المنافقون والأمر بالمنكر
إن ضياع الأمَّة لا يكون إلا حينما يُتْرَك للأفراد الحبلُ على الغارِب، يعيشون كما يشتهون، يتجاوزون حدود الله، ويعبثون بالأخلاق، ويقعون في الأعراض، وينتهكون المحرَّمات من غير وازِعٍ ولا رادِع
أما بعد:
فإن عنوان خيرية هذه الأمة ودليل فلاحها هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ قال - جلَّ شأنه -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
عبادالله:
في الأمربالمعروف والنهي عن المنكر تثبيتٌ للأمن، وإشاعةٌ للفضيلة، ومنعٌ للرذيلة، وفيه دفعٌ للعقوبات العامة، وعصمةٌ من سخط الله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
فهل بعد ذلك يا مسلمون؟ هل يوجد عاقلٌ يعرف منافع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم لا يقيمه، ولا يدعو إليه، ولا يسانده؟
نعم يوجد، لا؛ بل يوجد مَنْ يأمر بالمنكر، يوجد مَنْ هو عدوٌّ للأمر بالمعروف؛ إنها طائفةٌ فضحها الله وذمَّها، وكشف عن حقيقة ما تدعو إليه.
إنها فئةٌ من عبَّاد الشهوات المريضةُ قلوبُها، إنها فئةُ المنافقين والمنافقات؛ الذين قال الله عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67].
فيا سبحان الله! بأي عقلٍ أو مذهب يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؟! كيف انتكست فِطَرُهُم؟! ماذا يريدون من إشاعة المنكر ومنع المعروف؟ كيف يُتَصَوَّر يا مسلمون حال مجتمع لا يُؤمَر فيه بالمعروف ولا يُنهى فيه عن المنكر؟ بل يُؤمر فيه بالمنكر؟ ما ظنُّكم أيها الغيورون لو تعطَّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
أيها المسلمون:
إن تعطيل الأمر بالمعروف موجِبٌ لسَخَط الله ولعنته: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78 - 79].
تعطيل الأمر بالمعروف سببٌ للعذاب؛ روى الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك؛ عذَّب الله الخاصَّة والعامَّة».
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من قومٍ يُعْمَل فيهم المعاصي، ثم يقدرون على أن يغيِّروا ثم لايغيروا؛ إلا ويوشك الله أن يعمَّهم بعقابٍ» (أبو داود).
وكتب عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - إلى بعض ولاته وعمَّاله: "أما بعد؛ فإنه لم يظهر المنكر في قومٍ قطُّ، ثم لم يَنْهَهُم أهل الصلاح بينهم - إلا أصابهم الله بعذابٍ من عنده، أو بأيدي مَنْ يشاء من عباده، ولايزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات، ما قُمِعَ أهلُ الباطل، واستُخْفِيَ فيهم بالمحارِم".
أيها الفضلاء:
لو طوي بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتعطَّلت الشريعة، واضْمَحَلَّت الدِّيانة، وعمَّت الغفلة، وفَشَت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتَّسَعَ الخَرْق، وخَرِبَت البلاد، وهلك العباد.
إن ضياع الأمَّة لا يكون إلا حينما يُتْرَك للأفراد الحبلُ على الغارِب، يعيشون كما يشتهون، يتجاوزون حدود الله، ويعبثون بالأخلاق، ويقعون في الأعراض، وينتهكون المحرَّمات من غير وازِعٍ ولا رادِع، وحينذاك: ويلٌ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحقِّ من المنافقين، وويلٌ لأهل الصَّلاح من سَفَه الفاسقين.
أيها الناس:
إن مما تميزت به بلادنا - بلاد الحرمَيْن الشريفَيْن -: هو إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل جعلها جزءًا مهمًّا في سياسة الحُكْم؛ فقد جاء في النظام الأساسي للحُكْم؛ في المادة الثالثة والعشرين: (تحمي الدولة عقيدة الإسلام، وتطبِّق شريعته، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم بواجب الدعوة إلى الله).
ولا يزال ولاة أمرنا - وفَّقهم الله - يدعمون هيئات الأمر بالمعروف ويساندونها، ممَّا أَثْمَرَ قَمْعًا للمفسدين، وراحةً للناس الغيورين، ولا ينكِر تلك الجهود إلا مَنْ عَمِيَتْ بصيرته، وعلا الحقد قلبه.
فكم من ساحرٍ أوقفوه، وكم من مصنع خمر كشفوه؟ وكم من فتاةٍ عفيفةٍ أنقذوها من شراك الفاسقين، وكم وكم من جهودٍ كانت سببًا لحماية مجتمعنا؛ فلا حَرَمَهم الله من الأجر.
معشر المؤمنين:
لا يزال أعداء الفضيلة؛ أعداء هيئات الأمر بالمعروف، من المنافقين والمنافقات – لا يزالون يلقون الشُبَه تِلْوَ الشُّبَه، من أجل إسقاط الهيئات، وتشويه صورتها.
فمن شُبَهِهِم: أن للإنسان الحرية، يفعل ما يشاء، كيف يشاء، متى ما شاء! ولا يحقُّ للهيئة التدخُّل في ذلك.
فيُقال: نعم، للمسلم الحرية، لكن ليست الحرية المُنْفَلِتَة من القيود؛ بل حريةٌ في حدود سياج الإسلام وضوابطه، فالهيئة دورها المراقبة والملاحظة، وردّ مَنْ خرج عن تلك الحدود إلى الجادَّة الصحيحة؛ فالمسلم ليس له حقُّ الاختيار أمام أمر الله ورسوله، يقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس تدخُّلاً في خصوصيات الآخرين وحريَّاتهم الشخصيَّة؛ بل هو قيامٌ بواجبٍ أوجبه الله تعالى.
ومن شُبَهِ المنافقين والمنافقات: أنهم يزعمون أن عمل الهيئة يتعارض مع حقوق الإنسان؟
فيُقال: أيّ حقوقِ إنسانٍ يريدون؟ أهي الحقوق التي جاء بها الإسلام، أم الحقوق التي جاءت بها الأنظمة والقوانين الوضعيَّة والغربيَّة؟
أما إن كان المراد حقوق الإنسان التي جاء بها الإسلام: فعمل الهيئة داخلٌ ضمن تلك الدائرة، فمن حقِّ المسلم أن يُرشَد ويُقوَّم ويُمنَع من الوقوع في الحرام، بما يحفظ دينه وعرضه وعقله وماله.
أما إذا كانت حقوق الإنسان التي جاءت بها الأنظمة الغربية الكافرة: فمنها ما هو حقٌّ، ومنها ما هو باطلٌ، ومن باطلها: أنها كَفَلَت حرية الاعتقاد، وحرية العلاقات مع النساء.
فيُقال: نعم، هذا لا يتعارض مع عمل الهيئة فحسب؛ بل يتعارض مع الإسلام؛ فمن دخل في عقد الإسلام ودين الإسلام؛ فليس له الحرية المطلقة: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].
أيها المسلمون:
كلٌّ منَّا مَعْنِيٌّ بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌّ حسب استطاعته؛ قال نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ رأى منكم منكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (مسلم).
واعلموا - رحمني الله وإياكم - أنه كلما نَشَطَ الأمر بالمعروف ضعف الباطل؛ قال سفيان الثوري: "إذا أمرتَ بالمعروف؛ شَدَدْتَ ظهرَ المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر؛ أَرْغَمْتَ أنفَ المنافق".
فيا مسلمون، أيها الغيورون، أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر:
حافظوا على مُكْتَسَبِنا من وجود هيئات الأمر بالمعروف، وكونوا خير معينٍ للقائمين عليها بالتبليغ عن المنكرات، وتصحيح ما يَبْدُر من أخطاء وزلاَّت.
ذُبُّوا ودافعوا عن الهيئات؛ فمن دافع عنها فهو من أنصار دين الله، والله يحب ويعين مَنْ ينصر دينه.
يا مسلمون:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة الجميع، والدفاع عن هذه الشعيرة مهمة الجميع؛ قال ربُّنا - جلَّ وعلا -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [احج: 40 - 41].
_______________________________
الكاتب:الشيخ سليمان السلامة
- التصنيف:
- المصدر: