تأهيل العراق لدور عربي.. معادلتان متضادتان
هناك من ينظر لمعادلة التغيير الجارية في السياسة الخارجية الرسمية للعراق، على أنها عملية تقودها نخبة عراقية لبناء سياسة خارجية جديدة مختلفة عما ساد منذ بداية الاحتلال
شهدت معادلات العراق الداخلية والخارجية تغييرات هامة في المرحلة الأخيرة.
بدأت المعادلات الداخلية تغييراتها عقب نهاية الحرب على داعش؛ إذ توسع دور الحشد الطائفي بعد تحوله إلى قوة (سياسية - عسكرية) موالية لإيران، ودخوله الانتخابات التشريعية عام (2018م) وإحرازه مواقع مؤثرة على القرار في العراق، حتى بات ينشد السيطرة المطلقة على السلطة المشتركة مع الاحتلال الأمريكي. غير أن اندلاع ثورة تشرين باعتبارها حالة سياسية جماهيرية عراقية مضادة للنفوذ والدور الميليشياتي الإيراني، قد أحدث تغييراً في الاتجاه المضاد، وصعَّد من حالة الصراع في مناطق النفوذ الإيراني داخل المجتمع العراقي وأحدث إرباكاً كبيراً للسطة القائمة.
وقد بدا لافتاً أن جرت هذه التغييرات والصراعات والاضطرابات وسط صراع محتدمٍ مستجدٍّ بين طرفي الاحتلال؛ إذ شهدت العلاقات الإيرانية الأمريكية المتوترة حَراكاً وصراعاً على أرض العراق، وصل حدَّ قيام القوات الأمريكية باغتيال كلٍّ من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وكلاهما لم يكونا فقط يد إيران في قيادة ميليشياتها في العراق، بل كانا منسقَيْن للعلاقات الأمريكية الإيرانية داخل سلطة احتلال العراق. وهو ما تطور من بَعْد إلى عمليات عسكرية متقطعة تشنها الميليشيات الموالية لإيران في العراق، تحت شعارات إخراج القوات الأمريكية من العراق، وبهدف تحقيق سيطرة إيرانية كاملة ومنفردة على العراق.
وقد تواكَب مع تلك التغييرات الداخلية ووسط تلك الصراعات والأجواء بالغة التوتر داخل بنية سلطة الاحتلال، تغييراتٌ في حركة السياسة الخارجية للعراق الرسمي. لقد جرت تحركات عراقية تجاه دول الجوار العربي، بما مثَّل تحولاً ومعادلات جديدة تجاه الخارج، أهم ملامحه انتهاء مرحلة الاقتصار في العلاقات الخارجية للعراق على العلاقات مع الولايات المتحدة وإيران، وبَدْء حالة انفتاح على الدول العربية والخليجية خاصة. وقيل: إن العراق يسعى ليكون معْبَراً لحوار إيراني خليجي يخفف من احتقان الأوضاع الإقليمية، ووصل الأمر حدَّ القول بأن العراق يسعى إلى سياسة خارجية متوازنة.
وهكذا توحي كثير من الأحداث والصراعات الجارية في العراق وبشأنه، أن المعادلات التي حكمت المشهد الداخلي وعلاقات العراق الخارجية بدأت السير في طريق إنتاج سياسات وأوضاع جديدة، مختلفة عمَّا ساد عقب الاحتلال الأمريكي. وفي حين لم تكن السياسة الخارجية إلا امتداداً خارجياً للمصالح والأوضاع الداخلية، فيمكن القول بأن التغييرات التي جرت في الداخل وبشكل خاص منذ الصدام الأمريكي الإيراني مع العراق، باتت تنتج حالة جديدة في علاقات العراق بالخارج.
وإذا كانت أهم ملامح التغيير في الأوضاع الداخلية بدأت تفتح الطريق لتغييرات أكبر تنتظر الانتخابات التشريعية - وبطبيعة الحال نتائج الحوار الأمريكي الإيراني الجاري حول البرنامج النووي - لتتحول إلى وضع أكثر ثباتاً وَفْقَ توازنات القوى المستجدة في السلطة القائمة. فما ظهر من تغيير حركة العراق في الخارج - وهو الأحدث الذي يحمل دلالات مهمة للغاية - يبدو مستقراً على نحو مَّا بعد تبنِّيه كخيار من قوى عراقية شعبية، وإن كان في انتظار إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية ليصبح حالة أوضح وأكثر استقراراً بدوره.
ماذا يجري؟
هناك من ينظر لمعادلة التغيير الجارية في السياسة الخارجية الرسمية للعراق، على أنها عملية تقودها نخبة عراقية لبناء سياسة خارجية جديدة مختلفة عما ساد منذ بداية الاحتلال. ومثل هذا التقدير يتطلب الإجابة عن أسئلة تتعلق بالسيادة العراقية وبالإمكانات الحالية التي تمكِّن العراق من بناء سياسة خارجية ودور مستقل، وهل يملك العراق أوراق قوة تجعله قادراً على صياغة مسارات إقليمية تخدم مصالحه؟
وهناك من ينظر لِـمَا يجرى باعتباره تغييراً في التوجه الإيراني، وأن إيران التي عملت على السيطرة على العراق بل على عزله عن العالم العربي، باتت تغير توجهاتها بشأن العلاقات العراقية العربية، وهو ما يتطلب الإجابة عن سؤال حول مدى هذا التغيير، وهل الأمر محدود بفكرة جعل العراق جسراً مؤمناً للتواصل مع العالم العربي، أي تأهيل العراق ليلعب دوراً لمصلحة إيران عربياً، أم أنه تغيير بمعنى التسليم بحق العراق في بناء سياسة خارجية مستقلة؟
وفي المقابل هناك تقدير ثالث، يرى أن التغيير حادث جراء تغيير في الموقف الأمريكي، وأن الولايات المتحدة التي كانت قد اعتمدت على إيران في احتلالها وسيطرتها على العراق، والتي رفضت أي تدخلات عربية في شأن إدارتها للاحتلال بعد وقوعه، باتت تفتح الطريق في الآونة الأخيرة أمام الدول العربية للعب دور في العراق ليتوازن الدوران العربي والإيراني على أرض العراق، وأن هذا التغيير يجري بعد أن اصطدمت بإيران داخل العراق، وباتت تنشد غطاءً من قِطاعات في المجتمع العراقي مرتبطة بالعروبة. وهو ما يعني إعادة تأهيل العراق عربياً على حساب ما جرى بعد الاحتلال من تأهيله ليكون جزءاً من إيران.
ثلاث معادلات، وثلاث تحليلات، لكن بينهما تماس وتداخل وتعدد للمسارات.
لكن الحاصل أن هناك تغييراً حدث فعلاً وأن هناك تساؤلات تطارده، أكثرها عملياً هو التساؤل عن كيفية التقاء المعادلة التي تعمل عليها إيران، مع المعادلة التي تعمل عليها الولايات المتحدة؛ هل التقتا على خلفية تغيير كل منهما لسياسته داخل العراق، أم أنهما التقتا رغم اختلافهما، وَفْقَ ما يوصف بتقاطع المصالح في نقطة التقاء ليس إلا.
الكاشف والفاصل والموضح لأسباب واتجاهات التغيير في السياسة الخارجية العراقية يتطلب الإجابة أولاً عن سؤال يتعلق بقدرة العراق على بناء سياسة خارجية مستقلة.
هل يملك العراق سياسة خارجية مستقله؟
واقع الحال، وحتى وَفْقَ الصياغات القانونية الدولية، فإن العراق بلد محتل وفاقد للسيادة وواقع حتى الآن تحت سيف العقوبات الدولية. وهو بلد يعاني من اختراقاتِ حدوده إلى درجة تحوله إلى ساحة صراع بين القوى الإقليمية والدولية. وفي واقع الحال أيضاً، العراق مقطَّع الأوصال على صعيد الجغرافيا البشرية المنتشرة على خريطة ترابه، ويعاني من تمزقات داخلية لا حصر لها ولا عد.
وعلى صعيد السلطة السياسية، فهي الأخرى واقعة تحت ضغوط داخلية تفقدها القدرة حتى على الظهور بمظهر القادر على إدارة البلاد. وأخطر الضغوط تأتي من الميليشيات المرتبطة عقائدياً وسياسياً بإيران والولي الفقيه والحرس الثوري تحديداً، وهي لا تتناطح مع الدولة فقط، بل تشهد صراعات وتمايزاً للولاءات مع تلك الموالية للقيادات الشيعية العراقية. وهي سلطة تعيش وضعية تمزُّقٍ وصراعات بين الموالين للاحتلال الأمريكي والموالين للاحتلال الإيراني. كما أن السلطة واقعة تحت ضغوط شعبية هائلة بسبب تردي الخدمات وعدم قدرتها على تحقيق الأمن وعلى التصدي للفساد الذي ضيع مليارات الدولارات وجعل البلاد في وضع شبه إفلاس.
ولذلك ووفق كل تلك المعطيات، فإن من الصعب القول بتوفر مقومات لبناء سياسة خارجية مستقلة للعراق، ليس فقط باعتباره بلداً محتلاً ولكن أيضاً باعتباره بلداً يعيش أوضاعَ وملامحَ الدولة الفاشلة.
صحيح أن ذلك لا يعني أبداً أن العراق لا يملك إمكانات فعلية فاعلة للتأثير الخارجي من الناحية النظرية، بل يمكن القول بأن حالة العراق تلك هي حالة ظرفية مؤقتة؛ إذ العراق في النظرة التاريخية - وفي النظرة المستقبلية أيضاً - بلد قادر على التأثير في محيطه وفي صناعة القرار العربي والشرق أوسطي.لكن الواقع الحالي يصعب معه القول بأن العراق والسلطة القائمة في وارد بناء سياسة خارجية مستقلة.
وإذ تبرز الآن توجهات في السياسة الخارجية العراقية تبدو أكثر ميلاً للتقليل من آثار التحيزات السابقة، فالأغلب أن الأمر يأتي تأثُّراً بما هو حادث من صراع بين طرفي الاحتلال (الأمريكي والإيراني)، سواء لأن هذا الصراع صنع تمايزاً بين مصالح الطرفين، أو لأن كلا الطرفين بات ينظر للعراق من زاوية جديدة لخدمة مصالحه على حساب مصالح الطرف الآخر. وأقصى ما يمكن قوله بشأن الدور العراقي المستجد هو أن هناك من العراقيين من يحاول الهروب والانعتاق من العملية التي جرت منذ بداية الاحتلال والتي جرى خلالها إلحاق العراق بالسياسة الخارجية الإيرانية، أو أن النخب المتنفذة في العراق باتت تجد في صياغة علاقاتها بالإقليم على نحو مختلف فرصة لإنقاذ البلاد - ولو جزئياً - من المشكلات الداخلية المتراكمة بلا حلول، وأن بعضها بات يجد من صالحه حدوث تغييرات في العلاقات العربية على حساب العلاقات مع إيران. ويمكن القول أيضاً إن بعض تلك القيادات باتت ترى حَراكاً متنامياً في الإقليم تجاه إعادة صياغة الوضع العربي أو إنهاضه على أقدامه في مواجهة تحديات الأدوار الإقليمية وتياراتها القوية التي تهب من إيران وتركيا والكيان الصهيوني فقرر العمل لاغتنام تلك الفرصة على خلفية الصراع (الإيراني الأمريكي) داخل العراق ليكون له حضور في الترتيبات الجارية في الإقليم.
غير أن كلَّ تلك التقديرات لا تمكِّن العراق من اعتماد وتطوير سياسة خارجية مستقلة؛ إنما هي عوامل تصلح حالة مساعدة لعوامل أكبر وأهم تتعلق أولاً بالسيادة وتحقيق الأمن والاستقرار الداخلي. ولذا فالبحث عن أسباب العبور العراقي تجاه الدول العربية تتعلق أولاً بظروف وقرار الولايات المتحدة وإيران والصراع الجاري بينهما.
الرؤية الإيرانية:
تنظر إيران للعراق باعتباره جزءاً من الإمبراطورية الإيرانية الجاري إنجازها. ومنذ احتلاله - ومن قبل - وحتى الآن تسعى إيران وتفعل كلَّ ما في وسعها لضرب الرمزية العربية للعراق ومنع كلِّ تواصل عراقي مع المحيط العربي خارج سيطرتها، وثمة مئات المؤشرات الاقتصادية والسياسية على ذلك؛ إذ لعبت إيران بكل أوراقها حتى لمنع وجود ممثليات ديبلوماسية عربية ووقف محاولات المساعدة العربية للشعب العراقي لإخراجه من أزماته المعيشية الخانقة.
تلك هي الإستراتيجية الإيرانية الثابتة.
فإيران التي توغلت في العراق لا تستهدف إعادة العراق إلى العرب أو عودة العرب إلى العراق، وأقصى ما يمكن أن يحدث هو جعل العراق نقطة وثوب إلى مناطق عربية أخرى، أو تحويله إلى قنطرة مرور وتواصل مع المحيط العربي.
وما استجد هو أن إيران باتت تنشد اعترافاً عربياً بالتغييرات التي أحدثتها لمصلحتها في العراق، وأنها تتحرك الآن لدفع العراق (الرسمي) للعب دور في تحقيق هدفها التكتيكي المعلن بفصل المسارين الأمريكي والخليجي في مواجهة إيران. وخلال المرحلة السابقة وحتى الآن طرحت إيران رؤية تقول بأن حل المشكلات بين إيران والعرب يكون عبر حوار منفصل بينها وبين الدول العربية، بينما كانت الولايات المتحدة تتحدث باسم المنطقة في مواجهة إيران. وفي ذلك ترى إيران أن العراق هو الطرف المفضل لأداء هذا الدور باعتبار الأطراف العراقية المكلفة للقيام به واقعة تحت السطوة والسيطرة الإيرانية. إيران تستهدف فصل المسار التفاوضي العربي عن مسار القنوات الأخرى التي تلعب دوراً في المفاوضات الخلفية مع الولايات المتحدة بشأن البرنامج النووي.
وهكذا فخلاصة المعادلة الإيرانية، هي تأهيل العراق ليلعب دوراً لإيران في المحيط العربي، لا دفع العراق إلى تبني سياسة خارجية تقوم على الارتباط بالمحيط العربي أو صناعة حالة تتيح للدول العربية لعب دور فاعل داخل العراق.
الرؤية الأمريكية:
عزلت الولايات المتحدة العراق عن محيطه العربي قبل الاحتلال وزادت من عزلته بعده، بينما فتحت الحدود والأجواء لمرور الدور والنفوذ والفكر الإيراني للعراق. والظاهر الآن أن الولايات المتحدة تعيد تقويم موقفها هذا على خلفية دخولها وضعية الاشتباك مع الدور الإيراني في صراع النفوذ في العراق. تسعى الولايات المتحدة الآن وتتطلع إلى دور عربي مساند لها داخل العراق أو ضد إيران، وهي تسعى إلى التقاء عربي عراقي بما يهيئ فرصاً أفضل لممارسة الضغوط على الانفراد الإيراني بالدور الشعبي داخل العراق.
لقد تحولت الولايات المتحدة إلى وضعية الاشتباك مع الدور والوجود والنفوذ الإيراني داخل العراق، وبات الاشتباك جارياً على صعيد المجتمع بعد المظاهرات الحاشدة ضد إيران، ومن ثَمَّ فكل دورٍ أو تماسٍ عربي عراقي، تراه في مصلحة ضغوطها على إيران. والولايات المتحدة تسعى هنا لبديل لإيران حتى لا تعود إيران بعد كل تلك الضغوط الجارية ضدها لاستعادة ما فقدته من دور في العراق. ومن قبل ومن بعد، فالولايات المتحدة إن تسحب قدراً من قوَّتها من الشرق الأوسط، فهي تفعل ذلك وَفْقَ خطة بديلة تقوم على تشكيل تحالفات في المنطقة تضمن استمرار تحقيق أهدافها، ومن ثَمَّ تسعى لجذب العراق إلى الدول العربية ليكون ضمن إطار تلك التحالفات، التي بدأت الولايات المتحدة العمل عليها منذ مدة وكان أبرز ملامحها زيادة أعداد قوات حلف الأطلنطي في العراق مع تقليل عدد القوات الأمريكية وسحب جانب من أسلحتها من دول المنطقة وتغيير وضع الكيان الصهيوني في العمليات التعبوية بسحبه من أوروبا إلى الشرق الأوسط.
من المستفيد من إعادة تأهيل العراق؟
الحاصل أننا أمام حالة تقاطع مصالح (أمريكية - إيرانية)، تتطلب دفع العراق تجاه العرب ودول الخليج خاصة، مع نوايا وخطط مختلفة لكلٍّ منهما. وفي ذلك معنى ضمنيٌّ بعدم وجود سياسة خارجية عراقية تملك أدوات التنفيذ خارجياً، وليس فقط أن العراق محتل بلا سيادة. لكن ذلك لا يمنع أيضاً من وجود توجهات ونوايا لدى نخب عراقية للاقتراب من الدول العربية بطبيعة الحال بعد ما ذاقوا مرارات العذاب من الدور الإيراني في العراق.
إيران تسعى إلى جعل العراق قنطرة لنفوذها وتسعى إلى تفكيك المسارين الأمريكي والعربي في مواجهتها وترى العراق أفضل لفتح مسار تفاوضي منفصل عن مسارات التفاوض الأخرى مع الولايات المتحدة، وهي في ذلك تعمل من داخل العراق إلى خارجه.
والولايات المتحدة تعمل وَفْقَ معادلة أخرى، تسعى من خلالها لدور عربي من الخارج إلى داخل العراق لإحداث توازن مع النفوذ والدور الإيراني داخل العراق، ولتأهيل العراق للدخول في التحالفات الجاري تشكيلها حالياً.
التقى الطرفان وتقاطعت مصالحهما رغم نواياهما المتضادة، على أن يعود العراق إلى علاقات ديبلوماسية نشطة مع الدول العربية.
- التصنيف:
- المصدر: