المحرمات في النكاح
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعدُ:
فمرحبًا بكم مستمعيَّ الكرام في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات فِقه الأسرة، وفي هذه الحلقة نقفُ عند قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء: 23]، ففي هذه الآية بيان المحرَّمات في النكاح؛ أي: النساء اللاتي يحرم التزوُّج بهنَّ، وهنَّ محصورات محدودات، وهنَّ على قسمين: محرَّمات تحريمًا مُؤبَّدًا، ومحرَّمات تحريمًا مؤقتًا - أي: إلى أمَدٍ - والمحرَّمات تحريمًا مُؤبَّدًا هن: الأم والجدة وإنْ عَلَتْ، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...} [النساء: 23] والبنت، وبنت الابن، وبنت البنت، وبنت بنت الابن وإنْ نزَلنَ، لقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ}، والأخت، شقيقة كانت، أو لأب، أو لأم، لقوله تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ}، وبنت الأخت وبنت ابنها وبنت بنتها، لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}، وبنت الأخ وبنت بنت الأخ، لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ}، والعمَّة والخالة، سواء كانت من جهة الأب أو الأم، لقوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ}.
ومن المحرَّمات أيضًا: الملاعَنة على الملاعِن، لما روي عن سهل بن سعد - رضِي الله عنه - قال: "مضت السُّنَّة في المتلاعنين أنْ يُفرَّق بينهما ثم لا يجتمعان أبدًا"، قال الموفق ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "لا نعلمُ أحدًا قال بخِلاف ذلك"، فإذا قذَف الزوج زوجته بالزنا وأنكرت ذلك، وحلف كلُّ واحدٍ منهما على ما يدَّعيه، فهذا هو اللعان، ويُفرق بينهما بعدَه، ولا تحلُّ له بعد ذلك.
ويحرم بالرضاع ما يحرمُ بالنَّسب من الأقسام السابقة، فكلُّ امرأةٍ حرمت بالنسب من الأقسام السابقة، حرم مثلها بالرضاع، كالأمهات والأخوات من الرضاع، لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - «يحرمُ من الرَّضاع ما يحرمُ من النسب» (متفق عليه)، ويُستَثنى من ذلك أم أخته وأم أخيه من الرَّضاع.
وتحرمُ بالعقد زوجة أبيه وزوجة جده، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، وتحرم زوجة ابنه وإنْ نزل، لقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23]، وتحرم عليه أمُّ زوجته وجدَّاتها بمجرَّد العقد؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ﴾، وتحرم بنت الزوجة وبنات أولادها إذا حصل الدخول، لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23].
أمَّا القسم الثاني من المحرَّمات: فهُنَّ ما كان تحريمهنَّ مؤقتًا: وهو نوعان:
النوع الأول: ما يحرمُ من أجل الجمع: فيحرُم الجمع بين الأختين؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}، وكذا يحرُمُ الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يُجمَع بين المرأة وعمَّتها ولا بين المرأة وخالتها» متفق عليه، وذلك لما يكونُ بين الضَّرائر من الغيرة، فإذا طُلِّقتِ المرأة وانتهت عدَّتها حلَّت أختها وعمَّتها وخالتها، لانتِفاء المحذور.
ولا يجوزُ أنْ يجمع بين أكثر من أربع نِسوة؛ لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، وقد أمَر النبيُّ مَن تحتَه أكثر من أربعٍ لَمَّا أسلم أنْ يُفارق ما زاد عن أربعٍ.
والنوع الثاني: ما كان تحريمُه لعارضٍ يزول: فيحرُم تزوُّج المعتدَّة من الغير؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]، ومن الحكمة في ذلك أنَّه لا يؤمن أنْ تكون حاملاً، فيُفضِي ذلك إلى اختِلاط المياه واشتِباه الأنساب.
ويحرُمُ تزوُّج الزانية إذا عُلِم زِناها حتى تتوبَ وتنقضي عدَّتها، لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، ويحرُمُ على الرجل أنْ يتزوَّج مَن طلَّقَها ثلاثًا حتى يطَأَها زوجٌ غيره بنكاحٍ صحيح، لقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 229-230]؛ يعني: الثالثة {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، ويحرُم تزوُّج المحرِمة حتى تحلَّ من إحرامها، وكذا لا يجوزُ للمحرم أنْ يعقد النكاح على امرأةٍ وهو محرمٌ؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «لا يَنكح المحرم ولا يُنكَح ولا يخطب» (رواه مسلم وغيره).
ولا يحلُّ أنْ يتزوَّج كافرٌ امرأةً مسلمة؛ لقوله - تعالى -: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221]، ولا يتزوَّج المسلم امرأةً كافرةً؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقوله - تعالى -:{وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ﴾ [الممتحنة: 10] إلا الحرَّة الكتابيَّة، فيجوزُ للمسلم أنْ يتزوَّجها، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]؛ يعني: حلٌّ لكم، وتكونُ هذه الآية مُخصِّصة لعموم الآيتين السابقتين في تحريم نكاح الكافرات على المسلمين، وقد أجمع أهلُ العلم على ذلك.
مستمعيَّ الكرام، هذا ملخَّص ما ذكَرَه أهلُ العلم في بيان المحرَّمات من النساء اللاتي يحرمُ نكاحهن ممَّا ورد النصُّ عليه في القُرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة، ولا شَكَّ أنَّ في ذلك حكمةً بالغة ورحمة بالعباد، فتشريعُ ربِّنا تعالى خيرٌ للعباد ورحمةٌ بهم ولهم، فاللهمَّ لك الحمدُ على نعمة الإسلام، ونسألُك يا ربنا أنْ تحيينا مسلمين وأنْ تتوفَّانا مسلمين، اللهمَّ فقِّهنا في الدِّين وعلِّمنا ما ينفعنا، إنَّك على كل شيء قدير.
والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.
• • • •
أهم المراجع:
"الروض المربع".
"حاشية ابن قاسم".
"الملخص الفقهي".
"الشرح الممتع".
"كتب التخريج".
_____________________________________
الكاتب: الشيخ د. عبدالمجيد بن عبدالعزيز الدهيشي
- التصنيف:
- المصدر: