الكذب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراءَ وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»
الكذب خصلة ذميمة جارت بصاحبها عن الاستقامة، ومالت به إلى الفجُور؛ فالكذب مجمع الشَّرِّ، فما من خصلة مقيتة إلا والكذب لها خطام أو زمام، فالكذب مطيَّة يَمتَطِيها الكذاب توصله إلى النار؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتَحرَّى الكَذِب حتى يكتب عند الله كذابًا» (رواه مسلم (2607).
وإذا غلبت هذه الخصلة على صاحبها افتُضِح أمرُه، وشاع بين الناس كذِبُه، فأصبح لا يُقْبَل منه قولٌ، وأسوأ من ذلك حينما يعرف في الملأ الأعلى عند الملائكة بهذه الخصلة، فيكون عندهم فلانًا الكذَّاب.
الكذب من خصال النفاق العملي، وصاحبه شبيه بالمنافقين في هذه الخصلة ومتخلِّق بأخلاقهم، فإنَّ النِّفاق أن يُظهِر أمرًا، ويُبطِن خلافَه، وهذا المعنى موجود فى الكذَّاب؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» رواه البخاري (33)، ومسلم (59).
ومما ورد في جزاء الكذابين في البَرزَخ قبل القيامة: ما ورد في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الطويلِ، وفيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى صلاةً أقبل علينا بوجهه، فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا»؟ قال: فإن رأى أحدٌ قصَّها، فيقول: ما شاء الله، فسألنا يومًا، فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا»؟ قلنا: لا، قال: «لكني رأيت الليلة رجلين [جبريل وميكائيل في صورة رجلين]، أتَيَاني، فأخذَا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدَّسة، فإذا رجلٌ جالسٌ، ورجلٌ قائمٌ بيده كَلُّوبٌ من حديد، يدخل ذلك الكَلُّوبَ في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك ويلتئم شدقه هذا، فيعود فيصنع مثله... [قال النبي صلى الله عليه وسلم:] قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فأخبراني عما رأيت، قالا: نعَم، أما الذي رأيتَه يشق شدقه فكذَّاب، يحدث بالْكَذْبَةِ فتُحْمَل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة» رواه البخاري (1386).
والكذب المؤكد باليمين الغموس، المؤدِّي إلى أكل أموال الناس بالباطل - من موجبات غضب الله على العبد؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين كاذبًا؛ ليقتطع مال رجل -أو قال: أخيه- لقي الله، وهو عليه غضبان»؛ رواه البخاري (2677)، ومسلم (138).
سواء اقتَطع المال لنفسه أم لغيره باليمين، فكلاهما باع آخرته بدنيا غيره؛ فالمال آيِلٌ للورثة، والتبعات على المورِّث والشاهد، اللهم ألهمنا رشدنا.
و مما يحمل على الكذب: الحرص على البيع، فيكذب البائع، ويظهر المبيع بخلاف الواقع، ويؤكد ذلك بالحلف؛ لطمأنة المشتري، ولكسب ثقته، فيعامل بنقيض قصده فتشترى السلعة، لكن لا يبارك له في الثمن، فيخسر دنياه وآخرته بعرض من الدنيا؛ فعَن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الحلف منفقة للسلعة، ممحَقة للبركةِ» (رواه البخاري (2087) ومسلم (1606).
إخوتي:
البعض شغف بالتصدر للحديث في المجالس، ويحرص على أن يكون هو الممسك بزمام المجلس، فربما حمله هذا على استمالة أسماع الحاضرين وإضحاكهم، ولو باختلاق الكذب ونسج القصص؛ فعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له» (رواه الترمذي (2315) بإسناد حسن).
أين هذا من التوجيه النبوي: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
ومن قبيح الكذب: ما يحصل من المربين؛ الآباء والأمهات، والمعلمين والمعلمات حينما يتعاملون مع من تحتهم بالكذب، أو يطلبون منهم ذلك، كقولهم: "قل: هو غير موجود أو نائم"، أو حينما يَعِدون الصغار بشيءٍ ثم لا يفون بذلك، فيجمعون بين الكذب وبين تربية الناشئة على الكذب، فمتى يستقيم الظل والعود أعوَجُ؟!
ومن قبيح الكذب: ما يقع ممن بيده ولايةٌ أو عملٌ للمسلمين حينما يكذب على الناس بحجة أن في هذا مصلحةً، وأن العمل لا يمكن أن يسير إلا بهذا مع أنه يدرك في قرارة نفسه أن من يكذب عليهم يعلمون كذبه، وربما صرحوا بكذبه أو أسَّروها في أنفسهم، ولو عدل في عمله لما احتاج إلى الكذب؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر» (رواه مسلم (107).
والمشاهَد من حال طائفة صادقة في عملها، تعدل بين الناس على قدر وسعها، ولا تحابي أحدًا على حساب غيره، يواجهون الناس بالصدق، ويكشفون لهم عملهم وما ضارَّهُم ذلك، بل هم محل إجلال وتقدير الجميع.
فالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على غيره؛ فهو مبلغ عن الله، والكذب عليه اختلاق دين لم يأذن به الله؛ فعن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوَّأ مقعده من النار» (رواه البخاري (1291)، ومسلم (4).
وربما يقع البعض في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر، وذلك من خلال نسبة كل ما سمعه للنبي صلى الله عليه وسلم وليس كل ما نُسِب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يصحُّ، والبَعض من محبته للخير تجده في باب فضائل الأعمال ينشر أحاديث، ويرسلها عبر الهاتف الجوال، ويطلب من الناس نشرها والعمل بها مع أن بعضها موضوع أو ضعفُها شديد، وفي الصحيح غُنْيَة عن الضعيف، فأذكِّر محبَّ الخير ممن يريد نشر السنَّة بين الناس - أن الحديث إذا كان في صحيحَي البخاري ومسلم أو في أحدهما - فقد جاوز القنطرة، فحيَّهلا، أما إن كان في غيرهما فلا بد من التثبت من صحة الحديث؛ وذلك بالرجوع للكتب، أو سؤال أهل الذكر لمن ليس لديه القدرة للرجوع، والأحاديث ولله الحمد مخدومة، فلا يزال الله يُقَيض للسنة من يميِّز صحيحها من ضعيفها.
وإذا كان الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة؛ لأنه مبلِّغ عن ربه عز وجل فالكذب على الله عز وجل أشنَعُ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
فلنحذر الخوض في الأحكام الشرعيَّة، إذا لم يكن عندنا علمٌ بها، ولنترك الكلام في الحلال والحرام لأهله؛ امتثالاً لأمر ربِّنا حيث يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]، فمن كان عنده علم فليقل به، وإلا عليه بقول: لا أعلم؛ ففيها السلامة والنجاة.
إخوتي:
رخَّص الشارع في الكذب للمصلحة الراجحة، فالكذب مفسدة، لكن إذا كانت مفسدته مَغمُورة في مصلحته، ولا يمكن تحصيل هذه المصلحة إلا عن طريق الكذب، فيجوز الكذب في هذه الحال؛ فعن أمِّ كلثوم بنت عقبة: أنها سَمِعَت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذَّاب الَّذي يصلح بين الناس، فَيَنْمِي خيرًا، أو يقول خيرًا» (رواه البخاري (2692)، ومسلم (2605).
في الختام:
أُذَكِّر إخوتي بحديث أبي أمَامَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراءَ وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»؛ رواه أبو داود (4800) بإسناد حسن، فجُعِل البيتُ العلوي جزاءً لأعلى المقامات الثلاثة، وهي حسن الخلق، والأوسطُ لأوسطها، وهو ترك الكذب، والأدنى لأدناها، وهو تركُ المماراة، وإن كان معه حقٌّ.
________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف: