الحث على الاجتهاد في طلب العلم والعمل به
لكي يقوم الداعية إلى الله بمهام الدعوة خيرَ قيام، فإن عليه أن يحصِّل من العلوم ما تَتطلَّبُه أعمال الدعوة إلى الله؛ حتى يتمكن من تعليم الناس ودعوتهم على الوجه الصحيح
لكي يقوم الداعية إلى الله بمهام الدعوة خيرَ قيام، فإن عليه أن يحصِّل من العلوم ما تَتطلَّبُه أعمال الدعوة إلى الله؛ حتى يتمكن من تعليم الناس ودعوتهم على الوجه الصحيح، فلا يزيغ في عقيدة، ولا يخطئ في حكم، ولا يَعجِز عن إقناع النفوس المتطلعة إلى معرفة أحكام الأسرار الشرعية، فيكون الإذعان له أتَمَّ، والقبول منه أكمل، فأما الجاهل فضالٌّ مُضِلٌّ، وضررُه أقربُ من نفعه، وما يُفسِده أكثر مما يصلحه، بل لا يُصلِح أصلًا؛ إذ لا تمييز لجاهل بين الحق والباطل، ولا معرفة عنده ترشده إلى إصلاح القلوب وتهذيب النفوس[1].
لذا يجب على كل داعٍ إلى الله العلمُ بشرع الله تعالى، وبالحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، وما يسُوغ فيه الاجتهاد وما لا يسوغ فيه، وعليه أن يستزيد من هذا العلم الشرعي ليعرف موضوع دعوته حقَّ المعرفة، ويكون على بيِّنة، فلا يأمر إلا بالحق، ولا ينهى إلا عن الباطل.
ولأهمية طلب العلم للداعية وضرورته، وأن الداعية الموفَّق هو الذي يدعو إلى الله على علم وهدى وبصيره؛ نجد أن ابن كثير رحمه الله اعتنى بالعلم وبيان قيمته ومنزلته، والحث على تعلمه والعمل به[2]؛ يقول ابن كثير عن تفسير الآية: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]: "من كرمه تعالى أنْ علَّم الإنسان ما لم يعلم، فشرَّفه وكرَّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البريَّة آدمُ عليه السلام على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يسلتزمها من غير عكس"[3].
كما نبَّه رحمه الله إلى منزلة العلماء وفضلهم، فقال عند تفسير الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]: "وإذا تقرَّر... أن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة من هذه الأمَّة، فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة، وأولى الناس بهذه الرحمة؛ فإنهم كما قال الإمام أحمد....... قدم رجل من المدينة إلى أبي الدرداء وهو بدمشق، فقال: ما أقدمك إليَّ أُخَيَّ؟ قال: حديث بلغني أنك تحدِّث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أمَا قدمتَ لتجارة؟ قال: لا، قال: أمَا قدمتَ لحاجة؟ قال: لا، قال: أما قدمتَ إلا في طلب هذا الحديث؟ قال: نعم، قال: فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لَتضعُ أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنه لَيستغفرُ للعالِم مَن في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخَذ به أخَذ بحظٍّ وافر»[4].
وقد حثَّ ابن كثير على طلب العلم وتعلُّمه والعمل به، كما ذكر رحمه الله آداب طالب العلم وتعليمه، فيقول رحمه الله: "قال بعض السلف: لا يَنال العلمَ حييٌّ ولا مستكبِر، وقال آخر: من لم يصبر على ذلِّ التعلم ساعةً، بقي في ذلِّ الجهل أبدًا"[5].
ويحثُّ ابن كثير على تعلُّمِ العلم منذ الصغر وفي فترة مبكرة من حياة الإنسان، فيقول: "عن ابن عباس قال: ما بعَثَ الله نبيًّا إلا شابًّا، ولا أوتي العلمَ عالِمٌ إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]".
كما أشار رحمه الله إلى ضرورة العمل بالعلم، فقال عند تفسير الآية: {كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]:"عن عكرمة، عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن مَن لم يُشرِك به شيئًا، وأحَلَّ حلاله، وحرَّم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقَنَ أنه ملاقيه، ومحاسَبٌ بعمله....... وعن ابن مسعود أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث؛ ولكن العلم عن كثرة الخشية... فالعالِم بالله وبأمر الله الذي يَخشى الله، ويعلم الحدود والفرائض"[6].
وكذلك أشار رحمه الله إلى الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم؛ كسؤال العالم بأدب ولطف، وليس على وجه الإلزام والإجبار، يقول عند تفسير الآية: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف: 66]:"سؤال بتلطف، لا على وجه الالزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلِّم من العالم"[7].
ومن الآداب التي ذكرها "النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا عَلِم بها الشخص ساءتْه، فالأَولى الإعراضُ عنها وتركُها"[8]، وكذلك الشيء الذي ليس في ذكره فائدة ولا مقصد شرعي، فلا يتعين معرفته، يقول ابن كثير عند تفسير الآية: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 17]: "وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبُّره، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا مقصد شرعي... ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لَأرشَدَنا الله ورسوله إليه"[9].
وغيرها من الآداب والأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية العالم وطالب العلم[10].
[1] انظر مستلزمات الدعوة في العصر الحاصر للشيخ علي بن صالح المرشد ص 212 طبعة مكتبة لينه للنشر والتوزيع بدمنهور. الطبعة الأولى 1409هـ.
[2] للاستزادة انظر كتاب منهج الحياة الإسلام، للأستاذ الدكتور محمد زين الهادي ص 81 -125 بعنوان الإسلام والعلم، طبعة دار العاصمة بالرياض، الطبعة الأولى 1409هـ.
[3] انظر تفسير القرآن العظيم 4/ 630.
[4] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 682، والحديث أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب فضل العلم رقم (3641)، والترمذي كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة رقم (2682)، وابن ماجه، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم رقم (223).
[5] المرجع نفسه 3/ 679 عند تفسير الآية: 28 من سورة فاطر.
[6] المرجع نفسه 3/ 679.
[7] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 123.
[8] المرجع نفسه 2/ 138
[9] المرجع نفسه 3/ 98.
[10] انظر مثلًا المرجع نفسه 4/ 53 عند تفسير الآية: 86 من سورة ص، وكذلك 4/ 623 عند تفسير الآية: 10 من سورة الضحى.
- التصنيف:
- المصدر: