم التاريخية؟

التنوع الثقافي في المنظور الغربي

ساهمت هجرة المسلمين الضخمة في القرن العشرين في تشكيل مجتمعات مهاجرة جديدة في الغرب، وقد استفاد منها الغرب؛ فقد عملت على تنمية الحضارة الغربية؛ إلا أنها في اللحظة نفسها شكلت هذه المجتمعات الإسلامية حالة قلق للمجتمع الغربي المادي، وذلك بسبب اختلاف القيم والتصورات الفكرية؛ فالمجتمع الغربي له منهـج مغاير لمنهاج المجتمعات الإسلامية في التصور والرؤية للكون والحياة والإنسان. وهذا الاختلاف في التصورات جعل المجتمعات المسلمة في الغرب تواجه تحديات كبرى على رأسها (التحدي الثقافي)، فالأفكار التي يحملها المجتمع المسلم فيما يتعلق بقيمة الإنسان، والهدف من وجوده في هذا الكون وعلاقته بالحياة وبالآخرين لا تنسجم مع المنظومة الغربية؛ فالمسلم في الغرب لا يعيش ضمن منظومة ثقافية واحدة لها رؤية مشتركة للإنسان والحياة والكون؛ بل هو في مجتمع متنوع الثقافة، وهذا التنوع الثقافي يشمل جميع أنشطة الإنسان الحياتية والاجتماعية والفكرية.

وبعد أحداث سبتمبر ومدريد ولندن ظهر سؤال - وما زال السؤال قائماً إلى اليوم لدى الباحثين الغربيين -: هل المسلمون في الغرب موالون للغرب أم موالون لجذورهم التاريخية؟ وقد عمل الجناح اليميني السياسي والشخصيات الإعلامية والقيادات المدنية في محاولة فصل المسلمين في الغرب عن المجتمع وذلك بتحقيق أمرين:

أولاً: الدمج بين الإسلام والإرهاب. وجعل الإسلام قرين الإرهاب.

ثانياً: تعزيز الانشطار في المجتمع المتنوع ثقافياً؛ وذلك بتعزيز القيم النصرانية وإشاعة مفهوم (الإسلامفوبيا) ووصف الإسلام بأنه غير قادر على الانسجام مع متطلبات الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وقد ساعدهم على نشر هذا المفهوم أن كثيراً من الدول الإسلامية استبدادية تنعدم فيها حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان[1].

هناك من ينكر هذا التنوع الثقافي ويرى أن المنظومات الثقافية متداخلة ومتفاعلة ومتأثرة بعضها ببعض، حيث لا يمكن تحديد الحدود وتمييزها بطريقة منتظمة كما نرتب وننظم الكرسي والطاولة، لذلك من الخطأ أن نتحدث عن التعددية الثقافية أو مجتمع متعدد الثقافة. وهذا الجدل غير صحيح؛ فإذا كانت المجتمعات الثقافية لا يمكن تحديدها بدقة فهذا لا يعني أنها لا تمتلك الخصوصية، أو انعدام التفرد بحيث لا يمكن تمييزها؛ فإنه يمكننا القول إن المجتمع يتشكل من لغات مختلفة وأديان متنوعة وموروثات أدبية ومعرفية مختلفة. والمجتمعات المتعددة ثقافياً ليست وليدة هذا العصر؛ بل لقد وجدت في السابق، إلا أنه ثمة أربعة عوامل تتميز بها المجتمعات الحديثة متعددة الثقافة:

أولاًالمجتمعات الثقافية المتنوعة تعيش اليوم تحديات أكثر

ففي الماضي كانت الأقليات في المجتمع تقبل في العموم وضعها التابع وتبقى مقيدة بالمجتمع والمحيط الجغرافي المخصص لهم من قِبل المجموعات المسيطرة. بخلاف اليوم فإن الأقليات لا تطالب فقط بالمساواة الاعتبارية والحقوق؛ بل أيضاً بالمساواة في الفرص والمشاركة في تشكيل الحياة المجتمعية بشكل أوسع، فهم يرفضون أن تكون لهم مناطق خاصة تحتويهم باعتبارهم أقليات؛ ويريدون من المجتمع أن يقبلهم ويعترف بهم ويفكر بوجودهم في مؤسساته الكبرى.

ثانياً: يحدث التنوع الثقافي في السياق الاقتصادي  

فالتنوع الثقافي المعاصر مرتبط بشكل قوي مع الاقتصاد العالمي والقوى السياسية. وهذه هي خاصية الحياة المعاصرة التأثر بشكل مباشر بالتقلبات الاقتصادية والسياسية التي تعمل على تغيير تركيبات المجتمع.

ثالثاً: التحدي العولمي الثقافي  

هذه الظاهرة الفارقة التي تؤدي إلى تجانس الأفكار، وترابط المؤسسات وتمازج الأخلاق والممارسات الاجتماعية؛ تسعى إلى تشكيل الحياة وَفْقَ نموذج عالمي مشترك. وهي تهيِّج وتثير المخاوف عن فقدان هوية المجتمع، لذا يحدث هناك تحفز ذاتي لمقاومة التأثيرات الخارجية، فإذا أرادت الأقليات أن تحافظ على وجودها وحيوتها فعليها أن تكون أكثر تمسكاً بخصوصيتها.

هدف التعددية الثقافية كما يراها بعض الفلاسفة هو إعادة تقويم الهويات التي تم تجاهلها وتحدي الأنماط المسيطرة في المجتمع من أجل تجنب التمييز ضد الأقليات. وإذا حدث تمييز فإن التعددية الثقافية تعمل على تقديم تعويضات للجماعات الثقافية المتضررة. وكذا تهدف التعددية الثقافية إلى تحقيق التعايش السلمي للمجموعات الثقافية والعرقية المختلفة داخل المجتمع الواحد. وقد حاولت الدولة الليبرالية تحقيق هذا التعايش عن طريق ضمان الحقوق الفردية كما يقول الفيلسوف الأمريكي رونالد دوركين: إن المجتمعات الليبرالية يجب أن تكون محايدة فيما يتعلق في اختيارات الأفراد في الجانب الثقافي. وهناك من الليبراليين من يقول: إن مجرد حماية حقوق الإنسان الأساسية لا يضمن المساواة في المعاملة لكل جماعة ثقافية داخل المجتمع.

المجتمعات الحديثة أصبحت متنوعة على نحو متزايد، وهذه المجتمعات ترى أن المؤسسات العامة لا يكون فيها التعامل على قدم المساواة وذلك بسبب الاختلاف الثقافي أو الديني، وحماية حقوق الإنسان الأساسية لا تضمن تحقيق مصالح هذه الجماعات. ونتيجة لذلك تطالب هذه الجماعات المؤسسات العامة بالاعتراف بخصوصيتها وضمان وجودها الثقافي، فالدول الليبرالية لا يمكن أن تبقى محايدة تماماً للثقافات وتترك الأمر باعتبارها مسألة حياة خاصة.

الفيلسوف الكندي (تشارلز تايلور) يتفق مع هذا الرأي ويرى أن الليبرالية لا يمكن أن تظل محايدة تماماً للثقافة؛ فالليبرالية نفسها تتضمن بعض القيم التي تتعارض مع قيم الثقافات الأخرى. والفيلسوف الكندي (كيمليكا) يتفق مع (تايلور) ويرى أن بعض القـرارات من أي حكومة لا بد أن تتضمن بالضرورة اتخاذ خيار لصالح ثقافة معيَّنة، ومن أمثلة ذلك أيام العطل الرسمية، واللغة الرسمية... إلخ؛ فإنها تنحاز مع ثقافة معيَّنة. لذا فالدولة الليبرالية لا يمكن أن تكون محايدة ثقافياً[2]. وإذا لم تكن الدولة الليبرالية محايدة تجاه الثقافة؛ فكيف تضمن الدولة معاملة المواطنين معاملة عادلة دون تحيُّز أو تمييز أو تهميش لبعض الأقليات؟

هناك من الفلاسفة من يرى أن التركيز يجب أن يكون فقط على العدالة الاقتصادية وهذا ما قال به (زغمونت بومان) ويرى أن عقبة التعددية الثقافية تركز على تحقيق الذات بدلاً من التوزيع الاقتصادي. وقد وضع (بومان) تمييزاً بين الحق في إعادة التوزيع والحق في تحقيق الذات؛ إذ يرى أنه في السابق كان الخطاب يتجه نحو التفاوت الاقتصادي، بينما لاحقاً اتجه الخطاب للتفاوت الاعتباري أو التفاوت الثقافي؛ فالهدف الموضوعي هو ضمان فرص متعادلة ليستمر التقدير الاجتماعي لكل فرد في المجتمع. لهذا السبب يعزز الحق في إعادة التوزيع الاقتصادي للاندماج وإعادة القوة في الحس الاجتماعي.

وقد خالف بعض المنظرين في التنوع الثقافي بأن المساواة الاقتصادية ليست هي فقط الهدف الموضوعي الذي ينبغي على الدولة الليبرالية أن تسعى إليه؛ فإن لكل فرد كما لكل مجموعة ثقافية الحق لإنجاز التحقيق الذاتي. ويرى المدافعون عن التنوع الثقافي أن الحرية في معناها السلبي ليست كافية؛ فالتحقيق الذاتي واحدة من القيم الأساسية التي ينبغي أن ينالها كل فرد.

وذهب (سيدورسكي) إلى أن لكل فرد ولكل مجموعة إمكانية اختيار الهوية من قبل ممارسة حرية الاختيار. فكل فرد له حرية اختيار هويته، والهوية لا تحدد من قبل المجتمع بل من قبل الفرد ذاته. وهذا التأكيد الذاتي لا يمكن أن يحدث ما لم يكن الفرد أو المجموعة متفاعلة مع المجمتع. ويرى (تيلور) أن تحديد الهوية يتأثر أيضاً بالمؤثرات الخارجية، فاكتشاف هويتي لا يعني أنني أمارسها في حياتي، ولكنها تأتي من الحوار والتفاعل الداخلي من قِبَل الآخرين فالهوية تتشكل بالحوار الثقافي. ويشير (تيلور) لكي يتم الحوار الثقافي ولجعل خيارات الهوية المتنوعة متاحة فإن الاعتراف العام بالهويات المختلفة أمر ضروري. والاعتراف يتضمن أمرين:   

الأول: أن تظهر لكل هوية قيمتها واعتباراها.

والثاني: أن يكون هناك تحقيق ذاتي لكل هوية.

المجتمعات المتنوعة يكون لديها متطلبات مختلفة ومتنوعة ومن ثَمَّ تتنوع الحقوق، وكذا تتنوع فيها العادات والممارسات؛ وهو ما يجعل هناك صعوبة مَّا في الاتفاق على نمط اجتماعي عام. وهذا الوضع تبرز معه أسئلة هامة: كيف يمكن أن تتوافق متطلبات التنوع الثقافي والوحدة السياسية؟ كيف يمكن خلق مجتمع سياسي متلاحم ومستقر ويحقق للأقلية طموحاتهم الثقافية؟ هذه الأسئلة وغيرها كان لها مناقشات عميقة وحوارات مطولة منذ نشوء الدولة الحديثة، وخصوصاً في العقود الأخيرة، وقد كان نتيجة ذلك عدة نماذج مطروحة، بالرغم من تداخلها، إلا أن مبادئها وأهدافها تختلف، وأذكر بعضاً منها على سبيل الاختصار[3]:

أولاً: النموذج الإجرائي: يرى أن أفضل الطرق لتنظيم المجتمع متعدد الثقافة هو أن يؤسَّس على أسس تكون كل الجماعات المختلفة متفقة على الحد الأدنى منها. فالدولة تصبح مؤسسة رسمية لا تطلب من مواطنيها أكثر من الاتفاق على البنية العامة للسلطة وقبول ذلك، وعلى الدولة أن تسعى لتحقيق أهدافها الذاتية، إلا أنه يخشى في النهاية أنها ستفضل ثقافة معيَّنة وستسعى لتقويتها، ومن ثَمَّ ستعامل الثقافات الأخرى بطريقة غير عادلة وستخضعهم لدرجة الإكراه لقبول بعض القضايا. لذلك فقط الدولة المحايدة ثقافياً بإمكانها أن تضمن الوحدة السياسية وإعطاء مواطنيها - بما في ذلك الأقليات - الحرية الممكنة ليعيشوا بالطريقة التي يريدونها.

ثانياً: النموذج الاستيعابي: يرى أنه لا تكـون هناك حكومة مستقرة ومتماسكة ما لم يشترك أعضاؤها في ثقافة وطنية مشتركة، بما في ذلك القيم العامة والأخلاقيات والممارسات الاجتماعية؛ فعن طريق المشاركة في الثقافة العامة يتطور التواصل المتبادل ويقوى الولاء وتؤسس الروابط الاجتماعية الضرورية التي تنمي الانتماء العام. والدولة هي خادمة لمناهج الحياة الاجتماعية، ولها الحق والواجب لتتأكد أن الأقليات الثقافية تستوعب أو تندمج في الثقافة الوطنية السائدة. والاختيار أمام الأقليات سهل، فإذا أرادوا أن يصبحوا جزءاً من المجتمع ويعامَلون كبقية المجتمع فعليهم التفكير والعيش كالآخرين، أما إذا أرادوا أن يفصلوا ثقافتهم فعليهم أن لا يشتكوا إذا عوملوا بطريقة مختلفة. وهذا النوع من الاستيعابية هو المتبنى حديثاً في أمريكيا وبريطانيا.

ثالثاً: النموذج التشعبي: وهو نموذج وسطي بين الإجرائية والاستيعابية، مع تبنٍّ جزئي للاستيعابية. فهي ترى في الإجرائية أنه لا يمكن أن تربط المجتمع بعضه مع بعض، والاستيعابية غير ضرورية ولا مرغوبة. فالمهم للدولة أن يشارك مواطنيها في الثقافة السياسة العامة، ويشمل ذلك مجموعة القيم والممارسات والدخول في المؤسسات السياسية العامة. وفي غياب الثقافة السياسية المشتركة فإن المجتمع تنقص قدرته في صياغة الحلول لوجود الاختلافات بين أطيـاف المجتمع. وطالما أن الأقليات تُقبَل وتصبح مستوعبة في الثقافة السياسية للمجتمع، فإنهم سيعيشون بحرية بالطريقة التي يريدونها. فوحدة المجتمع تبحث وتحدد في الحقل العام، بينما الاختلاف يترك ليزدهر بحرية في الحقل الخاص، وهذا لا يشمل فقط العوائل بل أيضاً المجتمع بكامل اتجاهاته. وفي معظم الكتابات الأمريكية والبريطانية وكذلك الفرنسية هذا النموذج يسمى الاندماج. وهذا النموذج قد وجد تأييداً ودعماً من معظم الكتاب الليبراليين بمن في ذلك جون لوك وجون راولين.

رابعاً: النموذج التعددي: إذ ينظر أصحاب التعددية إلى نموذج الافتراق الثنائي (التشعبي) بأنه يمتلك سلبيتين: فهو يضع الثقافة السياسية المجتمعية دون حوار أو مراجعة. ويتوقع من الأقليات أن تصبح مستوعَبة في المجتمع. وبما أن الثقافة السياسية لا تعكس قيـم الأقليات ووجودهـا، فإن الأقليـات لا تعترف بالمجتمع ولا تقدم له الدعم الكامل. لذلك تكون المجتمعات مسيطر عليها من قبل ثقافة محددة؛ فتعاني الأقليات من مساوئ بنيوية؛ فهم بحاجة ما هو أكثر من مجرد التسامح إلى التعايش أو البقاء في عالمهم الخاص. فأصحاب الاتجاه التعددي يرون أنه بدلاً من أخذ الثقافة السياسية للمجتمع كشيء مُعطى، فإنه ينبغي أن تتخذ التعددية ليُعترَف بوجود الأقليات وتتجسد قيمهم.

التنوع الثقافي أمر واقع وعلينا ألَّا ننظر إليه على أنه أمر سلبي محض بل نجعله مصدراً للإبداع والتنافس والإثراء المعرفي فإذا أحسن التعامل مع التمايزات الثقافية ونظر إليها على أنها طبيعة بشرية، وأن الاختلاف سنة ربانية: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 198 إلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 198 - 199] فَجَعْل الناس داخل إطار واحد وعلى فكر واحد هو ضرب من الخيال ومخالف لسنة الخلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13 فالتنوع البشري في الصورة واللسان والفكر والعمل والأسلوب، هو من آيات الله. الثقافة الإسلامية لها صورتها وأسلوبها ونمطها الذي يميزها عن بقية ثقافات الأمم، ولعل الله ييسر لنا أن نكتب عن مفهوم التنوع الثقافي من المنظور الإسلامي. 


[1] John Esposito, The Future of Islam, p.11

[2] Multiculturalism: Opposition and Defense.

[3] Dan Avanon & Avner de-shalit, Liberalism and its Practice, p. 65.

______________________________
الكاتب: مبارك عامر بقنه

  • 1
  • 0
  • 2,932

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً