فن الكتابة فى الصفحة البيضاء - قواعد: (١٢) {فَبُهُداهُمُ اقتَدِه}: لا قُدوة على غَيرِ هُدًى..
تَظُنِينَ حبيبتي أن اللهَ سيأمُرُ نبيَهُ بالاقتداءِ بقومٍ مِن زَمانٍ آخرَ لم يُعاشِرْهم، ثُم لا يَمُدُّهُ بمَعلوماتٍ عن هَديِهِم وطَرِيقتِهِم وأخلاقِهِم؟
قالَ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَهُ الكريمَ ﷺ: {أُولَئِكَ الذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقتِدِهْ} ..
يأمرُهُ بالاقتداء بالصالِحِين، وهو ﷺ أكمَلُ الناسِ صَلاحًا وَخُلُقًا وَطَرِيقةً، وأعلمُهُم بِالهُدَى..!
فكيف بنا نحن؟
لا شَكَ سنقولُ جَميعًا: ((لكننا قُدوَةٌ صالحةٌ لأبنائِنا بالطبعْ..!))
فأتساءلُ: ومِن أينَ استقَينا المَعْرِفَةَ أو المعلوماتِ التي تُؤَسِّسُ أفعالَنا وقناعاتِنا الصادرةَ أمامَهم لِيَقتَدُوا بِنا فِيها كي نَجزِمَ بيقينٍ أننا قُدوةٌ صالحة؟ ألا نُدرِكُ أن الأفعالَ هي ثمَرةُ القناعاتِ؟ وأن القناعاتِ هي ثمَرةُ المعرفةِ؟
إن القدوةَ هي مُحاكاةٌ لنَموُذَجٍ ما، سواءٌ كان النموذجُ غائِبًا أو حاضِرًا.. فالنَمُوذجُ الحاضِرُ قُدوَةٌ عَمَلِيَّةٌ حِسِّيَّةٌ -أي نَتلقَّاها بالحواسّ-/ والنمُوذجُ الغائبُ: قُدوَةٌ عِلميةٌ خَبَرية -أي نتلقاها بالأخبارِ والمَعرِفة..
تَظُنِينَ حبيبتي أن اللهَ سيأمُرُ نبيَهُ بالاقتداءِ بقومٍ مِن زَمانٍ آخرَ لم يُعاشِرْهم، ثُم لا يَمُدُّهُ بمَعلوماتٍ عن هَديِهِم وطَرِيقتِهِم وأخلاقِهِم؟
القاعدةُ الأصوليةُ الفِقهِيةُ المَعروفَةُ تقول: ما لا يَتِمُّ الواجبُ إلا بِهِ فهو واجبٌ..
فلا يَشُكُّ عاقلٌ أن الأمرَ الإلهيَّ بالاقتداءِ بالقُدواتِ الغائبةِ، مُتَضَمِّنٌ لأمرٍ آخَرَ مَنطِقِيٍّ لا ينفكُّ عَنهُ وَلا يَتِمُّ إلا بِه، ألا وهُو: تَعَلُّمُ سِيرِتِهِم وأفعالِهم أولًا..
هذا... وهو النبيُّ واسِعُ العِلمِ بالأخلاقِ والفضائلِ وأركانِ الصلاحِ الإنسانِيَّ الشامِلِ عِلميًا وعَمليًا،
فما بالكم نحن، وَنحنُ لم نُتَمِمْ بَعدُ ما لا يَسَعُ المسلمَ جَهلُهُ في أبسَطِ أصولِ ومعارِفِ دينِنا الإيمانيةِ والأخلاقيةِ والسلوكيةِ؟ كيف سنربِي أولادَنا على شَيءٍ لم نتَرَبَّ بِهِ نحنُ أولًا كقدوةٍ حاضرةٍ أمامَ حواسِّهم الخَمسَة؟
كيف سأكون صبورةً وأُربي ولدي على مَراتِبِ الصبرِ، ولم أَتَعَلمْ مثلًا قِصةَ أيوبَ ويوسفَ ونُوح؟
كيف سأربي نفسِي ووَلَدِي على معاني العِفَةِ، ولم أتعلَمْ مثلا قِصةَ يوسفَ ومريمَ؟
كيف سأربيهم على الحياءِ ولم أتعلمْ قصةَ موسَى وبناتِ شُعَيب؟
كيف سأربيهم على الصِدقِ دونَ أن أتعلمَ قِصةَ كعبٍ بنِ مالِكٍ،
أو على الدعوةِ بلا يأسٍ أو قنوطٍ دُونَ أن أتعلمَ قِصةَ نوحٍ ويونُسَ؟
بل كيف سأربيهم على أي خَصلَةِ خيرٍ دونَ أن أتعلمَ قَصصَ الأنبياءِ والصحابةِ والصالحينَ من سلفِ الأمةِ كافَّة؟
تلك هي القدواتُ المطلوبُ منكِ أنتِ أولًا تَعَلُّمَ سِيرتِها الصحيحةِ معرفيًا، قبلَ أن تكونِي فيها قُدوةً عَمَلِيًا،
إن كنتِ تريدينَ غَنِيمَةَ الآخرةِ لكليكُما كما قالَ تعالَى: {لقد كانَ لكُمْ فِيهِمْ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرجُو اللهَ واليومَ الآخِرَ}
تَأَمَّلِي بَنِي إسرائيل حينما استَنكَرُوا وِلادةَ مريمَ لطِفلٍ دونَ زوجٍ وظنوا السوءَ بها، ماذا قالوا أولَ شَيء: {يَا أُختَ هارُونَ ما كان أبوكِ امرأَ سَوءٍ وما كانتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} ... يُذَكِّرُونَها بقدواتِ بيتِها الكرامِ ويستنكرُونَ أن يَصْدُرَ مِنها ما ينافِي سيرتَهُم العفيفةَ وأخلاقَهم القويمةَ..
تَأَمَّلِي كذلكَ كلمةَ "كما" في قولِ اللهِ تعالَى: {فاصبِرْ ((كما)) صَبَرَ أولُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ}
القدوةُ إذًا -حاضرةً أو غائِبةً- هي أقوَى الأدلةُ إقناعًا وأشدُّها َحَثًا لأولئكَ البراعمَ المقتفينِ لأثَرِنا، أنَّ كلامَنا عَمَلِيٌّ تطبيقيٌّ، لا مُجِردَ شِعاراتٍ نظرِيةٍ عَصِيَّةٍ على التنفيذ.. فيَصبِرُونَ كما تَصبُرِين، ويَعفُونَ كما تَعفِينَ، ويستُرُونَ كما تَستُرِين، ويَجُودُونَ بالخيرِ كما تَجُودِين، ويَتَرَفَّعُون عنِ الفواحشِ كما تترَفَّعِين، وهَلُمَّ جَرًا..
بالتالي... فإنَّ على رأسِ القُدواتِ المطلوبُ مِنا تَوفيرُ أصولِها في أنفسِنا لأبنائِنا: النبيَ محمد ﷺ..
فهو الذي قِيلَ فيه أنه ((قرآنٌ يَمشِي على الأرضِ)).. والقرآنُ هو الذي قِيلَ فيه أنه {يَهدِي للتي هِيَ أقوَمُ} ..
فصار ﷺ أسوةٌ حسنةٌ حاضرًا وغائبًا، على أكملِ وأجملِ ما يكونُ..
فتعلَمِي عنهُ هُو بالأخص:
كيفَ يُعَظِّم اللهَ وشعائرَه/ وكيف لا يَغضبُ لنفسِهِ ولا يَسُبُ ولا يَكذِبُ ولا يَسخَرُ/ وكيف يَعدِلُ ويَحكُمُ بما أنزلَ اللهُ دونَ حَرج/ وكيفَ كَرَمُه وحياؤُهُ وصِدقُهُ وعَفوُهُ ورِفقُهُ وتواضُعُهُ/ وكيف هِمَّتُهُ وعبادتُهُ واعتناؤُهُ بالعِلمِ وزُهدُهُ في الدنيا/ وغيرُ ذلكَ من هَديِهِ القويمِ في المُعاملاتِ والآدابِ وكلِّ فَضِيلَةٍ تَستَطِيعِينَ تَحصِيلَ عِلمَها وتَطبيقَها، قَبلَ أن تطلُبِي من أولادِكِ الالتزامَ بها..
وصَدَقَ مَن قال:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا *** فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى *** بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
فأعيذُكِ أن تكوني كمن قال فيهم ﷺ: "مَثَلُ الذي يُعلِّمُ الناسَ الخيرَ ويَنسَى نفسَهُ، كمثلِ السِراجِ: يُضِيءُ للناسِ... و((يُحرِقُ نفسَهُ))"..
وكلُ ذلكَ لن ينجحَ دونَ الاستعانةِ بحولِ اللهِ وقُوتِهِ، على أنفسِنا وأبنائِنا..
فسدِدُوا وقارِبُوا.. وأبشرُوا..
فالتوازنُ مطلوبٌ، دونَ مِثالِيةٍ مُحبِطةٍ، ولا عَفَوِيَّةٍ مُهلِكَةٍ، ولا تناقُضاتٍ مُخجِلَةٍ..
فكيف نُحَقِّقُ هذا التوازنَ؟ ومتى ينبغِي أن ننتبِهَ لأمرِ القدوةِ؟ ومَتَى تبدأُ المحاكاةُ عادَةً؟ وإنْ خُدِشتِ القدوةُ أمامَ الأبناءِ يَومًا فكيفَ التصرُفُ؟ وإنْ كَبُرَ وَلَدِي وأنا لازِلتُ أجاهِدُ نفسِي ولم تَكتَمِلْ قُدوَتِي لهُ بَعدُ فِي حَدِّها الأدنَى ويُقَلِدُنِي، فما الحل؟
والجوابُ في القواعِدِ القادمةِ تِباعًا بإذن الله..
- التصنيف: