عناية الإسلام بالمهن والحرف

منذ 2021-08-22

ما أنْ يتنفَّس الصباح، ويبزغ الفجْر، إلاَّ وترى الناس يخرجون أفواجًا؛ لكسْبِ الأقوات والمعايش، كلٌّ يغدو، يأملُ مِن فضل الله وعطائِه، يَغدون خِماصًا، ويَروحون بِطانًا، ما من أحد منهم إلاَّ وله حاجة، فيسدُّ الله الخلَّة، ويَقضي الحاجة، بمقتضى عِلمٍ وحِكمة تَحار فيه عقولُ أولي الألباب..

عناية الإسلام بالمهن والحرف

أمَّا بعدُ:

فيا أيُّها المسلمون، أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فالْزموها، وبالأعمال الصالحة فالْتزموها، وكونوا على وجَلٍ من الله - عزَّ وجلَّ.

 

ما أنْ يتنفَّس الصباح، ويبزغ الفجْر، إلاَّ وترى الناس يخرجون أفواجًا؛ لكسْبِ الأقوات والمعايش، كلٌّ يغدو، يأملُ مِن فضل الله وعطائِه، يَغدون خِماصًا، ويَروحون بِطانًا، ما من أحد منهم إلاَّ وله حاجة، فيسدُّ الله الخلَّة، ويَقضي الحاجة، بمقتضى عِلمٍ وحِكمة تَحار فيه عقولُ أولي الألباب؛ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

 

تأمَّلْ هذا الخُبز الذي تقتات منه، كم من أناسٍ قد أناط الله رِزقَهم به! ابتداءً بمَن يبيع الحَب، ثم مَن يحرث الأرض ويزرع، ثم الذي يحصد، وآخر بعده يَطحن الحَبَّ دقيقًا، ثم مَن يعجن، ويليه الذي يخبز، ثم مَن يبيع ويوزِّع، في سلسلة من العُمَّال والصُّنَّاع جعل الله قُوتَهم وكسبَهم من هذا الخبز، فمسألة الرِّزق أدقُّ من أن يفهم الناس حِكَمَ الله فيها؛ لأنَّ الله {هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

 

فمِن الناس مَن لم يكتبْ له رزقه إلاَّ في أعماق البحار؛ كالغواصين، أو في ثَبَجِ الهواء بين السَّماء والأرض؛ كالطيَّارين، أو يجدون لقمةَ عيشهم تحت الأرض في كسر الصُّخور؛ كأصحاب المناجم، والعجب فيمن رِزقُه كامنٌ بين فكي الأسود يُروِّضها، أو بين أنيابِ الفيلة وخراطيمها يسوسها، وأرزاق أناسٍ مرهونةٌ بأمراض موجعة كالسرطان – عافانا الله وإيَّاكم – فالطبيب، وصانع الحُقنة، والمُمرِّض، أرزاقهم مرهونة بهذا المرض الخبيث.

 

من الناس مَن قُوتُهم مُناطٌ بالبرد القارص ليبيعَ مدفأة أو ملحفة، أو مَن قُوتُهم مُناطٌ بالحرِّ الشديد؛ ليبيعَ ثلجًا أو آلةَ تبريد، وناسٌ رزقهم مناطٌ بفرح زوجٍ وزوجةٍ؛ ليؤجِّروا لهما وسائل الفرح، وهناك مَن رِزقه مناط بأتراحِ الناس وأحزانهم، فيَحِفر قبرًا لفلان، أو يبيع له كفنًا، وقولوا مثل ذلكم في رزق منفِّذي القِصاص وقاطع يدِ السارق، وآخرون يجلسون في بُيوتهم يُدَقُّ عليهم الباب يقال: هذا كسب تجارتكم، وأرباح عقاراتكم، دون كبير كدٍّ منهم أو تعب.

 

إنَّ العجب يزول إذا ما تأمَّل المرء قول الله – تعالى -: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].

 

وللعمل منزلةٌ شريفة في الإسلام أيًّا ما كان ذلك العمل، شرْطَ أن يكون مباحَ الأصل، نافعًا غير ضار، وقد ذكر الله - تعالى - في القرآن الكريم، بمفهومه الشامل للعمل الدُّنيوي والأُخروي؛ قال – تعالى -: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]، فدلَّت الآية على إكرام الله - تعالى - للعاملين من الرِّجال والنِّساء عملاً صالحًا بالسَّعادة في الدنيا، فعلى المسلم أن يحرِصَ على عمل الصالحات، وأن يُخلص نِيَّته لله - تعالى - في كلِّ عمل صالح؛ لقوله – تعالى -: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، بل قدَّم القرآن في الذِّكْر مَن يَضرِب في الأرض يبتغي الحلالَ على المجاهدين في الذِّكْر؛ {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، قال القرطبي: " سوَّى الله - تعالى - في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقةِ على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلاً على أنَّ كسب المال بمنزلة الجِهاد؛ لأنَّه جمعه مع الجهاد في سبيل الله".

 

وجاءت آياتٌ كثيرة في القرآن تدلُّ على أن الأنبياء كانوا يعملون في عدد من الحرف والصناعات اليدوية، فهذا نوح - عليه السلام - كان يعمل في النِّجارة وصناعة السفن: {وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37]، ومِن ذلك قوله - تعالى - عن داود - عليه السلام -:  {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 11].

 

لأنَّه كان يعمل في صُنع الدُّروع، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «كان داودُ لا يأكل إلاَّ مِن عَمِل يَدِه»  (رواه البخاري)، قال ابن حجر: "والحِكمة في تخصيص داود بالذِّكْر أنَّ اقتصارَه في أكْلِه على ما يعمله بيده لم يكن مِن الحاجة؛ لأنَّه كان خليفةَ الله في الأرض، وإنَّما ابتغى الأكلَ من طريقٍ أفضل" ا.هـ

 

وموسى - عليه السلام - عَمِل أجيرًا عند الرجل الصالح؛ قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27]، فتزوج ابنته، وعمل عنده عشر سنين، وعمل زكريا - عليه السلام - في النجارة والخشب؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «كان زكريا - عليه السلام - نَجَّارًا»  (رواه مسلم) ، قال النووي: "فيه جواز الصنائع، وأنَّ النِّجارة لا تُسقط المروءة، وأنَّها صنعةٌ فاضلة".

 

وفي المستدرك عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما-: كان داود زرَّادًا، وكان آدمُ حرَّاثًا، وكان نوحٌ نَجَّارًا، وكان إدريس خيَّاطًا، وكان موسى راعيًا - عليهم السلام.

 

وقد حثَّ على العمل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكان خيرَ العاملين؛ قالت عائشة - رضي الله عنها-: ((كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَخصِفُ نعله، ويَخيط ثوبَه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدُكم في بيته))؛ رواه الترمذي، وأحمد (24943)، وصحَّحه ابن حبان (6326)، وعمل نبيُّنا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رعْي الغنم؛ كما ثبت في صحيح البخاري: أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «ما بَعثَ الله نبيًّا إلاَّ رَعَى الغَنم»، قالوا: وأنت يا رسولَ الله؟ قال: «وأنا كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهْلِ مكَّة»، ومارس رسولنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - التجارة بأموال خديجة - رضي الله عنها - مضاربةً، وبعد الهجرة كان كسْبُه أفضل كسب: «وجُعِل رِزقي تحتَ ظلِّ رُمحي».

 

فهؤلاء هم أقطاب النبوَّة من الرُّسل، قد شُرِّفوا باحتراف مهنة يعيشون على كسبها؛ قال الحافظ ابن القيم: "إنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: باع واشترى، وشِراؤه أكثر، وآجَرَ واستأجر، وإيجارُه أكثر، وضارب وشارك وتوكَّل، وتوكُّلُه أكثر، وأهدى وأُهدي إليه، ووهب واستوهب، واستدان واستعار، وضمن عامًّا وخاصًّا، ووقف وشَفَع، فقَبِل تارةً، وردَّ أخرى، ولم يعتب ولم يَغْضب، وحَلَف واستحلف، ومضى في يمينه وكفَّر أخرى، ومازح وورَّى ولم يقلْ إلاَّ حقًّا، وهو - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأسوةُ والقدوة.

 

ومِن تعظيم اللهِ أمْرَ العمل والصناعة باليد: ما رواه كعبُ بن عُجْرة - رضي الله عنه - قال: مرَّ على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ فرأى أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن جَلَدِه ونشاطه ما أعجبَهم، فقالوا: يا رسولَ الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «إنْ كان خَرجَ يَسعى على ولدِه صغارًا، فهو في سبيل الله، وإن خَرج يَسعى على أبوينِ شيخَينِ كبيرَينِ، فهو في سبيل الله، وإن كان يَسعى على نفسِه يَعفُّها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رِياءً وتفاخُرًا فهو في سبيل الشَّيطان»  (رواه الطبراني، وصحَّحه الألباني).

 

والصَّحابة الكِرام من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمرِ معاشهم، ولم يكونوا بطَّالين؛ بل كانوا أصحابَ مِهن وحِرَف؛ فمنهم اللَّحَّام والجزَّار والبزَّاز والحدَّاد، والخيَّاط والنَّسَّاج والنَّجَّار والحجَّام، وقد احترف التجارةَ منهم ناسٌ برًّا وبحرًا؛ عملاً بقوله – سبحانه -: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وبقوله – تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، وثبت من حديث المِقدام عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ما أَكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكلَ مِن عمل يَدِه» (رواه البخاري (2143)، قال ابن حجر العسقلاني: "والمراد بالخيريَّة ما يستلزم العملَ باليد مِن الغِنى عن الناس".

 

والعمل وسيلةٌ لكسب الرِّزق من كدِّ اليد، وهو خير مِن سؤال الناس، ومع إجادة المِهنة يصون المسلم نفسَه عن سؤال الناس، ولا ينبغي لأحدٍ الاستهانةُ بالعمل أو العمَّال، فهؤلاء يكسبون رِزقَهم من عمل أيديهم، وذلك أفضلُ، وقد سُئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أطيب الكسب؟ فقال: «عملُ الرَّجُلِ بيده، وكلُّ بيع مبرور»  (رواه الحاكم).

 

وقد قرَّر الإسلام وسائلَ كثيرةً لتهيئةِ المجتمع للعمل، حتى لا يَبقَى فيه عاطل، إلاَّ مَن كان عاجزًا، قد أعاقه المرض أو الشيخوخة، ومِن تلك الوسائل تشديدُ الإسلام في المسألة وتقبيحُها، وتغليظُه على مَن امتهنها؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ما مِن أحدٍ يَسأَل مسألةً وهو عنها غني، إلاَّ جاءتْ يومَ القِيامة كُدوحًا أو خُدوشًا أو خُموشًا في وجهه» (رواه ابن ماجه)، فلا تجوز المسألة إلاَّ لذي فقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفْظِع، أو لذي دَمٍ مُوجِع، وقد ذكر الفقهاء أن لوليِّ الأمر أن يؤدِّب كلَّ صحيح قادر على التكسُّب، يريد أن يعيش عالةً على الآخرين.

 

وحثَّ الإسلام على الاحتراف والعمل، ورغَّب فيه، وصغَّر مِن شأن مَن يتهاون به، أو يحتقره أو يزَّهِدُ فيه؛ فعَن الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «لَأَنْ يأخذَ أحدُكم حَبلَه، فيأتيَ بحُزمة الحَطبِ على ظهره فيبيعَها، فيَكُفُّ اللهُ بها وَجهَه، خيرٌ له من أن يسأل الناس، أَعطَوْه أو منعُوه» (متفق عليه)، وقد قال عمر بن الخطَّاب: "إنِّي لأرى الرَّجل فيعجبني، فأقول: له حِرفة؟ فإن قالوا: لا، سَقَطَ من عيني"، وقد كان محمَّد بن سيرين، إذا أتاه رجلٌ من العرب، قال له: "ما لكَ لا تتَّجر؟! كان أبو بكر تاجرَ قُريش.

 

ومع انقلاب الموازين، وتحوُّر المفاهيم، ما أن ينطقَ متكلِّم عن العمل، إلاَّ ويتبادر إلى ذهن السامع الوظائفُ والأعمال المكتبيَّة، وكأنَّ العملَ مقصور عليها، منحصِرٌ فيها، ما نتج عنه احتقارُ المهن وازدراء أصحابها، والإعلاء من شأن الوظيفة المكتبيَّة، وهذه النظرة الدُّونية تُمارس على جميع المستويات والطبقات، وتُغرَس في النُّفوس منذ الصغر، مع أنَّ الوظيفة تأتي في المرتبة الدُّون من أبواب المكاسب، فأصولُ المكاسب ثلاثة: الزِّراعة والصِّناعة والتِّجارة، وفضَّل أبو حنيفة التجارة، ومال الماورديُّ إلى أنَّ الزِّراعة أطيب الكل، ومثلُه العلقمي، وقال: وأفضلُ ما يكتسبه مِن الزِّراعة؛ لأنَّها أقرب إلى التوكُّل، ولأنَّها أعمُّ نفعًا، ولأنَّ الحاجة إليها أعم، وفيها عملُ البدن أيضًا.

 

ولأنَّه لا بدَّ في العادة أن يُؤكَل منها بغير عوض، فيحصل له أجرٌ، وإن لم يكن ممَّن يعمل بيده، بل يعمل غِلمانُه وأجراؤه، فالكسبُ بها أفضل، ثم الصناعة؛ لأنَّ الكسب فيها يحصل بكدِّ اليمين، ثم التِّجارة؛ لأنَّ الصحابة كانوا يكتسبون به، والأصحُّ - كما اختاره النووي - أنَّ العمل باليد أفضل، قال: "فإن كان زارعًا بيده فهو أطيب مطلقًا؛ لِجَمعه بين هذه الفضيلةِ وفضيلة الزِّراعة؛ قال ابن حجر: "فوق ذلك مِن عمل اليد ما يُكتَسبُ من أموال الكفَّار بالجِهاد، وهو مكسبُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، وهو أشرف المكاسب؛ لِمَا فيه من إعلاء كلمة الله – تعالى - وخذلان كلمةِ أعدائه، والنَّفع الأُخروي".

 

وترى أنَّهم لم يذكروا الوظائف مع أنَّها جائزةٌ من حيث الأصل، فيوسف - عليه السلام - عمل في الولاية بأجرٍ معلوم، لَمَّا علم من نفسه القدرةَ والكفاءة، ومع هذا فقد ورد في أحاديثَ أخرى ذمَّ الزِّراعة إذا أشغلت عن الجهاد، أو جاوزت الحدَّ المأمور به؛ فعن ابن عمر قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «إذا تبايعتُم بالعِينة، وأخذتُم أذنابَ البقر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتم الجِهادَ - سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دِينكم» (رواه أبو داود).

 

وحديث أبي أُمامةَ الباهلي - رضي الله عنه – قال - ورأى سِكَّة وشيئًا من آلة الحرْث - فقال: سمعت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: «لا يَدخلُ هذا بيتَ قومٍ إلاَّ أدخله الله الذُّل» (رواه البخاري)، وقد بوَّب البخاريُّ للأحاديث الواردة في الذَّمِّ بابًا بعنوان: "باب التَّحذير من الاشتغال بآلة الزَّرْع، أو مجاوزة الحدِّ الذي أُمِر به"، فإذا اشتغل المسلمون بالزِّراعة وتقاعسوا عن الجِهاد، أو أنَّهم جاوزوا الحدَّ في الاشتغال بالزِّراعة بحيث طغت على غيرها من الحِرف، لأنَّ اقتصاد القوَّة يأخذ بكلِّ الحِرَف، ولا يقتصر على واحدةٍ منها.

 

المهنُ اليدويَّة أعمال سَنِيَّة، وفروضُ كِفاية مَرعيَّة، ولقد حَظِيت الحِرَفُ وأصحابها بعناية الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد فصَّل في فضائلها، والْتقى بأربابها، فدَعَا لهم وأرشدهم، وكان يستشهد بهم في حديثه، فيُشَبِّهُ بعض الأعمال الصالحات وأضدادَها من الأعمال السيِّئة بِحِرَف معروفة؛ كحاملِ المِسك ونافخِ الكِير، وكان يتكلَّم مع كلِّ صاحب حِرْفة بما يتعلَّق بحرفته، ويقول له ما يَزيده بها اغتباطًا، وبآدابها وأحكامها ارتباطًا.

 

وقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرفع من شأن الحِرفيِّين، فيجيب دَعوتَهم؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "إنَّ خيَّاطًا دعا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لطعامٍ صنعه، قال أنس: فذهبتُ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى ذلك الطعام، فقرَّب إليه خبزًا من شعير ومرقًا فيه دُبَّاء، قال أنس: فرأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتتبَّع الدُّبَّاء من حولِ القصعة، فلم أزلْ أُحبُّ الدُّبَّاء بعد ذلك اليوم"؛ متفق عليه.

 

قال النووي: "فيه فوائد؛ منها: إباحة كسْب الخيَّاط"، وقال ابن حجر: "فيه دليلٌ أنَّ الخياطة لا تُنافي المروءة"، قال العيني: "وفيه جواز أكْل الشريف طعامَ الخيَّاط والصائغ، وإجابته إلى دعوته"، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "جاء رجلٌ من الأنصار يُكنى أبا شُعيب، فقال لغلامٍ له قصَّاب – لحَّام -: اجعلْ لي طعامًا يكفي خمسة، فإنِّي أريد أن أدعوَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خامسَ خمسة، فإنِّي قد عرفت في وجهه الجوع، فدعاهم، فجاءَ معهم رجل، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {إنَّ هذا قد تَبعنَا، فإنْ شئتَ أن تأذن له فأذنْ له، وإن شئتَ أن يرجعَ رَجَع}، فقال: لا بل قد أذنتُ له.

 

قال النووي: "أي: يَبيع اللَّحم، وفيه دليلٌ على جوازِ الجِزارة، وحِلِّ كَسْبها".

 

وقد كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يشيد بالمبدعين من أصحاب الصنائع، ويُوكلهم بالأعمال؛ فعن قيس بن طلْق عن أبيه قال: بنيتُ مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مسجدَ المدينة فكان يقول: «قدِّموا اليماميَّ من الطِّين؛ فإنَّه من أحسنكم له مسًّا»  (رواه ابن حبان)، وزاد أحمد: «وأشدُّكم منكبًا».

 

وقد جاء الإسلامُ ببيان الأحكامِ المتعلِّقة بالحِرَف والصنائع، فنَهَى عن بعض الحِرَف؛ لِمَا فيها من المخالفات، وأرشد الحرفيِّين إلى البديل الصحيح؛ فعن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس - رضي الله عنهما - إذ أتاه رجل، فقال: يا أبا عبَّاس، إنِّي إنسان إنَّما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنعُ هذه التصاوير، فقال ابن عبَّاس: "لا أُحدِّثك إلاَّ ما سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – يقول: سمعته يقول: «مَن صَوَّر صورةً فإنَّ الله مُعذِّبُه، حتى ينفخَ فيها الرُّوح، وليس بنافخٍ فيها أبدًا»، فَرَبَا الرَّجل رَبْوَة شديدة، واصفرَّ وجهُه، فقال: "ويْحَك! إنْ أَبيتَ إلاَّ أن تصنع، فعليكَ بهذا الشَّجر، كلُّ شيءٍ ليس فيه رُوح"؛ (رواه البخاري).

 

وقد انتشر فَهْمٌ خاطئ عند بعض الناس، مفادُه أنَّ الاشتغال بطلب المعاش، والعمل في صنعة أو مهنة أو حرفة يمنع الوصولَ إلى مراتب العُلماء، وأنَّ العالِمَ لا يبلغ هذه المنزلةَ إلاَّ بالتفرُّغ الكامل، والبعد عن طلب المعاش والاحتراف، وأنَّ الجمع بين العِلم والحِرْفة صعبُ المنال، والصحيحُ أن لا تعارُضَ بين الأمرين، فالصحابة كان العِلم باعثًا لهم على العمل؛ فعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمرُنا بالصدقة، فما يَجِدُ أحدُنا شيئًا يتصدَّق به، حتَّى ينطلق إلى السُّوق، فيحمل على ظهره، فيجيء بالمدِّ فيعطيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإنِّي لأعرف اليوم رجلاً له مائةُ ألفٍ ما كان له يومئذ دِرهمٌ"؛ رواه النسائي.

 

وعلى نَهْج العِلم والعمل سار جمعٌ غفيرٌ من علمائِنا وفُقهائنا وأُدبائنا مِن سَلفِ هذه الأمَّة، فانخرط رُموزُها وعظماؤها في الاحتراف، والعمل لكسْبِ الرِّزق؛ إذ كانوا أصحاب حِرَف ومِهَن، وكانوا مع عِلمهم وزُهْدهم وتقواهم يَسعَون في هذه الدنيا، سعيًا وراءَ عيشهم ورِزقهم وقُوتِ عيالهم،، ونُسب جمعٌ من عظماء الأمَّة وعلمائها إلى المِهَن؛ فكان منهم: الآجُري، نسبة إلى عمل الآجُر وبيعه، الباقلاني، نسبة إلى الباقلا وبيعه، التوحيدي، نسبة إلى بيع التوحيد وهو نوعٌ من التُّمور، والجصَّاص، نسبة إلى العمل بالجصِّ وتبييض الجدران، والحاسب، نسبة إلى مَن يعرف الحساب، والقطعي، نسبة إلى بيع قِطع الثياب، والقفَّال، والخرَّاز، والخوَّاص، والخبَّاز، والصبَّان، والقطَّان، والحذَّاء، والسمَّان، والصوَّاف، والزيَّات، والفرَّاء.

 

إنَّ انتسابَ هؤلاء العلماء الأجلاَّء للحِرَف أعطى صبغةَ العزة لأهل هذه الحِرف، حتى لم يكدْ يوجد في المجتمع الإسلامي مَن ينتقص الحِرَف، أو ينتقص من شأن أصحابها، ولَمَّا كان العلماء يعتمدون في كسْبهم على عمل اليد، أو على قسمهم مِن أوقاف المُسلمين عليهم، كانت أقوالُهم تَصْدع بالحق، ولا يُبالون في الله لومةَ لائم، فلم يكونوا يقومون لعَرَض، ولا يقعدون لغَرَض، فلم يكن لأهْل الدُّنيا عليهم تأثير من قريب، ولا من بعيد، وبهذا يتقرَّر حقيقةُ عدم انفصالِ طلب المعاش عن طلبِ العِلم، والقدوة في ذلك من سِيَرِ الأنبياء والصالحين والسلف المبارك، وهو جليٌّ بما سبق التدليل به.

 

لَحَمْلُ الصَّخْرِ مِنْ قِمَمِ الْجِبَالِ   ***   أَحَبُّ إِلِيَّ مِنْ مِنَنِ الرِّجَـالِ 

يَقُولُ النَّاسُ كَسْبٌ فِيهِ عَـــارٌ   ***   فَقُلْتُ الْعَارُ فِي ذُلِّ السُّؤَالِ 

 

وبعد، فهذه إشارات عاجلة، وتلميحات سريعة، إلى قضية تتأكَّد الحاجة إليها في زمنِ القعود والبَطالة.

 

قد قلتُ ما قلت، فما أصبتُ فيه الحقَّ فمِن الله – تعالى - وما كان فيه مِن خطأٍ، فمِن نفسي والشيطان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه إنَّه كان غفَّارًا.

_____________________________________________
الكاتب: الشيخ بلال بن عبدالصابر قديري

  • 4
  • 0
  • 2,518

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً