كيف سيكون حالنا بعد رمضان

منذ 2021-05-17

لقد رحلَ شهرُ الطاعات بأعمالكم، وخُتِمَ على ما قدمتُم فيهِ من طاعاتكم.. والشهورُ والأعوام، والليالي والأيام، إنما هيَ مقاديرُ للآجال، ومواقيتُ للأعمال، تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والموتُ مِيعادٌ مؤقتٌ لا يُؤخَّرُ من حضرت ساعتهُ

كيف سيكون حالنا بعد رمضان

اللّبيبُ يا عبادَ اللهِ من تفكّرَ في مآله، والحازمُ من تزوّدَ لارتِحاله، والعاقلُ من جدَّ في صالحِ أعمالِه.. تأمَّلَ في المصِير، فجانَبَ التّقصير، تفكَّرَ في ذُلِّ المقامِ، فاجتنَبَ الحرام، نظرَ في عيوبه، فاستغفرَ لذنوبه، ثمَّ جدَّ واجتهد، وجاهدَ وصمد، فأمامَهُ يومٌ لا يُغني فيه ربِّ ارجعون، ولا يَنفَعُ فيه مَالٌ وَلا بَنُونَ.. إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

 

معاشرَ المؤمنين الكرام: لقد رحلَ شهرُ الطاعات بأعمالكم، وخُتِمَ على ما قدمتُم فيهِ من طاعاتكم.. والشهورُ والأعوام، والليالي والأيام، إنما هيَ مقاديرُ للآجال، ومواقيتُ للأعمال، تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا، والموتُ مِيعادٌ مؤقتٌ لا يُؤخَّرُ من حضرت ساعتهُ، والأيامُ خزائنُ حافظةٌ للأعمال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]، وفي الحديث القدسي الصحيح: «يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجدَ خيرًا فليحمد الله، ومن وجدَ غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه»..

 

فما أجملَ الطاعةَ، تعقُبها الطاعة، وما أبهى الحسنةَ، تتبعُها الحسنة، تِلكم هي الباقياتُ الصالحات، التي رغَّب فيها ربُّ الأرضِ والسموات، وحثَّ عليها أشرفُ البريات صلوات الله وسلامه عليه. وفي مداومة المسلمِ على الطاعة بعد مواسمِ الخيرِ المضاعفةِ دليلٌ على الهداية والتوفيق، ففي الحديث الصحيح: «خيرُ الناسِ من طالَ عمرهُ وحسنُ عمله».. ولئن كانَ رمضانُ قد ودعنا فإن الأعمالَ الصالحةَ لا تتوقفُ برحيله، وإنما رمضانُ مدرسة، فمن ذاقَ حلاوةَ الصيامِ في رمضان فليعلم أن البابَ سيظلُ مفتوحًا للمواصلة بعد رمضان، فقد سنَّ لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صيامَ ست أيامٍ من شوال، وصيامَ ثلاثة أيام من كلِّ شهرٍ، ويومَ عرفة، ويومَ عاشوراء، وسَنَّ لنا صيامَ الاثنين والخميس من كلِّ أسبوع..

 

وكذلك يا عباد الله من استشعرَ لذةَ المناجاةِ في رمضان، وأبصرَ الأثرَ الجميلَ للذكر والدعاء والإلحاحَ على الله تعالى، فليعلم أن الله تعالى قريبٌ يجيبُ دعوة الداع إذا دعاهُ في كلِّ وقتٍ وحين، بل ويناديه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، بل جاء في الحديث الصحيح: «ما على الأرض مسلمٌ يدعو الله بدعوةٍ إلا آتاه اللهُ إياها أو صرفَ عنهُ من السوء مثلها، ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعة رحم»، فقال رجلٌ من القوم: إذًا نكثر؟ قال: "اللهُ أكثر".

 

وكذلك يا عباد الله من تعطرَ فمهُ بتلاوة القرآن، وأمضى أوقاتًا طويلةَ خلالَ رمضان يتلو كتاب ربه، فليواصل مُعاهدةَ القرآن، وليكن له وردٌ يومي يحافظ عليه، فقد كان هذا هو هدي السَّلف رحمهم الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30].

 

وكذلك من حافظَ على صلاة التراويحِ طوالَ رمضان فليواصِل ولو بثلاث ركعات، فالحق تبارك وتعالى يقول: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: «أقربُ ما يكونُ الربُّ من العبد في جوف الليلِ الآخر، فإن استطعتَ أن تكونَ ممن يذكرُ الله في تلك الساعة فكن».

 

وفي بذل المالِ أجرٌ وطُهرٌ وسِعةٌ في الرزق ووعدٌ من الكريم سبحانه بالخلف، فلنستمر في هذا العمل الجليل ولو بأقل القليل، يحدونا قولَ الحقِّ جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، وما جاء في الحديث الصحيح: «إن الله ليربي لأحدكم اللقمة حتى تكون في ميزانه كجبل أحد».

 

معاشر المؤمنين الكرام: لقد كانَ للجدِّ في رمضان رونقًا بهيًا، وطابَعًا زكيًا، استطعمت القلوبُ حلاوةَ القرآن، وتلذذت النفوسُ بروحانية القيام، وانشرحت الصدورُ بصنوف الخيرات والطاعات، وكم من نفوسٍ تعلمت وتربت؛ وكم من هممٍ سمت وعلت، وكم من عزائمٍ قويت واشتدت، فاهتزت وربت.. ثم أينعت وأثمرت، فأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيج.. وليعلم ذوو الألبابِ والحجى أن المسارعةَ في الطاعات، والمسابقةَ في الخيرات ليست مقصورةً على مواسم وأزمنةٍ مُعينة، بل هي عامةٌ لجميع حياة المسلم، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 98، 99]. وَقَالَ سُبحَانَهُ عَن عِيسَى عَلَيهِ السَّلامُ: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].

 

وإنما خُصت بعضُ المواسمِ بمزيد فضلٍ، رحمةً من الله ومِنحة؛ ليستكثرَ العبدُ من الخيرات، وليتدارك بعضَ ما فرطَ فيه أيامَ الغفلات، فغَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت، وَيَحصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا، إِنْ أَحسَنُوا، أَحسَنُوا لأَنفُسِهِم، وَإِنْ أَسَاؤُوا، فَبَئِسَ مَا صَنَعُوا.

 

ثمَّ إن المكاسبَ التي حصَّلها المسلمُ في رمضان، ينبغي أن تكونَ مُرغبةً له في زيادة العمل، لا أن تكونَ مدعاةً للتقاعُسِ والكسل.. كيف وقد استقامت النفوسُ على الدرب، وذاقت حلاوةَ القُرب، وهل يصحُّ لمن أصبحَ سيدَ نفسهِ أن يعودَ باختياره، ليقعَ أسيرًا للخطايا والذنوب.. وحُقَّ للمؤمنِ أن يتساءل: فأين أثرُ رمضان، إذا هُجرَ القرآن.. وأينَ أثرُ الطاعةِ إذا تُركت صلاةُ الجماعة.. وأينَ أثرُ الصدقاتِ والقُرباتِ إذا انتُهِكت المحرمات.. فلنتأمل كلامَ ابن القيم رحمه الله إذ يقول: "فبين العملِ والقلبِ مسافة، في تلك المسافةِ قُطَّاعٌ تمنعُ وصولَ العملِ إلى القلب، فيكونُ الرجلُ كثيرَ العملِ، وما وصلَ منهُ إلى قلبه محبّةٌ ولا خوفٌ ولا رجاءٌ ولا زهدٌ في الدنيا ولا رغبةٌ في الآخرة، ولا نورٌ يفرقُ به بين أولياء اللهِ وأعدائه... - ثم يقول رحمه الله -: فلو وصلَ أثرُ الأعمالِ إلى قلبه لاستنارَ وأشرقَ، ورأى الحقَّ والباطل". انتهى كلامه رحمه الله.

 

فيا أهل الطاعة، إنَّ الله لا يريدُ من سائرِ عباداتنا مجرد الأفعال والحركات، وإنما يطلبُ منا - سبحانهُ - ما وراءَ ذلك من الهُدى والتقوى والإخبات، قال جلَّ وعلا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

 

عَرَفتُم يا عباد اللهِ فَالزَمُوا، وَبَدَأتُم فَاستَمِرُّوا، وَوُفِّقتُم فلا تَتقهقروا.. الزَمُوا هذا الطريقَ المُستقيم، واستَمِرُّوا على هذا النهجِ القويم، فربُكم غَفُورٌ شَكُورٌ، لا يَزِيدُ عَبدًا أَقبَلَ عَلَيهِ إِلاَّ تَوفِيقًا، جاء في محكم التنزيل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]، وفي الحديث القدسي الصحيح: «من تقرَّب إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُه هَرولةً».

 

معاشر المؤمنين الكرام: لقد تعلمنا في مدرسة رمضان أحسنَ الدروسِ، وأبلغَ المواعظ، تعلّمنا كيف نقاومُ نزغات الشيطان، وكيف نتغلبُ على هوى النفس الأمارةِ بالسوء.. لقد تراصَّت صفوفنا في رمضان، فينبغي أن لا تتناثر بعد رمضان، لقد ذرفت العيونُ دموعها في رمضان، فلنحذر أن يصيبها القحط والجفاف بعد رمضان، لقد لهجت الألسنُ بالذكر والدعاء في رمضان، فليدم هذا الجلالُ والجمالُ بعد رمضان، لقد امتدت الأيدي بالعطاء السخي في رمضان، فلا يليقُ أن تُقبَضَ بعد رمضان، لقد تسابقَ المتسابقون إلى الخيرات في رمضان، فلا يحسُنُ أن يَتوقفَ هذا السباقُ بعد رمضان.

 

فلنجعل أحبتي الكرام من نسمات رمضانَ المشرقة، مفتاحَ خيرٍ لسائر العام، ومنهجَ حياةٍ لكلِّ الأحوال، ففي الحديث الصحيح: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز"، وفي الحديث الآخر: "أكلفوا مِنَ الأعمالِ ما تُطيقون؛ فإن اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأعمالِ إلى اللهِ أدومها وَإِنْ قَلَّ".. واطلبوا من الله العونَ والهداية، وتأملوا هذه الوصية النبوية الغالية: "يا مُعاذُ: وَاللهِ إني لأُحِبُّكَ، فلا تَدَعَنَّ دُبَرَ كُلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللهم أَعِنِّي على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عِبادَتِكَ"، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].

اللهم صل على محمد...

______________________________________________
المؤلف: الشيخ عبدالله محمد الطوالة

  • 3
  • 0
  • 3,544

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً