الدمار ثم الإعمار
من الواجب في هذه الحياة أن يكون العبد على دراية بسنن الله تعالى في خلقه؛ حتى لا يصطدم بها، وربما يخسر خسرانًا مبينًا
إن الحمدَ لله تعالى نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبِعه بإحسان إلى يوم الدين.
توطئة، من الواجب في هذه الحياة أن يكون العبد على دراية بسنن الله تعالى في خلقه؛ حتى لا يصطدم بها، وربما يخسر خسرانًا مبينًا.
كما يجب أن يعلم أن سُنن الله تعالى لا تتغير بالزمان ولا بالمكان، فهي ثابتة ثبوت الجبال الرواسي؛ قال الله تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، فمن جملة هذه السنن الربانية سنة الإهلاك، وهي سنة تأتي بعد كثرة الإفساد في الأرض، فإذا كثر الفساد والظلم والتعدي، تدخلت هذه السنة الحتمية؛ قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
الفساد يقابله الفساد، ففساد البر والبحر والهواء والماء، وفساد الحياة عمومًا، يكون بسبب الفساد في الأرض بانتشار الذنوب والمعاصي، وانتشار الفواحش وسكوت الناس عن تغييرها، ويأخذ الله الناس قدر ذنوبهم وعتوِّهم وصدهم عن سبيل الله؛ قال جل وعلا: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
الركون للدنيا؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
فهذا الإملاء والعطاء هو استدراج لهم لما استعملوه في العصيان والطغيان.
لطيفة: ليس وفرة متاع الدنيا بين يدي العباد، دليلَ فضلهم وحب الله لهم، بل قد يكون فتنة لهم ومتاع إلى حين؛ قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].
عن أَبي موسى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: { «إنَّ الله ليُملي للظالمِ فإذا أخذه لم يفلتْه» [ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (مُتَّفَقٌ عَلَيه).
وأملي لهم: فنمدهم بالأموال والأولاد، ونمدهم في الأرزاق والأعمال؛ ليغتروا ويستمروا على ما يضرهم، فإن وهذا من كيد الله لهم، وكيد الله لأعدائه، متين قوي، يبلغ من ضررهم وعذابهم فوق كل مبلغ؛ تفسير الإمام السعدي رحمه الله.
فسنة الإهلاك تكون بكثرة الفساد والعتو في الأرض، والله جل وعلا لا يظلم مثقال ذرة.
فإذا كثُر الفساد وعمَّ، وأصبح لا يطاق، تدخلت سنة الله بالهلاك، وهي سنة جبرية وواجبة لاستمرار عجلة الحياة كما يريدها الله جل وعلا، وهو الحق المبين؛ قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
لطيفة، فهم عن ذكرهم معرضون: الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أكبر فساد في الأرض، وبالتالي تتدخل عناية السماء لإصلاح الأرض، وقد تكون هذه العناية قاسية قسوةَ قلوب من عليها.
بعد الدمار يأتي الإعمار، فإذا جاء الهلاك فينجي الله بعده من يشاء من عباده، ولا يرد عذابه وبأسه عن المفسدين؛ قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
وبعد هلاك المفسدين، تأتي التصفية والتنشئة من جديد، فيختار الله لعمارة الأرض من بعدها من يشاء من خلقه، وله الحكمة البالغة في ذلك سبحانه.
العمارة للصالحين والمستضعفين:
يكون من يتولون عمارة الأرض بعد الهلاك هم الصالحين والمصلحين، وأهل الإصلاح، سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم من الملل والنحل؛ لقوله جل وعلا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
والصلاح يكون في المجالين الديني والدنيوي تحقيقًا لمراد الله سبحانه وهو دين القيمة.
ويكون كذلك من يرثون الأرض من بعد الهلاك هم المستضعفون في الأرض؛ لقوله جل وعلا: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
والمستضعفون سواء كانوا من العلماء والدعاة وأهل الإصلاح، ومن والاهم من عوام الناس، ومن أحب اتباع صراط الله المستقيم، الذين استضعفهم الناس وازدرتهم أعينهم، وعاشوا غرباءَ بينهم، بل شرَّدوهم وهمَّشوهم، فالله جل وعلا يريد أن يمنَّ ويتفضل عليهم، ويبيِّن للناس أنهم على الحق، فينصرهم ويمكن لهم في الأرض.
دعاء في زمن الفتن: ومن الدعاء الذي جاء على لسان نبي الله موسى عليه السلام: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155].
فيدعو المسلم بأن ينجيه الله من عذابه وعقابه، ولا يعذبه بما فعله سفهاء القوم وشياطينهم وفَسَقتُهم، وأن يتغمَّده الله بالرحمة والعفو والمغفرة، ويهديه سبيل الأنبياء والرسل والصالحين.
اللهم لا تعذِّبنا بما يفعله السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعفُ عنا، ومكِّن لنا دينك الذي ارتضيت لنا يا مولانا.
______________________________
الكاتب: عبدالله لعريط
- التصنيف: