أحوال القبور قد يكشفها الله عز وجل لمن شاء من عباده
ففي زيارة القبور اتعاظ بحال ساكنيها, قال أحد السلف: يا بيوت ما أسكن ظواهرك وفي داخلك الدواهي.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فيوجد بيوت غفل كثير من الناس عن التفكر فيها, وشغلوا ببناء بيوت قد يسكنونها, وقد يعاجلهم الموت فلا يسكنونها, وإن سكنوها فلمدة محدودة, أما البيوت التي غفلوا عنها, فقد يكونون فيها أحقاباً طويلة, علمها عند الله, فينبغي التفكر في تلك البيوت وعدم الانشغال ببيوت الدنيا, نظر ابن مطيع رحمه الله ذات يوم إلى دار فأعجبه حسنها فبكى, ثم قال: والله لولا الموت لكنت بك مسروراً, ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا.
من زار تلك البيوت رأى تساوى ساكنيها رغم التفاوت الكبير بينهم, فظهرت له صورة ليوم القيامة, قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: قال بعضهم: "إذا أردت صورة مصغرة ليوم القيامة فاخرج إلى المقبرة تجد فيها الشريف والوضيع, والذكر والأنثى, والصغير والكبير, كلهم سواء, كلهم تحت التراب...ما هناك أحد له قصر, ولا أحد عنده خدم, ولا أحد عنده شيء, ولهذا قيل : أول عدل الآخرة القبور, ومما يدل على ذلك قصة الأعرابي حيث جاء أعرابي إلى بلد فيها حاكم, فإذا الحاكم قد مات, فسأل عنه فقالوا : إنه مات, قال : أين ذهب ؟ قالوا: ذهب إلى المقبرة, فجاء إلى المقبرة يري الأبهة يريد الخدم والحشم, فلما دخل لم يجد إلا حفار القبور, قال: أين الحاكم الفلاني ؟ قال: الحاكم الفلاني هذا قال: يا ويله, ثم قال: وهذا الذي بجواره ما هو؟ قال : هذه امرأة عجوز ناقصة عقل مشهورة في السوق, وكان قبرها مرشوشاً إذ إنها قد دفنت قريباً, وقبر الحاكم يابس, قال : يا ويله هذه تسقى ماء وهذا لا يسقى ماء وجلس يتعجب فقال له حفار القبور: هذا الأمر كما رأيت هذا هو العدل"
فهذه البيوت قد يغر البعض سكونها, فيظن أن لا حراك فيها, وساكنيها بين منعم يقول: ربِ أقم الساعة, وبين معذب يقول: ربِ لا تقم الساعة.
فالقبر إما روضة من رياض الجنان نسأل الله الكريم أن نكون من أهل تلك الجنان, وإما حفرة من حفر النيران نسأل الله السلامة, ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما, أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين, فقال: «( إنهما ليعذَّبان, وما يُعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستتر من البول, وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ثم دعا بجريدة رطبة, فشقها نصفين, فقال: ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)» وفي الصحيحين عن أبي أيوب رضي الله عنه, قال: «خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس, فسمع صوتاً, فقال: ( يهود تعذب في قبورها) »
وما يجري من عذاب لأهل القبور تسمعه البهائم, ففي صحيح ابن حبان, عن أم البشر قالت: « دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( تعوذوا بالله من عذاب القبر ) فقلت: يا رسول الله وللقبر عذاب ؟ قال: ( إنهم ليعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم )» قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قال بعض أهل العلم: ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت[مغص يأخذ الدواب عن أكل التراب] إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعلية والنصيرية والقرامطة وغيرهم...فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعاً وحرارةً تذهب بالمغل.
والله عز وجل أخفى عن عباده ما يحدث داخل تلك القبور لحكمة, قال الإمام ابن القيم رحمه الله: الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلاً بها عيباً, وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار وذلك من كمال حكمته, وليتمَّيز المؤمنون بالغيب من غيرهم.
وقد أخفى الله عز وجل ما يحدث داخل القبور رحمة بعباده, ففي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «(إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه) »
ولكنه سبحانه وتعالى يطلع من شاء من عباده على شي مما يحدث داخل القبور, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب_ إذا شاء الله ذلك_ كما يشاء...وقد انكشف لكثير من الناس ذلك, حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم...في آثار كثيرة معروفة, وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: إذا شاء الله سبحانه أن يُطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه, وغيبه عن غيره, وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقد كشف الله لمن شاء من عباده من عذاب أهل القبور ونعيمهم, وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: عذاب القبر أو نعيم القبر أمر لا يُطَّلعُ عليه, هذا هو الأصل, لكن قد يُطلِعُ الله عليه من شاء من عباده, وقال: فإنه قد يُكشفُ لبعض الناس عن عذاب القبر, واسأل الذين يكونون ليلاً عند القبور تسمع عنهم ما يُعجِّبُ, فأحيانا يسمعون صياحاً عظيماً, وإفظاعاً وأهوالاً, وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان: وقد يشاهد بعض الناس ما يحصل من عذاب القبر من أجل العظة والعبرة, وقال الشيخ عبدالرحمن البراك: وقد يكشف الله لبعض الناس شيئاً من أحوال القبور كما تواترت الأخبار, فيكشف أحياناً لبعض الناس أشياء: إما أمور مسموعة, أو أمور مرئية, وقال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: فإن قال قائل: هل يمكن أن يطلع بعض الناس على عذاب القبر ؟ فنقول: لا يمتنع أن يطلع بعض الناس على مثل هذا
ومما ذكره أهل العلم مما كشفه الله عز وجل لمن شاء من عباده لأحوال أهل القبور ما يلي:
* قال الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه: " تاريخ بغداد " في ترجمة: محمد بن مخلد الدوري العطار ( ت331) رحمه الله, قال: ماتت والدتي, فأردت أن أدفنها في مقبرة درب الريحان, فنزلت ألحدها أنا, فانفرجت لي فرجه عن قبر بلزقها, فإذا رجل عليه أكفان جُدد, على صدره طاقة ياسمين طرية, فأخذتها فشممتها, فإذا هي أزكى من المسك, وشمها جماعة كانوا معي في الجنازة, ثم رددتها إلى موضعها, وسددت الفرجة.
* قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه: " المنتظم في تاريخ الملوك والأمم " في حوادث سنة ست وسبعين ومائتين: انفرج تل فيه سبعة أقبر, فيها سبعة أبدان صحيحة, عليها أكفان جدد لينة...تفوح منها رائحة المسك.
* قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه " البداية والنهاية " في حوادث سنة أربع وثلاثمائة (304هـ) : وفيها ورد كتاب من خراسان بأنهم وجدوا قبور شهداء قد قتلوا في سنة سبعين من الهجرة, مكتوبة أسماؤهم في رقاع مربوطة في آذانهم, وأجسادهم طرية كما هي.
* قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: حدثني بعض الناس أنهم في هذا البلد هنا في (عنيزة) كانوا يحفرون لسور البلد الخارجي فمروا علي قبر فانفتح اللحد فوجد فيه ميتا قد أكلت كفنَه الأرض وبقي جسمه يابساً لكن لم تأكل منه شيئاً حتى إنهم قالوا إنهم رأوا لحيته وفيها الحنا وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك فتوقفوا وذهبوا إلى الشيخ وسألوه فقال: دعوه على ما هو عليه واجنبوا عنه واحفروا من يمين أو من يسار.
هذا وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله, في كتابه: " الروح", مثل هذه الحوادث, كما ذكر مثل ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه: " أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور " في الباب السادس: في ذكر عذاب القبر ونعيمه.
ومما ينبغي التنبيه إليه ما ذكره أهل العلم رحمهم الله أن كل من مات, وفارقت روحه جسده, فإنه إما في نعيم, وإما في عذاب, دُفن في قبر, أو لم يدفن, كمن أحرق وذُرَّ, أو رُمي في بحر, ونحو ذلك.
إن التفكر في تلك القبور والاتعاظ بحال أهلها, يدفع الإنسان أن يخاف أن يكون من المعذبين فيها, وهذا الخوف يدفعه للعمل الصالح ليكون من المنعمين فيها, فلنجاهد أنفسنا جميعاً لنكون من المنعمين الفائزين, ولنسلم من عذاب القبر ووحشته وضغطته
فضغطة القبر لا يسلم منها أحد, لا المسلم, ولا غير المسلم, لكن الإيمان والعمل الصالح يخففها, قال أهل العلم: ضمة القبر للمؤمن كضمة الحبيب للحبيب, يصل منها بعض الأذى ولكنها ضمة حبيب لحبيب, وضمة القبر للكافر ضمة بغض وعذاب...ففرق بين تلك الضمة وتلك الضمة.
ومن كان محباً لله عز وجل, متقياً له, فإن الله عز وجل بكرمه وجوده وفضله يؤنس وحشته في قبره, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: العارفون بالله, المحبون له, المنقطعون إليه في الدنيا, والمستأنسون به دون خلقه, فإن الله بكرمه وفضله لا يخذلهم في قبورهم بل يتولاهم, ويؤنس وحشتهم.
وعذاب القبر له أسباب ينبغي على المسلم أن يتجنبها, قال الإمام ابن القيم رحمه الله: قول السائل: ما الأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟ فجوابها وجهين: مجمل, ومفصل.
أما المجمل: فإنهم يعذبون على جهلهم بالله, وإضاعتهم لأمره, وارتكابهم لمعاصيه, فلا يعذب الله روحاً عرفته, وأحبته, وامتثلت أمره, واجتنبت نهيه, ولا بدناً كانت فيه أبداً, فإن عذاب القبر وعذاب الآخرة أثرُ غضب الله وسخطه على عبده, فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار, ثم لم يتب, ومات على ذلك, كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه, فمستقل ومستكثر, ومصدق ومكذب.....ثم ذكر رحمه الله جملة من الذنوب التي يعذبون بها في قبورهم. ثم ذكر كلاماً ينبغي التنبه له والتفكر فيه, قال: ولما كان أكثر الناس كذلك كان أكثر أصحاب القبور معذَّبين, والفائز منهم قليل, فظواهر القبور تراب, وبواطنها حسرات وعذاب, ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات, وفي باطنها الدواهي والبليات, تغلي بالحسرات, كما تغلى القدور بما فيها, ويحق لها, وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.
فاللهم أيقظنا من غفلتنا, قال العلامة المعلمي رحمه الله: ابن آدم, استيقظ من غمرة الغفلة, ولا تغرنك هذه المهلة, فكأنك بهاذم اللذات قد نزل عليك, واختطف نفسك من بين جنبيك,...فدفنت في حفرتك وحيداً, ووجدت ما قدمته لربك عتيداً, فاعلم أن القبر إما روضة من رياض الجنة, وإما حفرة من حُفر النار, فلا يزال في نعيم إن كان من الأخيار, أو جحيم إن كان من الأشرار, حتى تحشر الناس.
هذه البيوت أمرنا بزيارتها بين حين وآخر حتى لا تستحكم غفلتنا عن آخرتنا, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «( كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزورها فإنها تذكر الآخرة ) » [أخرجه مسلم] وفي رواية عند أحمد «( كنتُ نهيتكم عن ثلاث: عن زيارة القبور فزورها, فإن في زيارتها عِظة وعبرة )» ففي زيارة القبور اتعاظ بحال ساكنيها, قال أحد السلف: يا بيوت ما أسكن ظواهرك وفي داخلك الدواهي.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: