فارسة الليل
لقد أعطاهم الرحمنُ وِسَامَ الشَّرَف الإلهي، فأكسبَهم نورًا في قُلُوبهم، ونورًا في حياتهم ومماتِهم؛ جزاءَ طولِ قيامِهم لله في الظلُمات.
لقد غدتْ بفَرَسها في ظلام الليل؛ تمضي طويلًا في رحلةٍ إلى حبيبها، حيثُ البشرُ كلهم نيام، وهي تسبَح في مَلَكوت السماوات والأرض، تَحْمل همومها وأشجانها، تلتمس نورًا يُخْرِجُها مِن ظلام الحياة إلى ضياء السَّعادة المُشْرِقَة.
حياة قلب:
فإذا بها تقع عينُها على آية في كتاب الله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 16]، اخترقتْ قلبها فشقتْ ظُلماته، وأخرجتْ مِصباح الهُدى لِيُضيء لها في رحلتها.
دموع حارة:
تَقُولُ وَعَيْنُهَا تُذْرِي دُمُوعًــا *** لَهَا نَسَقٌ عَلَى الخَدَّيْنِ يَجْــــــرِي
أَلَا يَا لَيْلُ فِيكَ شِفَاءُ نَفْسِي *** وَفِيكَ سَعَادَتِي فِي القَلْبِ تَسْرِي
فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أَلْقَى رَبِّــــــــي *** الرَّحْمَن جلاله يَفُكُّ أسْــــــــــري
يُنَادِينِي أَفَارِسَةَ اللَّيالِـــــي *** فَأجيبه لبيك لبيك يا سنـــــــدي
مشكاة الصادقين:
وفجأة وجدتْ في رحلتها فرسانًا صادقين، دربي دربكم، سأسير على نَهْجِكم.
لقد أعطاهم الرحمنُ وِسَامَ الشَّرَف الإلهي، فأكسبَهم نورًا في قُلُوبهم، ونورًا في حياتهم ومماتِهم؛ جزاءَ طولِ قيامِهم لله في الظلُمات.
يقول الحسَن البصري: لَم أجِدْ في العبادة شيئًا أشدَّ مِنَ الصلاة في جَوْف الليل، فقيل له: ما بال المتَهَجِّدين أحسَن الناس وجوهًا؟! فقال: لأنَّهُم خَلَوْا بالرحمن، فألبَسَهم مِن نُورِه.
دُرَّة النور الحبيب - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلِّي مِنَ الليل حتى تَتَفَطَّر قَدَماه، بأبي أنتَ وأمِّي يا رسول الله، يفعل كل هذا وقدْ غُفِر له ما تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِه وما تأخَّر، فيقول: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»؟!.
يقول رجل مِن بني تميم لأُبَيٍّ: يا أبا أسامة: صفة لا نجدها فينا، ذَكَر اللهُ قومًا فقال: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18]، ونحن قليلًا مِن الليل ما نقوم! فقال أُبَيٌّ: طُوبَى لِمَن رقد إذا نعس، واتَّقى اللهَ إذا استَيْقَظ.
نُزُول إلهي:
يقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَنَزَّل ربُّنا - تبارك وتعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقَى ثُلُث الليلِ الأخير، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب له؟ مَن يسألني فأعطيه؟ مَن يَسْتَغْفِرُني فأغفر له»؟.
يَنْزِل - سبحانه - نُزُولًا يَلِيقُ بِجَلالِه، ويناديكِ فلا تُلَبِّين النداء! شَرُّكِ إليه صاعد، وخيْرُه إليكِ نازل، فيقول: سارعي إلى جَنَّة عرضُها السماوات والأرض، أُعِدَّتْ للمتَّقين، يَفْتَح لكِ بابَه وتُغلقينه في وجهكِ أنتِ، ترْفُضينَ الانضمام إلى قوافل التائبات! فيا درة اللآلئ: كُوني مِن دُرَر الليل.
تضحية وبذْل:
في وقت الأسحار قد غفل الناس، وتلَذَّذُوا بسُباتهم، وشقَّ عليهم أن يقُوموا لِلِقاء الرحيم الرحمن، فإذا بفارسة الليلِ ترسم ظلالَ الأسحار، حيث صفاء السماء، وسكون الليل، وروعة السحر، ترقُّ خواطرها، وتصفو نفسُها.
تُحلِّق في سماء الصفاء، فتنتزع غطاء النوم مِن علَيْها، هاربةً إلى الله، وتلقي بِهَمِّها وكدَرها وشجنِها، وتقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]، وتُرَدِّد: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].
يا لُؤلُؤتي المكنونة:
هذه العبادة لا يَقْدِر عليها إلا أهلُ الإخلاص؛ فهي أشَقُّ على النفس في هذا الوقت؛ حيث الناسُ في سُباتهم وراحتِهم يَصْعب عليهم القيام، فحِرصُكِ عليه يدلُّ على يقَظة قلبكِ وإقبالكِ على الله، فكوني يا دُرَّة كالدِّيك الذي يَصيح في الأسحار؛ قال لقمان لابنه: "لا تكُن أعجَزَ مِن الديك، يصوِّت مِن الأسحار وأنتَ نائمٌ على فراشك".
عودة بعد طول غياب:
لقد عادتْ فارِسَةُ الليل بَعد رحلتها المُمْتِعة، فإذا هي تجد المفاجأة، لقد استيقظتْ، ثم وجدتْ بابًا مفتوحًا مكتوبًا عليه: (باب الصَّلاة)، فسبقتْها عينُها مندهشةً: ما هذا؟! فوجدتْ مخلوقات نورانية، يا لبهْجَتها وجمالها!
فإذ بهم يُنادُون عليها: يا فارسة الليل، تعالَي فانظري ما أعدَّ اللهُ لكِ، فتَدْخُل فارسةُ الليلِ يَطِيرُ قلبُها فرحًا، فوجدَتْ أرضًا واسعةً جميلةً، جُدْرانُها مِنْ ذهَبٍ وفِضَّة؛ أنْهار تَجري مِن تحتها، يا إلهي! ما الذي يَحْدث؟! جنَّات وجنات، خُدَّام وأحباب! يا إلهي! كل هذا لي؟!
لقد وجدتْ كلَّ ما اشْتَهَتْه نفسُها ويَزيد؛ فإذ بها تنْسَى هُمُومَها وأحزانها، وفجأة تَجِد نورًا رهيبًا، لا تستطيع أن تُحَدِّقَ بِعَيْنها مِنْ شِدَّة سطوعه؛ وإذْ بالجَبَّار - جلَّ جلالُه - بِعِزَّتِه وقُوَّته يقول لها: هل رضيتِ؟ فتذرف دموعها، وقلبها يطير فرحًا، وتحني رأسها تَذَلُّلًا لله، وتقول: وما لي لا أرضى، وأنتَ ربُّ العالمين؟!
____________________________________________
الكاتب/ مها مناع
- التصنيف:
محمد
منذ