إعمال العقل
هذه الآية تتحدث عن بعض نعم الله تعالى علينا، فذكرت من النعم ما ذكرت، لكن تبقى نعمة العقل هى النعمة الأسمى والأرقى بين النعم .
إعمال العقل ..
أيها الإخوة الكرام: رب العالمين سبحانه وتعالى يقول {وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
هذه الآية تتحدث عن بعض نعم الله تعالى علينا، فذكرت من النعم ما ذكرت، لكن تبقى نعمة العقل هى النعمة الأسمى والأرقى بين النعم ..
فلولا أن عقولنا في رؤوسنا لما كنا مؤمنين، ولما عرفنا ربنا سبحانه وتعالى، ولما ميزنا بين حلال وبين حرام، لولا أن عقولنا في رؤوسنا لما فهمنا شيئا عن الله، ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال الأعرابي :
البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير, فأرض ذات فجاج وسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟!
أيها الإخوة الكرام: قبل أن ينفلت زمام الوقت من بين أيدينا أود أن أقف اليوم مع رجل رزق عقلا رشيدا فسخره في سبيل الله فعلم الناس وفهمهم وفقههم في دين الله تعالى ..
قال النبي عليه الصلاة والسلام" «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» "
إنه الحافظ المحدث الفقيه التقي النقي الغني الخفي العابد الزاهد العفيف المهاب أبو حنيفة النعمان رحمه الله رحمة واسعة..
هو من أصول فارسية ، سكن العراق وأدرك في حياته بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، أبرزهم أنس بن مالك ، ورأي كبار التابعين من تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما، وأخذ عنهم علما كثيراً ..
أبو حنيفة النعمان هو أول من تكلم في الفقه من الأئمة الأربعة، وهو بينهم الأميز والأبرز..
نشأ أبو حنيفة بين حلقات العلم والنقاش والمجادلات والمناظرات فحضر وسمع وتعايش في ذلك الجو المفعم بالعلم والعلماء.. فاستفاد من كل ذلك وشرح الله صدره وحببه في مجالس الفقه خاصة فتعلم الفقه على يد فقهاء زمانه حتى آن له أن يكون معلما وله مجلس يعلم الناس فيه كيف يكون الفهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم..
اختار أبو حنيفة لنفسه في مجلس الفقه أسلوبا فريدا يتميز به ويختلف به عن سائر الفقهاء ..
كان في مجلسه يستنهض الهمم، ويستفز العقول للعمل والمشاركة والبحث والتنقيب ..
لم يكن يريد من الناس أن يتلقوا العلم عنه ثم يقولون آمين .. كان يستنطق قلوبهم وعقولهم ليخرجوا ما فهموه عن الله ورسوله ..
قلت: وهذا أسلوب أخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل فقال مرة ( أتدرون ما المفلس )؟وقال مرة (أتدرون ما حق الله على العباد)؟ وقال مرة ( أتدرون ما الغيبة)؟
إيمانا بنجاح هذا الأسلوب في تعليم الناس أخذ به أبو حنيفة، فكان يسأل المسألة ثم يسكت فيتكلم محمد بن الحسن ويرد عليه أبو يوسف ويحتج على الجميع زفر .. وهكذا
فيكون المجلس مفعما بالآيات والأحاديث والأقوال والحجج العقلية ..
حتى إذا فرغ كل طالب مما عنده قال أبو حنيفة القول في المسألة كذا وكذا قال الله كذا وقال رسول الله كذا وقال الصحابة كذا ..
وكان رحمه الله إن لم يجد في القرآن دليلا طلبه من حديث رسول الله فإن لم يجد طلبه من أقوال الصحابة فإن لم يجد وانتهى الأمر إلى التابعين قال أبو حنيفة أجتهد كما اجتهدوا وأقول برأيي كما قالوا ..
فقيل له أرأيت لو قلت قولا وكتاب الله يخالفه ما نصنع؟ قال اتركوا قولي وخذوا بكتاب الله..
قيل أرأيت لو قلت قولا وحديث الرسول يخالفه ؟ قال اتركوا قولي وخذوا بحديث رسول الله,قالوا أرأيت لو قلت قولا وأقوال الصحابة تخالفه؟ قال اتركوا قولي وخذوا بأقوال الصحابة..
دهش علماء زمان أبي حنيفة من أسلوبه ومن كثرة إعماله للعقل في مسائل الفقه واستنكروه عليه حتى قال بعضهم إن أبا حنيفة ضيع دين محمد صلي الله عليه وسلم ..
حتى أتى محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين حفيد رسول الله وهو أحد شيوخ أبي حنيفة أتاه يوماً فقال: أنت الذي ضيعت دين جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت تقول فيه برأيك..
وكان أبو حنيفة يجل محمد الباقر أن كان شيخه ولمكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فقال أبو حنيفة لشيخه اجلس فإن لك عندي حرمة كحرمة رسول الله بين أصحابه وإني سائلك فأجبني ..
السؤال الأول: قال أبو حنيفة يا شيخي الرجل أضعف أم المرأة؟
قال الباقر المرأة أضعف ..
فقال أبو حنيفة فما سهم المرأة في الميراث ؟
فقال الباقر الرجل له سهمان والمرأة لها سهم واحد ..
فقال أبو حنيفة هذا علم جدك صلى الله عليه وسلم , ولو كنت أقول برأيي لجعلت للرجل سهما وللمرأة سهمان لأنها أضعف وهذا لم أفعله..
السؤال الثاني: الصلاة أفضل أم الصوم ؟
قال الباقر : الصلاة أفضل.
قال أبو حنيفة: فما الذي تقضيه المرأة إذا طهرت من حيضها ؟
قال :الصيام..
قال أبو حنيفة: هذا علم جدك ولو كنت أقول برأيي لقلت تقضي الصلاة ولا تقضي الصيام ولكني لم أفعل .
السؤال الثالث: أيهما أنجس البول أم المني؟
قال البول أنجس.
قال أبو حنيفة فما الذي يغتسل منه؟
قال المني ..
قال أبو حنيفة هذا علم جدك ولو كنت أقول برأيي لقلت يغتسل من البول ويتوضأ من المني ولكني لم أفعل ..
معاذ الله أن أحول دين رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي ..
رحم الله أبا حنيفة وجزاه عنا خير الجزاء إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن إعمال العقل والذي تميز به فقه أبي حنيفة.. بقي لنا أن نقول إن فقه أبي حنيفة هو الأوسع انتشارا بين المسلمين..
والسبب أن أبا حنيفة لم يكن ينظر تحت قدميه، لم يكتف بمسائل الناس في زمانه فقط بل إنه كان بعيد النظر فكان ينظر إلى أحوال الناس بعد عشر سنوات، بعد مآئة سنة وبعد ألف سنة فيقول : ماذا لو قال الناس كذا ؟ ماذا لو فعل الناس كذا ؟
وهو ما يعرف بالفقه الافتراضي ..
قال أبو حنيفة لشيخه قتادة ما تقول في رجل خرج فغاب عن زوجه وأهله وماله أعواماً طويلة؟؟ حتى ما يدرون حي هو أو ميت ..
فقال قتادة وهل وقع هذا؟
قال لم يقع بعد ..
قال قتادة يا أبا حنيفة ولم تفترض ما لم يقع ؟
قال أبو حنيفة أفترض ما لم يقع حتى إذا وقع عرفنا مدخله وعرفنا المخرج منه..
كان أبو حنيفة يفترض حوادث وقضايا ومسائل لم تقع بعد .. كان يفترضها ويقول إذا وقعت فالحكم فيها كذا ...
وبالفعل جائت الأيام وقال الناس ما لم يكونوا يقولونه من قبل، وفعل الناس ما لم يكونوا يفعلونه من قبل فلا يجدون له جوابا إلا في فقه النعمان رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجزاه عنا خير الجزاء.
- التصنيف: