لا هجرة بعد الفتح
قال ابن الأثير: الهجرة في الأصل: الاسم من الهجر ضد الوصل. وقد هجره هجرا وهجرانا، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية. يقال منه: هاجر مهاجرة.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
قال -صلى الله عليه وسلم-:
«لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا» [متفق عليه]
لم تكن الهجرة مفترضة بالجملة على أحد إلا على أهل مكة، فإن الله عز وجل افترض عليهم الهجرة إلى نبيهم، حتى فتح عليه مكة فقال حينئذ -صلى الله عليه وسلم-: «(لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)» فمضت الهجرة على أهل مكة، من كان مهاجرا لم يجز له الرجوع إلى مكة واستيطانها وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل افترض عليهم المقام معه، فلما مات صلى الله عليه وسلم افترقوا في البلدان، وقد كانوا يعدون من الكبائر أن يرجع أعرابيا بعد هجرته.
«(لا هجرة بعد الفتح)» أي لا هجرة مبتداة يهجر بها المرء وطنه هجرانا لا ينصرف إليه من أهل مكة وقريش خاصة بعد الفتح، وأما من كان مهاجرا منهم فلا يجوز له الرجوع إليها على حال من الأحوال ويدع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بقي من الهجرة باب باق إلى يوم القيامة وهو المسلم في دار الحرب إذا أطاقت أسرته أو كان كافرا فأسلم لم يحل له المقام في دار الحرب، وكان عليه الخروج عنها فرضا واجبا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «(أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تراءى نارهما)» [أبو داود والترمذي] وكيف يجوز لمسلم المقام في دار تجرى عليه فيها أحكام الكفر وتكون كلمته فيها سفلى ويده وهو مسلم، هذا لا يجوز لأحد.
فالمسلم مسلم حيثما كان، والإسلام لا يرخِّص للمسلم في معصية أياً كان مكانه، أما إن كان ممن قال الله فيهم: { {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} } [النحل:106]، فهذا شيء آخر.
فإذا كان يُكرَه في بلد الكفر على مخالفة أو ترك دينه، فلا يحق له أن يقيم، وتعينت عليه الهجرة، ولذا اختلف العلماء في حكم الهجرة هنا هل هي واجبة أو مندوبة؟ فبعضهم يقول: (لا هجرة بعد الفتح)؛ ولكن إذا ضُيِّق عليه في بلد الكفر، ولا يستطيع أن يقيم شعائر دينه تعينت عليه الهجرة كما يتعين عليه أن يصلي ويصوم.
قال ابن الأثير: الهجرة في الأصل: الاسم من الهجر ضد الوصل. وقد هجره هجرا وهجرانا، ثم غلب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية. يقال منه: هاجر مهاجرة.
والهجرة هجرتان: إحداهما التي وعد الله عليها الجنة في قوله: { {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} } [التوبة:111] فكان الرجل يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه، وينقطع بنفسه إلى مهاجره، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها، فمن ثم قال: (لكن البائس سعد بن خولة) يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة. وقال حين قدم مكة: (اللهم لا تجعل منايانا بها) فلما فتحت مكة صارت دار إسلام كالمدينة وانقطعت الهجرة.
والهجرة الثانية: من هاجر من الأعراب، وغزا مع المسلمين، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى، فهو مهاجر وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة، وهو المراد بقوله: «(لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)» [أحمد وأبو داود]
فهذا وجه الجمع بين الحديثين. وإذا أطلق في الحديث ذكر الهجرتين فإنما يراد بهما هجرة الحبشة وهجرة المدينة. [النهاية في غريب الحديث]
وقال آخرون: الهجرة من دار الحرب إلى دار السلام باقية إلى يوم القيامة، وفي تأويل هذا الحديث قولان:
(الأول) لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام، وإنما تكون الهجرة من دار الحرب، وهذا يتضمن معجزة له، وعلم من أعلام نبوته -صلى الله عليه وسلم- بأنها تبقى دار إسلام لا يتصور منها الهجرة.
(الثاني) أي لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها ما قبل الفتح. كما قال الله تعالى: { {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} } [الحديد:10]
ومن هذا الحديث استنبط أهل العلم أن العمل الواحد قد يتفاضل في وقت عنه في وقت آخر.
كقوله -صلى الله عليه وسلم-: ( «عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي» ) [صحيح الجامع:3974]، وقوله: ( «العبادة في الهرج كهجرة إلي» ) [مسلم، والترمذي، صحيح الجامع:4119]
قال المناوي: (العبادة في الهرج) أي وقت الفتن واختلاط الأمور (كهجرة إليّ) في كثرة الثواب، أو يقال المهاجر في الأول كان قليلاً لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل. قال ابن العربي: وجه تمثيله بالهجرة أن الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحد أقسام الهجرة.
ومثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «(إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه أجر خمسين شهيدا منكم)» [الطبراني]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «(بل ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت، شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، وإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: لا بل أجر خمسين منكم)» [أبو داود والترمذي] والتفاضل هنا في ثواب العمل وليس في المكانة، فمكانة الصحابة لا يعدلها أحد.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولكن جهاد ونية) معناه: ولكن لكم طريق إلى تحصيل الفضائل التي في معنى الهجرة، وذلك بالجهاد، ونية الخير في كل شيء، وبه يعلم أن النوايا مطايا عظيمة، بها يرتقي المسلم إلى أعالي الدرجات، فمن صدقت سريرته وأراد وجه الله تعالى، عظم الله أجره، وأجزل مثوبته، بفضله وكرمه جل وعلا.
وقوله: (وإذا استنفرتم فانفروا) أي إذا دعاكم السلطان إلى الغزو فاذهبوا.
قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله والمعنى أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك (وإذا استنفرتم فانفروا) قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الإمام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الأعمال الصالحة فاخرجوا إليه. [تحفة الأحوذي]
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: