مضاعفة الأجور: أسبابها وحكمتها
أكْرَمَ اللهُ تعالى أُمَّةَ نبيِّه بِنِعَمٍ عَظِيمة، وعطايا جَسِيمة، أعظمُها مضاعفة الأجور والحسنات، وخصَّها بالأجور الكبيرة لأعمالٍ صغيرة، لا تستغرق وقتاً طويلاً، أو جُهداً كبيراً؛ رِفعةً لها في الآخرة، وتعوِيضاً لها عن قِصَرِ أعمارها بالنسبة للأُمم السابقة،
أكْرَمَ اللهُ تعالى أُمَّةَ نبيِّه بِنِعَمٍ عَظِيمة، وعطايا جَسِيمة، أعظمُها مضاعفة الأجور والحسنات، وخصَّها بالأجور الكبيرة لأعمالٍ صغيرة، لا تستغرق وقتاً طويلاً، أو جُهداً كبيراً؛ رِفعةً لها في الآخرة، وتعوِيضاً لها عن قِصَرِ أعمارها بالنسبة للأُمم السابقة، فخصَّها بليلةٍ خيرٍ من ألفِ شهر، وصيامِ يومٍ يُكفِّر ذنوبَ سنةٍ سابقةٍ وقادمة، وغير ذلك من المُضاعفات العامة والخاصة؛ إكراماً لهم، ورحمة بهم. قال الله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]. قال البقاعي رحمه الله: (أي: بأنْ يأخذوا جزاءَهم مُضاعَفاً في نفسِه من عَشَرَةِ أمثالٍ إلى ما لا نِهايةَ له، ومُضاعَفاً بالنِّسبة إلى جزاءِ مَنْ تَقَدَّمهم من الأُمم).
عباد الله.. ومن أهم أسباب مضاعفة الأجور: فَضْلُ المُؤمنِ، وقُوَّةُ إيمانِه وإخلاصِه: لقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم). ففي الحديث دلالةٌ على أنَّ العمل القليل من أحد الصحابة يَفْضُلُ العملَ الكثير من غيرهم؛ لكمالِ إخلاصهم، وصادقِ إيمانهم.
ومن أسباب مُضاعفة الأجور: حُسْنُ إسلامِ المؤمن: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ؛ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا» (رواه البخاري ومسلم). قال ابن رجب رحمه الله: (فَالْمُضَاعَفَةُ لِلْحَسَنَةِ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَابُدَّ مِنْهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ بِحَسَبِ إِحْسَانِ الْإِسْلَامِ).
ومن أسباب مضاعفة الأجور: نَفْعَ الحَسَنةِ، والحاجةُ إليها: قال ابن رجب رحمه الله – في حديثه عن أسباب المُضاعفة: (الْحَاجَة إِلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ وَفَضْلِهِ؛ كَالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي الْأَقَارِبِ، وَفِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَأَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَى النَّفَقَةِ). واللهُ تعالى يُضاعِف فوق ذلك بِحَسَبِ حال المُنفِق وإيمانِه وإحسانِه، ونَفْعِ نفقتِه وقَدْرِها، ووقُوعِها مَوقِعَها؛ لذلك ضُوعِفَ أجرُ الصحابةِ رضي الله عنهم، وأصبح القليلُ الذي يُنفِقُه أحدُهم أكثرَ ثواباً من الكثير الذي يُنفِقُه غيرُهم.
ومن أسباب المُضاعفة: مَشَقَّةُ الحَسَنَة: قال ابنُ دقيقِ العيدِ رحمه الله: (الأجور قد تتفاوت بِحَسَبِ زيادةِ المَشَقَّات، لا سيما ما كان أجرُه بِحَسَبِ مَشقَّتِه، إذْ لِمَشَقَّتِه دَخْلٌ في الأجر). ويدل عليه: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: « «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ» قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» (رواه البخاري ومسلم).
قال ابنُ بطالٍ رحمه الله: (فيه أنَّ أعمال البِرِّ كلَّما صَعُبَتْ كان أجرها أعظم؛ لأنَّ الصَّحيح الشَّحيح إذا خشى الفقرَ، وأمَّل الغِنَى صَعُبَتْ عليه النَّفَقة، وسَوَّلَ له الشيطانُ طولَ العمر، وحُلولَ الفقر به، فمَنْ تصدَّق في هذه الحال؛ فهو مُؤثِرٌ لِثَوابِ الله على هوى نفسِه).
ومن الأسباب: النَّفْعُ المُتعدِّي، والدلالة على الخير: وفي الحديث: «إِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ» صحيح - رواه الترمذي. وأورد ابنُ حجرٍ رحمه الله – بعضَ أسبابِ المُضاعفة، وذَكَرَ منها: (تَعَدِّي النَّفْعِ؛ كَالصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالسُّنَّةِ الْحَسَنَةِ). وقال السعدي رحمه الله: (مِثْلُ العملِ الذي يُثْمِرُ أعمالاً أُخَر، ويَقتدي به غيرُه، أو يُشارِكُه فيه مُشارِك).
ومن أسباب المضاعفة: شَرَفُ الزَّمان: مثل العمرة في رمضان، وقيام ليلة القدر، قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]. قال السعدي رحمه الله: (أي: تُعادِلُ من فضلِها ألْفَ شهرٍ، فالعمل الذي يقع فيها، خيرٌ من العمل في ألفِ شهرٍ خالية منها، وهذا مما تَتَحَيَّر فيه الألباب، وتندهش له العقول).
ومن الأسباب: شَرَفُ المكان: كالصلاة في المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.
ومن الأسباب: شَرَفُ العمل: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: إِذَا تَلَقَّانِي عَبْدِي بِشِبْرٍ؛ تَلَقَّيْتُهُ بِذِرَاعٍ، وَإِذَا تَلَقَّانِي بِذِرَاعٍ؛ تَلَقَّيْتُهُ بِبَاعٍ، وَإِذَا تَلَقَّانِي بِبَاعٍ؛ أَتَيْتُهُ بِأَسْرَعَ» (رواه مسلم). قال الخطابي رحمه الله: (هَذَا مَثَلٌ؛ وَمَعْنَاهُ: حُسْنُ الْقَبُولِ، وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مُمَثَّلًا بِفِعْلِ مَنْ أَقْبَلَ نَحْوَ صَاحِبِهِ قَدْرَ شِبْرٍ؛ فَاسْتَقْبَلَهُ صَاحِبُهُ ذِرَاعًا، وَكَمَنْ مَشَى إلَيْهِ؛ فَهَرْوَلَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ، قَبُولًا لَهُ، وَزِيَادَةً فِي إكْرَامِهِ).
ومن أسباب المضاعفة: قُوَّةُ دَفْعِ العمل للمُعارَضات: فمِنْ رحمةِ الله بعبده أنْ يَرزُقَه من العمل ما يكون سبباً في دفع المُعارضَات، أي: في دَفْعِ ما يتعرَّض له في حياته، وقد ذَكَرَ السعدي رحمه الله – بعضَ أسبابِ المُضاعفات، فقال: (كالعمل الذي قَوِيَ بِحُسْنِه وقُوَّتِه ودَفْعِه المُعارضات، كما ذَكَرَه صلى الله عليه وسلم في قِصَّةِ أصحاب الغار، وقِصَّةِ البَغيِّ التي سقت الكلبَ، فشَكَرَ اللهُ لها وغفر لها).
لِمُضاعفةِ الأُجور حِكَمٌ جليلةٌ، فمن أهمها: تَعوِيضُ الأُمَّةِ عن قِصَرِ أعمارِها بالنسبة لأعمار الأُمَمِ السَّابقة: قال ابنُ هُبيرة رحمه الله: (إنَّ الله تعالى لَمَّا صَرَمَ هذه الأُمَّة أخْلَفَها على ما قَصُرَ من أعمارها بتضعيف أعمالها). وأكَّد هذا النيسابوري رحمه الله بقوله: (كان لِلأُمَمِ أعمارٌ طويلةٌ، وطاعاتٌ كثيرةٌ، فوَضَعَ اللهُ لهذه الأُمَّة ليلةَ القدر خيراً من ألفِ شهرٍ، وأضْعافَ الأعمال: كقوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الأنعام: 160]؛ وقولِه: سبحانه: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]؛ وقوله تعالى: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر: 10].
ومن الحِكَم: رَحْمَةُ اللهِ بالعبد حتى لا يَهْلَك في الآخِرة؛ لِكَثْرَةِ سيِّئاته: قال النيسابوري رحمه الله: (لو أنَّ الخُصماء يَتعلَّقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم، إلى أنْ تَبَقَّى الإضعافُ؛ فيقول اللهُ تعالى: أضعافُهم ليستْ من فِعلهم، هي من رحمتي، فلا أقْتَصُّ منهم أبداً). فحِكْمَةُ التَّضعيف؛ لئلاَّ يُفلِسَ العبدُ إذا اجتمع عليه الخُصوم، فيُدْفع إليهم واحدة، وتبقى له تِسْع، فالتَّضعيف فَضْلٌ من الله تعالى، وأصل الحسنة الواحدة عدلٌ منه تبارك وتعالى.
ومن الحِكم: زِيادَةُ الثوابِ والكرامة: قال الله تعالى - في معرض امتنانه على المسلمين: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69، 70]. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28، 29]. قال ابن تيمة رحمه الله: (إِرْسَالُهُ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ، يَجْمَعُ اللَّهُ لِأُمَّتِهِ بِخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، مَا فَرَّقَهُ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْفَضَائِلِ، وَزَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أَنْوَاعَ الْفَوَاضِلِ؛ بَلْ أَتَاهُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ).
ومن الحِكم: التَّخْفيفُ على العَبدِ في الحِساب: قال ابنُ دقيقِ العيدِ رحمه الله: (إنَّ الله سبحانه وتعالى إذا حاسَبَ عبدَه المُسلمَ يوم القيامة، وكانت حسناتُه متفاوتةً، فِيهِنَّ الرَّفِيعةُ المِقدار، وفِيهِنَّ دُون ذلك، فإنه سبحانه بِجُودِهِ وفَضْلِه يَحْسِبُ سائِرَ الحسناتِ بِسِعْرِ تلك الحسنةِ العُليا؛ لأنَّ جُودَه جلَّ جلالُه أعظمُ مِنْ أنْ يُناقِشَ مَنْ رَضِيَ عنه في تفاوت سِعْرٍ بين حَسَنَتين، وقد قال جلَّ جلالُه: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
- التصنيف:
- المصدر: