الخصوصية والاستثناء الثقافي
القرية الصغيرة أو العالم الواحد أو الأممية أو عالمية المواطن (الكوسموبوليتية) أو النظام العالمي الجديد أو الكونية أو الكوكبية، كلُّها تعبيرات مختلفة لمؤدى واحد، هو - باختصار شديد - الهيمنة في أحد مفهومات العولمة، التي يراها كثيرون على أنها ثوب جديد للاحتلال
نوقش في مقالات سابقة مصطلح العلمانية على أنه من النماذج السبعة التي تم انتقاؤها لتكون أمثلة لاضطراب المصطلح المنقول وقلقه، وربما وجد ارتباطٌ بين العولمة والعلمانية، من منطلق أن لهما صلة بالعالمية من وجه من الوجوه حسبما جرى تفصيله في الفصل الأول، وإن أقرب نسبة إلى العالمية هي ما اصطلح عليه بالعولمة بجعل الأمم معولمة؛ أي منصهرة في عالم واحد، أو قرية صغيرة اقتصاديًّا وسياسيًّا، كما يكثر ترديده، بدلًا من كونها شعوبًا وقبائل لتتعارف فيما بينها وتتعاون وتتحالف.
القرية الصغيرة أو العالم الواحد أو الأممية أو عالمية المواطن (الكوسموبوليتية) أو النظام العالمي الجديد أو الكونية أو الكوكبية، كلُّها تعبيرات مختلفة لمؤدى واحد، هو - باختصار شديد - الهيمنة في أحد مفهومات العولمة، التي يراها كثيرون على أنها ثوب جديد للاحتلال[1]،وهناك من يرى أن التعبير بالكوكبية ألصق بالمقابل الأجنبي من العولمة، إلا أن مصطلح "العولمة" قد طغى استخدامه على نطاق واسع، وأقرَّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فلا مجال للتنصُّل منه[2].
ربما يُعدُّ الإقبال على هذا المفهوم كذلك نمطًا جديدًا من أنماط التغريب في التعليم والثقافة والحياة الاجتماعية[3]، ويختلف الطرح على أي حال بين القبول والرفض للعولمة، وداخل التوجهين نفسيهما اختلاف في الموقف بين اللين والحدة[4]، وربما تبين من محصلة النقاش الطويل حول مفهوم العولمة أنه لفظ جديد لمفهوم قديم، وليس ظاهرةً جديدة، كما يظن البعض[5].
ومن هنا يبرز المصطلح "العولمة" على أنه مصطلح مخادع، لا صلة له بالعالمية (Universalism)، والفرق بينهما "كبير" جدًّا؛ لأن العالمية هي الارتقاء بالخصوصية نحو مصاف التعميم العالمي بطريقة العرض لا الفرض،أما العولمة - كما يتضح من سياستها - فهي كبتٌ للخصوصيات الأخرى، ومنع لانطلاقها، ووَأْدٌ وإقصاء لكل هوية تريد إظهار نفسها، يترافق ذلك مع تعميم النمط الثقافي الاستهلاكي الأمريكي"[6]،والملاحظ هنا أن معظم الأطروحات السلبية من العولمة إنما تعرفها بالهيمنة عمومًا، والأمريكية خصوصًا، حتى قيل: إنها "أمركة" أكثر من كونها عولمة ذات اتجاهين[7].
ومع أن مصطلح العولمة مخادع، فإن فيه كذلك كثيرًا من التضليل والتزييف لوعي الأمم والشعوب[8]، اختلطت فيه مفهومات قديمة؛ كالتنصير والغزو الفكري، أو الغزو الثقافي بلفظ أكثر قبولًا وأكثر حيادية من تلك المصطلحات، التي اكتسبت على مر الزمن مفهومات غير مقبولة في أذهان العرب المسلمين وغيرهم من الأمم التي أدركت أن هذا النهج لا يعدو كونه تلاعبًا بالألفاظ، وفي الوقت نفسه الإبقاء على مفهومات قديمة موجهة إلى المجتمعات النامية[9].
ومن هنا يأتي رفض العولمة عند بعض المفكرين، بحجة أنها، بمفهوماتها لا بلفظها، تتعارض مع الإسلام، مع أن هناك طرحًا استقبل المصطلح من مفهوم أن الإسلام نفسه دينٌ عولمي، ويستفيد من العولمة، لا سيما العولمة الثقافية والاتصالية والتقنية، ثم أخيرًا العولمة الاقتصادية التي كانت هي مبعث هذا المفهوم، وذلك بعد الهزة الاقتصادية التي أودت بالعالم في شهر رمضان المبارك من سنة 1429هـ الموافق سبتمبر 2008م،فالتفت اقتصاديون إلى التفكير، مجرد التفكير، في البدائل للرأسمالية، فوجدوا من البدائل الحاضرة والممارسة المنهج الإسلامي في الاقتصاد؛ حيث يدور حوار جادٌّ وتخصصي حول إمكانية تبني هذا المنهج، إلى أن وصل النقاش والحوار في النظر إلى تبني المفهوم الإسلامي للاقتصاد إلى الأجهزة البرلمانية في الدول الغربية (الكونجرس الأمريكي نموذجًا).
ولا بُدَّ من الاعتراف بأن عناصر مستفيدة من الوضع الاقتصادي المتأزم ستسعى إلى الحيلولة دون النظر في هذا البديل الفاعل، وربما ساندهم فيه بعض من مفكري العربية الذين آمنوا بالنموذج الغربي منهجًا للحياة، وما اقتنعوا بجدوى البديل على اعتبار أنه ذو دلالة دينية غير مقبولة لمن عدُّوا الدِّين قيدًا من القيود التي تحول دون الإقلاع، وربما أن بعضهم يدخل في دائرة المستفيدين من الوضع الاقتصادي الحالي، بل لقد قيل من أحد المسلمين ممن درسوا الاقتصاد من وجهة نظر غربية وفي مدارس غربية، وذلك في إحدى المناسبات الرسمية: إنه لو طُبِّق المفهوم الإسلامي للاقتصاد، لانهار الاقتصاد العالمي خلال أربع وعشرين ساعة!
ومن هنا يأتي الرفض لنقاش البديل الإسلامي في هذه الحال، ناهيك عن الاقتناع به؛ولذلك يقول مؤلفا كتاب: ما العولمة: "إن من الحصافة بمكان أن ندرس النظام الاقتصادي العالمي من منظور تاريخي أطول، وأن نُقرَّ بأن التغيرات الحالية وإن كانت مهمة ومتميزة فإنها ليست بلا سابق، كما أنها لا تنطوي بالضرورة على نقلة باتجاه نمط جديد من النظام الاقتصادي"[10]،وعلى أي حال فالنقاش هنا لا يرقى إلى الخوض في الجانب الاقتصادي من العولمة، وإنما ينصبُّ النقاش على العولمة الثقافية.
"عندما يكون المقصود بالعولمة أن الليبرالية الجديدة ينبغي أن تُفرض في كل مكان، وأنه ما من طريق آخر إلا الذي ترضى عنه العولمة الكبرى، وأن فكرًا واحدًا ينبغي أن يسود، فإن ذلك ولا شك إساءة لاستخدام اللغة، لا تختلف في شيء عن إساءة استعمال السلطة"[11].
رفض العولمة جملة وتفصيلًا وقبولها جملة وتفصيلًا يعود فيما يعود إليه إلى غموض المصطلح، وعدم تحريره عندما يطرح كلمة مفردة غير مقيدة بوصف يعين على تحديد مفهومها،أما إذا قيدت بوصف كان الموقف متوازنًا، كأن يُقال: العولمة الاقتصادية، أو عولمة الاتصال، أو العولمة السياسية، أو العولمة الثقافية، أو حتى العولمة الاجتماعية، وعليه فإن لفظ العولمة لا يحتمل الوقوف كلمة مفردة دون داعم من وصف يحدد الموقف منه قبولًا أو رفضًا، أو بين بين في موقف حيادي إيجابي متوازن[12].
الموقف الحيادي الإيجابي المتوازن من العولمة من منطلقها الفكري يأتي ليؤكد على الخصوصية الثقافية الدالة لا الحاصرة، ذات السمات البنائية القابلة للتمثل عالميًّا، غير المحصورة على عِرْق أو إقليم أو قومية، ويدعو إلى "عولمة تؤكد السيادة الفكرية العربية، وترسِّخ الهوية الثقافية العربية، وتتعاون مع الدول الأخرى في تبادُل الثقافات والمعلومات؛ توخيًا لإشاعة قِيَم التسامح الفكري وترسيخ الهوية الثقافية العربية"[13]،والواضح مِن هذا النص المنقول عن محمدإبراهيم الفيومي أنه يركز على العولمة الثقافية.
ولذلك يستحضر هنا مرة أخرى ما سبق طرحه في الفصل الأول من هذا الكتاب لأهميته ومناسبته للمقام ما ظهر بالأفق الغربي قبل أن يظهر بالأفق العربي والإسلامي والآفاق الثقافية الأخرى من مصطلح "الاستثناء الثقافي" الذي دعت إليه فرنسا على لسان صنَّاع القرار الثقافي سنة 1413هـ/ 1993م، في رد فعل للسعي إلى طغيان الثقافة المهيمنة ذات الاتجاه الواحد، من خلال منظمة الجات General Agreement on Tariffs and Trade (Gatt)[14]، وقد وافقت على هذا المفهوم في الاستثناء الثقافي عددٌ من الثقافات الأخرى التي تنادي بقدر من "الخصوصية الثقافية" الدافعة لا الحاضرة[15].
وكما ذُكر من قبلُ، فقد تأكد مطلب "الاستثناء الثقافي" في اللقاء الذي عُقد في اليونسكو في شهر رمضان المبارك من سنة 1426هـ الموافق أكتوبر من سنة 2005م، بموافقة 185 دولة، ومعارضة كل من الولايات المتحدة والدولة اليهودية في فلسطين المحتلة، وامتناع أربع دول عن التصويت، ومنذ ذلك الوقت تقود فرنسا مفهوم "الاستثناء الثقافي" في وجه منظمة التجارة العالمية[16]، جاء ذلك كله للحيلولة دون تعميم النموذج الثقافي الأمريكي الذي يتَّسم بالسطحية والحداثة على حساب الموروث الأوروبي الضارب في القدم، ويأتي على حساب الانتماء الثقافي كذلك.
ومِن اضطراب المفهوم تأتي الدعوة إلى "العولمة الإسلامية"، ويقصد بها هذا الفريق الداعي إليها حصر المفهوم على المسلمين، بحيث تقوى عُرَى المسلمين وتحافظ على دينهم ومعتقداتهم وتراثهم، وترفع من شأنهم دون اعتبار للجهوية أو الحدود، بل المقصود المسلمون في كل مكان، وأحسب أنه ينبغي أن يكون لهذا المفهوم اصطلاحٌ غير العولمة [17].
[1] انظر: علي حسين الجابري. العرب ومنطق الإزاحات: دراسة في حقيقة العولمة ومصيرها - عمان: دار مجدلاوي، 1426هـ/ 2005م - ص 29 - 43.
[2] انظر: عصام عبدالله. الأسس الفلسفية للعولمة - الرياض: المجلة العربية، 1430هـ - ص40 - (سلسلة كتاب العربية، التأليف؛ 1).
[3] انظر: عصام نور. العولمة وأثرها في المجتمع المسلم - الإسكندرية: مؤسسة شباب الجامعة، 2005م - ص 18.
[4] انظر: حسن حنفي وصادق جلال العظم. ما العولمة؟ - ط 2 - دمشق: دار الفكر، 1422هـ/ 2002م - ص11 - 17 - (سلسلة حوارات لقرن جديد).
[5] انظر: حسن حنفي وصادق جلال العظم. ما العولمة؟ - المرجع السابق - ص 17 - 23 و87.
[6] انظر: أحمد الرمح. تهافت العولمة: رؤية إسلامية - دير الزور: مكتبة الإيمان، 2004م - ص 18.
[7] انظر: إبراهيم نافع. انفجار سبتمبر بين العولمة والأمركة - القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1422هـ/ 2002م - ص 256ص.
[8] انظر: حسين عبدالهادي. العولمة النيوليبرالية وخيارات المستقبل - جدة: مركز الراية للتنمية الفكرية، 1424هـ/ 2004م - ص 106.
[9] انظر: سميح عاطف الزين. عالمية الإسلام ومادية العولمة - مرجع سابق - ص 62 - 73.
[10] انظر: بول هيرست وجارهام طومبسون. ما العولمة؟: الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم/ ترجمة فالح عبدالجبار - الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1422هـ/ 2001م - ص 7 - (سلسلة عالم المعرفة؛ 273).
[11] انظر: فهد بن عبدالعزيز السنيدي. حوار الحضارات: دراسة عقدية في ضوء الكتاب والسنة - الرياض: قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1430هـ/ 2009م - ص 35 - (رسالة علمية).
[12] انظر: محمد إبراهيم الفيومي. إشكالية التحدي الحضاري بين الإسلام والغرب: ثقافة ازدراء وحوار مفقود وعولمة استياء - القاهرة: دار الفكر العربي، 1427هـ/ 2006م - ص 69 - 101 و117 - 130.
[13] انظر: محمد إبراهيم الفيومي. إشكالية التحدي الحضاري بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 120.
[14] انظر: http:/ / en. Wikibedia. Oig/ wiki/ cultural - exception (1/ 12/ 1429هـ 29/ 11/ 2008م).
[15] انظر: علي بن إبراهيم النملة. السعوديون والخصوصية الدافعة: وقفات مع مظاهر التميز في زمن العولمة - الرياض: مكتبة العبيكان، 1428هـ/ 2007م - 312ص، وعلى هذا المرجع وغيره من إسهامات الباحث حول موضوع الخصوصية الثقافية تتكئ هذه الدراسة وتقتبس كثيرًا منها.
[16] انظر: Catherine Trautmann. The cultural exception is not negotiable - . Le Monde - . (October 11 th 1999) (1/ 12/ 1429هـ - 29/ 11/ 2008م).
[17] انظر: محمد إبراهيم الفيومي. إشكالية التحدي الحضاري بين الإسلام والغرب - المرجع السابق - ص 120.
_______________________________________________
المؤلف: أ. د. علي بن إبراهيم النملة
- التصنيف:
- المصدر: