الدرة من حديث لقيط بن صبرة (1)
وفيه: عدم التكلف للضيف؛ حتى لا يكون ذلك سبباً في نفرة الضيف، ولهذا فإنهم قدموا لهم ما تيسر وذبحوا لهم
بسم الله الرحمن الرحيم
عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ « كُنْتُ وَافِدَ بَنِي الْمُنْتَفِقِ أَوْ فِي وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ نُصَادِفْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَصَادَفْنَا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فَأَمَرَتْ لَنَا بِخَزِيرَةٍ فَصُنِعَتْ لَنَا قَالَ وَأُتِينَا بِقِنَاعٍ وَالْقِنَاعُ الطَّبَقُ فِيهِ تَمْرٌ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هَلْ أَصَبْتُمْ شَيْئًا أَوْ أُمِرَ لَكُمْ بِشَيْءٍ؟) قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذْ دَفَعَ الرَّاعِي غَنَمَهُ إِلَى الْمُرَاحِ وَمَعَهُ سَخْلَةٌ تَيْعَرُ. فَقَالَ: (مَا وَلَّدْتَ يَا فُلَانُ؟) قَالَ: بَهْمَةً. قَالَ: (فَاذْبَحْ لَنَا مَكَانَهَا شَاةً) ثُمَّ قَالَ: (لَا تَحْسِبَنَّ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّا مِنْ أَجْلِكَ ذَبَحْنَاهَا، لَنَا غَنَمٌ مِائَةٌ لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ، فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً ذَبَحْنَا مَكَانَهَا شَاةً) قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ فِي لِسَانِهَا شَيْئًا يَعْنِي الْبَذَاءَ قَالَ: (فَطَلِّقْهَا إِذًا) قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لَهَا صُحْبَةً وَلِي مِنْهَا وَلَدٌ. قَالَ: (فَمُرْهَا يَقُولُ عِظْهَا فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ فَسَتَفْعَلْ وَلَا تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ) فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ؟ قَالَ: (أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا)» . [سنن أبي داود:123]
هذا الحديث من المواقف العملية التي تفيض بتعاليم سلوكية ودرر نبوية، وقد روي في صورة حكاية تستسيغها الأسماع وتستطيبها الأفهام، وفيه فوائد شتى وقيم عليا، سواء من ضوابط الحوار وأصول المعتقد، ومن جهة العلاقات الاجتماعية والأسرية، فضلا عن النواحي الفقهية التعبدية.
قوله: " كُنْتُ وَافِدَ بَنِي الْمُنْتَفِقِ أَوْ فِي وَفْدِ بَنِي الْمُنْتَفِقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
الوافد واحد الوفد، والوفْد: القوم الذين يأتون الملوك ركباناً، وقيل: هم القوم يجتمعون ويردُون البلاد، والذين يقصدون الأمراء للزيارة أو الاسترفاد [الإعانة والصلة]. وبني المنتفق اسم قبيلة راوي الحديث الصحابي الجليل لقيط بن صبرة رضي الله عنه.
"فَلَمْ نُصَادِفْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَصَادَفْنَا عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ"
وهذا دليل واضح أنه يجوز استعمال لفظ «الصدفة، والمصادفة»؛ عكس بعض الناس الذين قد يشكون في جوازه؛ لأنهم يعتقدون أن استعمال مثل هذا اللفظ ينافي الإيمان بالقدر، والواقع أن المؤمن يعرف أن كل شيء بقضاء وقدر، لكن إذا كان الشيء غير مرتب فقد يعبر عنه بالصدفة، وقد تستعمل لفظ الصدفة والمصادفة في اللقاء.
لم نصادفه يعني: لم نلقه أو لم نقابله؛ لأنهم جاءوا -والله أعلم- على غير ميعاد.
إذا المقصود بقولنا «صدفة» أي بالنسبة لي ولك، وأما بالنسبة لله عز وجل فلا يقال هذا، فالله تعالى علم الأشياء وكتبها في اللوح المحفوظ، فمن قال عمدا -بالنسبة لله-: إنه فعل هذا صدفة فقد أخطأ وأجرم؛ لأنه نسب الله للجهل وأنكر القدر، لكن قوله: لقيت فلاناً صدفة يعني بالنسبة لي أنا وهو، فهي صدفة، يعني: من غير ميعاد، ولهذا قال –رضي الله عنه-: فلم نصادفه، وصادفنا عائشة.
"فَأَمَرَتْ لَنَا بِخَزِيرَةٍ فَصُنِعَتْ لَنَا قَالَ وَأُتِينَا بِقِنَاعٍ وَالْقِنَاعُ الطَّبَقُ فِيهِ تَمْرٌ"
الخزيرة ما اتخذ من دقيق ولحم، يقطع اللحم صغاراً، ويصب عليه الماء، فإذا نضج ذُر عليه الدقيق، فإن لم يكن فيها لحم فهي عصيدة، والحريرة: حساء من دقيق ودسم.
وفيه أن الضيف إذا حضر ورب الدار ليس موجوداً، فإن من في البيت من زوجة وخادم يقوم بواجب الضيافة؛ ولهذا قدمت عائشة رضي الله عنها لهم واجب الضيافة من خزيرة وتمر، قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا من كرمها ونبل أخلاقها رضي الله عنها.
ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (هَلْ أَصَبْتُمْ شَيْئًا أَوْ أُمِرَ لَكُمْ بِشَيْءٍ؟) قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُوسٌ إِذْ دَفَعَ الرَّاعِي غَنَمَهُ إِلَى الْمُرَاحِ وَمَعَهُ سَخْلَةٌ تَيْعَرُ. فَقَالَ: (مَا وَلَّدْتَ يَا فُلَانُ؟) قَالَ: بَهْمَةً. قَالَ: (فَاذْبَحْ لَنَا مَكَانَهَا شَاةً) ثُمَّ قَالَ: (لَا تَحْسِبَنَّ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَحْسَبَنَّ أَنَّا مِنْ أَجْلِكَ ذَبَحْنَاهَا لَنَا غَنَمٌ مِائَةٌ لَا نُرِيدُ أَنْ تَزِيدَ فَإِذَا وَلَّدَ الرَّاعِي بَهْمَةً ذَبَحْنَا مَكَانَهَا شَاةً)
الْمُرَاحِ: الموضع الذي تروح إليه الماشية، أي: تأوي إليه ليلاً، والسَخْلَةٌ: ولد الغنم ساعة وضعه من الضأن والمعز جميعاً، ذكراً كان أو أنثى. وقوله: "تَيْعَرُ" صوت الشاة. والبَهْمَةً: صغار الغنم.
قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها) .. فيه ترك الاعتداد به على الضيف، والتبرؤ من الرياء والإعجاب. وبرر -صلى الله عليه وسلم- فعله بقوله: (أن تزيد على المائة) فتكثر لأن هذا القدر كاف لإنجاح حاجتي.
والمقصود فيه عدم الإدلال عليه بأننا ذبحنا هذه الذبيحة من أجلك، خلافاً لما قد يفعله بعض الناس من إظهار الإكرام للضيف بأشياء قد لا تكون حقيقية، وقد تكون حقيقية، ولكن ليس للضيف فائدة منها، فإذا أكرم الإنسان ضيفه بما يجب له وما يستحق وما يطيب خاطره، فلا يلزم أن يشعره بأنه ذبح من أجله.
وفيه: عدم التكلف للضيف؛ حتى لا يكون ذلك سبباً في نفرة الضيف، ولهذا فإنهم قدموا لهم ما تيسر وذبحوا لهم، وقال لهم: لا تحسبن أنا ذبحناها من أجلكم، بل عندما مائة لا نحب أن تزيد، فإذا ولد الراعي واحدة ذبحنا مكانها فلا نتكلف، فإذا لم يتكلف للضيف صار هذا سبباً في مجيء الضيوف، وأما إذا تكلف صار هذا سبباً في بعد الضيوف وعدم مجيئهم؛ خوفاً من التكلف.
قوله: (لا تحسبن) بكسر السين كأنها لغة، قال النووي في شرحه: مراد الراوي أنه صلى الله عليه وسلم نطق هاهنا مكسورة السين ولم ينطق بها بفتحها، فلا يظن الظان أني رويتها بالمعنى على اللغة الأخرى، أو شككت فيها، أو غلطت أو نحو ذلك، بل أنا متيقن بنطقه صلى الله عليه وسلم بالكسر وعدم نطقه بالفتح.
وهي بالكسر لغة من اللغات، وقد تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما تكلم ببعض لغات أهل اليمن فقال: (ليس من أمبر امصيام في امسفر) أي: ليس من البر الصيام في السفر.
قال الحافظ ابن حجر في «التلخيص»: "هذه لغة لبعض أهل اليمن، يجعلون لام التعريف ميما، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بها هذا الأشعري (يعني: كعب بن عاصم) كذلك لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته، فحملها الراوي عنه، وأداها باللفظ الذي سمعها به. وهذا الثاني أوجه عندي. والله أعلم".
قال بعض أهل العلم: وهذه الظاهرة تسمَّى في علم اللغة الطمطمانيَّة، ومن بقايا هذه اللهجة قولنا: امبارح ، بدلاً من البارحة.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: