تعظيم الدماء

منذ 2021-09-21

قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»  (رواه مسلم).

تعظيم الدماء

الأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة، لا تحل إلا بإذن الشرع؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»  (رواه مسلم).

 

ففي هذا الموقف العظيم، يوم عرفة في حجة الوداع، الذي اجتمع فيه حرمة الشهر، وهو شهر ذي الحجة، وحرمة المكان، وهي مكة - يرسي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويثبِّت هذه الحقيقة الشرعية، ويبين أنَّ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة عليهم، وأنها لا تقل حرمةً عن حرمة مكانهم وشهرهم، فالأصل: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).

 

بل حرمة المسلم أعظمُ من حرمة الكعبة قبلةِ المسلمين؛ فعن ابن عباس، قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة، فقال: «ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمتَكِ! وللمؤمن أعظمُ حرمةً عند الله منك؛ إن الله حرم منكِ واحدة، وحرم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يظن به ظن السوء» رواه البيهقي في "شعب الإيمان"، وحسن إسناده الألباني.

 

وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: "مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ"؛ رواه الترمذي بإسناد حسن .

 

فمن تلفظ بالشهادتين وأقام الصلاة فهو مسلم، تجرى عليه أحكام الإسلام؛ فعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلَّوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله»  (رواه البخاري).

 

ولو شككنا في صدق إيمان شخص، أو أنه يتظاهر بالإيمان، فتجرى عليه أحكام المسلمين في الدنيا، والله يتولاه في الآخرة؛ فعن أسامة بن زيد، قال: بعثَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية، فصبَّحْنا الْحُرَقَاتِ من جهينة، فأدركت رجلاً، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقال: «لا إله إلا الله، وقتلته» ؟!، قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: «أفلا شققتَ عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا» ؟!، فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ؛ رواه البخاري ومسلم.

 

فالظاهر أنه تلفظ بالشهادة ليعصم دمه، ومع ذلك أغلظ النبي لأسامة القول، حتى خشي أن تُحبِطَ هذه الفعلةُ ما سبق له من بلاءٍ وجهاد، أين من يستبيح دماء المسلمين الرُّكع السجود بأعذار واهية، وحجج داحضة؟! أين هو من هذه النصوص القاطعة؟! كيف يعارضها بشُبَهٍ لا تقاوم تلك النصوص؟! حتى لو أتى المسلم ما يوجب القتل، وثبت ذلك ثبوتًا مقطوعًا به، فليس تنفيذ الحدود موكولاً لعامة الناس؛ بل لمن له ولاية، ولولا ذلك لما أَمِن الناس على حياتهم؛ بل لو ساغ ذلك لآحاد الناس، لتأوَّل أحد الناس بأن هذا الشخص خارجيّ، وقد أمر النبي بقتل الخوارج، وأخبر أن في قتلهم أجرًا، فقتله متأولاً كما قتل هو المسلمين متأولاً بزعمه.

 

وليس تحريم الدماء خاصًّا بالمسلمين، بل حتى الكفار غير المحاربين، الأصل حرمة دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فمن أذن له في دخول بلاد المسلمين يحرم التعرضُ له بأدنى أذى؛ فعن عبدالله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة»  (رواه البخاري) [1].

 

وحينما حفظ عبدالله بن عمرو هذا النص من النبي، تقيَّد به في تعامله مع كفرة أهل الكتاب، فقد ذُبِحت له شاةٌ، فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي؟ أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» رواه البخاري في "الأدب المفرد" بإسناد صحيح.

 

ولسنا أغيرَ منه على دين الله، ولا أشدَّ براءةً من الكفار منه؛ فالإحسان إلى غير المسلمين لم نُنهَ عنه؛ فربنا - عز وجل - يقول: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وإنما النهي في حق المحاربين منهم؛ {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]، فالإحسان لأهل العهد مشروع، فهم في ذمتنا، فلا يجوز أن نخفِرها.

 

أما محبتهم وموالاتهم فهي محرمة منهي عنها بقوله - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].

 

ولا يستلزم الإحسان إليهم محبتهم وموالاتهم، فقد يحسن الشخص إلى ما لا يقبل المحبة؛ رغبةً في ثواب الآخرة، كقصة المرأة البغي التي رأت كلبًا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أَدْلَع لسانه من العطش، فنزعت له بموقها، فغفر لها.

 

يجب التحررُ من الهوى، ويجب الانقيادُ لحكم الله وحكم رسوله، فشمس العقل تنكسف بطاعة الهوى، فلا تبصر الحق فالهوى يُعمي ويُصم، فلا يكون المسلم عبدًا لله حقًّا، إلا إذا تحرَّر من عبودية نفسه وهواه، وجعل كتاب ربّه وسنةَ نبيه حكمَين على أفعاله، وتشتد الحاجة للتحرر من الهوى فيما لا تميل إليه النفس، فالذي تهواه النفس تنقاد له ويسهُل عليها، فالميل يدفعها للعمل، بخلاف ما يخالف هوى النفس، فلا تأتيه النفس إلا رغبةً في وعد الله، وحذرًا من وعيده، فلذا كان النبي يبايعُ أصحابه على السمعِ والطاعة في الأشياء التي لا تنشَط النفسُ إليها وتميل لضدِّها، لمخالفتها هوى النفس.

 

فعن عبادة بن الصامت، قال: دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعَنا على السمع والطاعة في مَنشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرةٍ علينا، وألاَّ ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان؛ رواه البخاري ومسلم[2]. فالواجب علينا جميعًا: ألاَّ نعتقد أمرًا، ثم نبحث عن النصوص التي توافق هذا الرأيَ ونُصرُّ على تطويعها لهذا الاعتقاد، ولو بليِّ أعناقها، فهذا تَقدُّمٌ بين يدي الله ورسوله؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، بل الواجب علينا: أن نبحث عن حكم الله وحكم رسوله، ثم نعتقده وإن خالف هوى النفس.

 

عباد الله:

الغلو في الدين قديمٌ قدمَ الأديان، فقد كان الغلو فيمن كان قبلنا، لكنه وافد على هذه البلاد المباركة، وإن كان يصدر الغلو من طائفة من أبناء هذه البلاد بين فترة وأخرى؛ لكنه خلاف الأصل، فليس الغلو من سمات أهلها؛ فقد تربَّى أهلها على الانقياد لنصوص الوحيَيْن التي تجرِّم الغلوَّ وتحذِّر منه.

 

فعليك - أخي الشاب - الرجوعَ إلى علماء الأمة الناصحين، الذين عُرف عنهم الصدق والنصح، ولا سيما من مات منهم؛ كالشيخين: ابن باز وابن عثيمين، فالحي عرضة للفتنة، وإياك أن تسلم زمامك لمن لا علمَ عنده ولا بصيرة، ممن هو في مثل سنِّك أو أكبر منك، ممن لم يُعرف بطلب العلم وتلقِّيه من أهله، وتربيته على أيدي علماء عاملين، والحذرَ الحذرَ من أشباح الإنترنت، والاغترار بكثير مما يكتب فيه من إشاعات وأقاويل، وتحسينٍ للباطل، وتشويهٍ للحق وحَمَلةِ الإرث النبويِّ، وطعنٍ في علماء الأمة، وتأليبٍ على ولاتها.

 

كيف تنقاد لهذا الشخص المجهول، الذي يكتب في أغلب الأحيان باسم مستعار، وتصدِّق ما يقوله، وأنت لا تعلم أعدل هو، فيقبل خبره، أم فاسق، فيجب التثبُّتُ من خبره؟! بل هل تعلم: أهو مسلم أم كافر عدو؟! أين أنت من توجيه ربك لك بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

 

أخي الشاب:

إنا نكبر فيك هذا الحماسَ، والغيرةَ على دين الله، والاحتراقَ على واقع الأمة، واستعدادكَ أن تبذل نفسك رخيصةً فداءً لدينك، فما أعلى هذه الهمةَ! وما أشرف هذه النفسَ! لكن لا يصحُّ ولا يسوغ - في عقلٍ ولا نقلٍ - أن تَسعَر بيديك فتنةً، تكون أنت ضرامَها، ويكون وقودها مجتمعك المسلم، بل ربما انتُهك عِرض أمك وأختك بهذه الفتنة التي أشعلتها، وربما أُهَريق دمُ أبيك وأخيك بها بغير حقٍّ، ولو تأملت من حولك ونظرت نظرَ مُبْصرٍ، لما احتجت كبيرَ عناء لاكتشاف هذا الأمر، ولاستبان لك عاقبة الانفلات الأمني، وما يجره على البلاد والعباد.

 

معاشرَ الآباء والمربِّين:

استوصوا بالشباب خيرًا، ترفقوا بهم، نشِّؤوهم على تعظيم حرمات الله، والتعبد لله بالدليل لا بالهوى؛ لتتسعْ صدوركم في حوارهم، فنِّدوا الشُّبَه التي تستباح بها الدماء والأموال، ناقشوهم بالحكمة، تجنَّبوا تسفيهَهم وازدراءَهم ونبزهم بالألقاب، أشعروهم بمحبتِكم لهم وحرصِكم عليهم، ليألفوكم وليفضوا لكم بما يختلج في صدورهم، فإنكم إن لم تفتحوا لهم صدوركم وجدوا من يفتحُ لهم صدره.

 

إخوتي، لنا في سلف الأمة قدوة في مناقشة من حادَ عن الصراط المستقيم، واعتنق الأفكار الضالة، فقد اشتهر في كتب التاريخ: أن ابن عباس ناقش الخوارج وفنَّد شُبهَهم بالأدلة النقلية والعقلية ثلاثةَ أيام، فرجع منهم أربعةُ آلاف، كلُّهم تائبٌ عن اعتناق فكر الخوارج.

 

وهذا جابر بن عبدالله يناظر بعض الخوارج بالأدلة من الكتاب والسنة، فيردَّهم إلى الجادَّة؛ فعن يزيد الفقير، قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحجَّ، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبدالله يحدّث القومَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون، والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا}، فما هذا الذي تقولون، قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد - عليه السلام؛ يعني: الذي يبعثه الله فيه - قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يُخرج الله به مَن يخرج، قال: ثم نعَت وضْعَ الصراط ومرَّ الناسِ عليه… قال يزيد: فرجعنا، قلنا: وَيْحَكُم، أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد؛ رواه مسلم[3].

 


[1] رواه البخاري، (6914).

[2] صحيح البخاري، (7056) وصحيح مسلم، (1709).

[3] صحيح مسلم، (191).

______________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان

  • 1
  • 0
  • 4,397

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً