الفكر الديني بين النص والواقع
توجد في الشريعة الإسلامية أحكام قطعية ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل، ولا مجال للاجتهاد فيها إنما يُؤخَذ بها كما وردت بالنص، وتوجد أحكام متغيرة تحتمل الاجتهاد، وهذه تكون مبنية على المصلحة والعرف الذي يوافق الشرع
توجد في الشريعة الإسلامية أحكام قطعية ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل، ولا مجال للاجتهاد فيها إنما يُؤخَذ بها كما وردت بالنص، وتوجد أحكام متغيرة تحتمل الاجتهاد، وهذه تكون مبنية على المصلحة والعرف الذي يوافق الشرع؛ فهكذا نوع من الأحكام يتغير بتغير الأزمان، ومن ذلك الأحكام التي تخص السياسة الشرعية.
ويرى البعض أن تعبير "تغير الأحكام" إنما هو تعبير مجازيٌّ؛ لأن الحكم في حقيقته ثابت؛ لأنه خطاب الله تعالى القديم الأزلي، وإنما المتغير هو أفعال المكلَّفين والظروف والمعطيات المحيطة بالواقعة، وبتعبير آخر المتغير هو (متعلق الحكم)، وليس (الحكم ذاته)؛ إذ الواقع أن المجتهد إذا عُرضت عليه مسألة من المسائل، راعى ظروفها وملابساتها، والوسط الذي حدثت فيه، ثم استنبط لها الحكم المتفق مع كل هذا، فإذا تغير الوسط وتبدل العرف، تغيرت بذلك المسألة وتبدل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكمًا آخر، وهذا لا ينفي أن المسألة السابقة بظروفها ما زالت على حكمها، وأنها لو تجددت بظروفها ووسطها لم يتبدل حكمها، وطالما أن الفقهاء المتقدمين قد استخدموا هذا التعبير "تغير الأحكام"، فلا حرج في استخدامه اليوم إذ لا مشاحة في الاصطلاح؛ [تغير الأحكام في الشريعة الإسلامية، معهد مكة المكرمة، بهاء الدين الجاسم].
في التعامل مع النصوص الشرعية يُفرَّق بين نوعين من القواعد؛ النوع الأول: قواعد فهم النص، والنوع الثاني: قواعد تطبيق النص، أما قواعد فهم النص، فتقوم على أصلين؛ الأصل الأول: اللغة العربية، والأصل الثاني: مقاصد الشريعة، فالاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص، فلا بد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد يلزم العلم بمقاصد الشرع؛ [الموافقات، (5/ 124)].
إن الاستدلال بالقرآن يكون بلغة العرب التي أُنزل بها [تلبيس الجهمية، (3/ 192)]، وقواعد اللغة العربية تنقسم إلى قواعد نحوية تحدد العلاقة بين الألفاظ، فتميز بين الفعل والفاعل والمفعول والظرف والمضاف... إلى آخره، وقواعد لغوية تحدد المعاني المعجمية للألفاظ وطريقة استخدامها، وقواعد بيانية تحدد كيفية تمييز الحقيقة من المجاز، وفهم التراكيب والاستعارات اللغوية، والتقيد بالقواعد اللغوية شرط أساسي لمنع تحريف معاني النصوص، وإبعادها عن مقاصدها الرئيسة؛ [العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، (ص: 36، 37)]، لذلك فالسبيل لفهم الشريعة لا يكون إلا عبر لغة العرب وأساليبها في الكلام؛ [الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، (ص: 27)].
أما مقاصد الشريعة، فهي حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعِرض والعقل، واتفقت الأمة - بل سائر الملل - على أن الشريعة وُضعت للمحافظة على هذه الضروريات؛ وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضروري؛ [الموافقات، (1/ 30، 31)]، ومقاصد الشريعة هي تلك المصالح التي تتحقق في حياة الناس عند تطبيق الأحكام الشرعية فيها، أو هي أحكام شُرعت من أجل تحقيق تلك المقاصد؛ [مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، د. عبدالمجيد النجار، ص: 267].
والنوع الثاني: قواعد التطبيق، وهي مختلفة عن قواعد فهم النص؛ حيث تقوم على الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتفعيل قاعدة الاستطاعة، وإجراء قاعدة التدرج، ومراعاة مآلات الأفعال، وفقه مراتب الأحكام، ومراعاة تغير الأعراف، والمصالح، ونحو ذلك، فالاجتهاد في النصوص الشرعية على نوعين: اجتهاد في فهم النص، واجتهاد في تطبيق النص، وهو بذل الجهد في تنزيل كلام الله عز وجل وكلام رسوله على واقع الناس، والمراد بقواعد التطبيق قواعد التعامل مع الأحكام المتغيرة بتغير المكان والزمان والحال، وذلك وفقًا لتغير المصالح والأعراف، ووجود الحاجات والضرورات، وغالب هذه الأحكام اجتهادية يختلف المختصون في تقريرها وفي تحقيق مناطاتها؛ [الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، (ص: 30، 33، 133].
والاجتهاد في التطبيق يستند إلى تحقيق المناط الذي هو حلقة الوصل التي تربط بين النص والواقع، وتحقيق المناط هو الذي يكفل ديمومة الشريعة الإسلامية وبقاؤها، وقدرتها على استيعاب سائر الوقائع والنوازل والحوادث؛ [تحقيق المناط عند الأصوليين وأثره في اختلاف الفقهاء، د. عبدالرحمن إبراهيم الكيلاني، ص: 71، 90].
ولا خلاف بين الأمة في قبول تحقيق المناط، ومعناه أن يثبُتَ الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله؛ [الموافقات، (5/ 12)]، فتحقيق المناط متَّفَقٌ عليه بين المسلمين، وهو أن ينص الله عز وجل على تعليق الحكم بمعنى عام كليٍّ، فيُنظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام؛ [منهاج السنة النبوية، (2/ 474)، ومنهج استخراج الأحكام الفقهية للنوازل المعاصرة، مسفر بن علي القحطاني (1/ 387)].
وتحقيق المناط بمعناه الواسع يتساوى مع مفهوم تطبيق النص، وذلك أن معنى تحقيق المناط عند الأصوليين فقهُ تنزيل الحكم الشرعي على الواقع، وهذا هو مفهوم تطبيق النص، فتحقيق المناط يختص بقواعد التطبيق التي تبحث في تنزيل كلام الله عز وجل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على واقع الناس.
وقواعد التطبيق ذات شقين؛ شق استنباطي وشق إجرائي؛ فالشق الاستنباطي (التأصيلي) لا يُعرَف إلا عبر قواعد الفهم؛ لأنه في حقيقته حكم ثابت لا يتغير بخلاف الشق الإجرائي، فإنه لا علاقة له بقواعد الفهم والتفسير؛ إذ هو تطبيق متغير مختص بمعالجة واقعة معينة (تحقيق المناط)؛ [الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، ص: 33، 64، 88، 228 في الهامش]، وقد أشار ابن القيم إلى أن مجال السياسة الشرعية هو فقه المتغيرات؛ حيث قال - بعد أن ذكر مجموعة من الأمثلة للسياسة الشرعية: "والمقصود إن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة تختلف باختلاف الأزمنة فظنَّها مَن ظنَّها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة، ولكلٍّ عذرٌ وأجر، ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله، فهو دائر بين الأجر والأجرين"؛ [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، (1/ 47)]، فمفهوم السياسة الشرعية يتساوى مع مفهوم قواعد التطبيق، إذا كان المراد بالسياسة الشرعية قواعد التعامل مع الأحكام المتغيرة بتغير المكان والزمان والحال، فإن مجال السياسة الشرعية هو الأحكام المتغيرة.
والتمييز بين قواعد الفهم وقواعد التطبيق وفائدة الفرز بينهما هو حفظ معاني الشريعة الثابتة من أن يطولها التحريف والتبديل، وذلك عن طريق تخصيص قواعد لفهمها واستنباطها، ومنع إجراء قواعد التطبيق عليها التي من شأنها التبدل والتغير، والفائدة الثانية هي التوازن في تطبيق الشريعة؛ [الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، ص: 34، 82].
إن الشريعة معطًى إلهيٌّ منزَّلٌ مُستَمَدٌّ من نصوص الوحي، متمثل في المحكمات والقطعيات والكليات الشرعية، وأما التطبيق، فهو فعل بشري اجتهادي تاريخي لذلك المعطى الإلهي، وهو غير معصوم، والتطبيق محكوم بمبادئ وكليات ومقاصد التشريع، فالشريعة فعل إلهي، والتطبيق فعل بشري، الشريعة معصومة ومقدسة، والتطبيق غير معصوم وليس مقدسًا، الشريعة صالحة لكل زمان ومكان كمبادئ وقيم متعالية وهي فوق التاريخ، والتطبيق فعل محكوم بمحيطه الزماني والمكاني، فلا يكون عابرًا للزمان والمكان؛ ومن ثَمَّ فهو محكوم بشروط التاريخ؛ [العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية، ص: 56، 57].
إن قواعد الفهم تُستمَدُّ من أصليين عظيمين؛ هما: اللغة العربية، ومقاصد الشريعة، وتستمد قواعد التطبيق من مصدرين أصليين؛ هما: السيرة النبوية، وسيرة الخلفاء الراشدين، والسيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين هما المصدران الأصيلان لقواعد تطبيق النصوص الشرعية؛ [الإسلام الممكن دراسة تأصيلية في فقه المسافة بين فهم النص وتطبيقه، ص: 142، 228].
وقد أباح الإسلام للحاكم إذا واجهته قضية معينة الاختيارَ بما يحقق المصلحة العامة للمسلمين، ومن ذلك إيقاف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهمَ المؤلفة قلوبهم؛ لأنه فهم أن الله تعالى لم يقرر لهم هذا السهم على أنه شريعة عامة يُعمل بها في كل زمان ومكان، وإنما قرره بسبب ضعف المسلمين في أول نشأة الإسلام، وحاجتهم إلى من يعضدهم وينصرهم، وحاجتهم إلى أن يكفَّ بعض الناس عنهم شرهم، ولا يؤلِّبون غيرهم عليهم، فإذا قويَ أمرُ المسلمين، وأصبحوا في عزة ومَنعةٍ، زال المعنى الذي من أجله وجب ذلك السهم، وأصبح للإمام الحقُّ في أن يصرفه إلى ما هو أجدى للمسلمين وأنفع، وفي ذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)؛ [المدخل إلى السياسة الشرعية، عبدالعال أحمد عطوة، ص: 87].
وقد أوقف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه العمل بحد السرقة في عام الرمادة؛ لكثرة المحاويج في هذا العام؛ فالسنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسُدُّ به رمقه؛ [إعلام الموقعين عن رب العالمين، (4/ 350، 352)]، الأمر الذي أدى إلى وقوع الاشتباه بين من يسرق اضطرارًا، وبين من يسرق عدوانًا، وغلبة من يسرقون اضطرارًا على غيرهم، ولا يخفى أن درء الحدود بالشبهات من القواعد القطعية في الشريعة، وأن من شروط إقامة الحد انتفاء الشبهة، وأن خطأ الإمام في العفو خير من خطئه في العقوبة، فعمر رضي الله عنه لم يُسقِطِ الحدَّ بعد وجوبه، بل هو لم يجب أصلًا لوجود الشبهة العامة التي أوجبت درأه؛ [يسألونك عن الشريعة، ص: 134].
وغير ذلك من الأمثلة كثير، ومثل هذا لا يعد تغييرًا ولا تبديلًا، إذا ما رُوعيَ في كل حادثة الظروف والملابسات التي لها صلة بالحكم، فإذا تغيرت الظروف والملابسات المحيطة بالواقعة تغيرت بذلك المسألة وتبدل وجهها، وكانت مسألة أخرى اقتضت حكمًا آخر لها؛ [شريعة الإسلام، ص: 132].
إن تحقيق المناط هو اجتهاد تنزيلي تُراعَى فيه مآلات التطبيق، وتراعى فيه ما ينشأ من نتائج، وسبيله إقامة الموازنة بين المصالح والمفاسد، فيُوازِن المفتي بين المصلحة التي يريدها النص، وبين المفسدة الناتجة في الملابسات عند التطبيق، والمفسدة قد تكون واقعة أو متوقعة، وكلاهما يدرأ بناء على قاعدة المتوقع كالواقع، فمعنى هذه القاعدة: إن ما كان متوقعَ الحدوث، ويغلب على الظن حدوثه أو زواله يُعطَى حكم الموجود؛ [مبدأ اعتبار المآل في البحث الفقهي، د. يوسف حميتو، ص: 103، 104]، فتحقيق المناط يقتضي معرفة ما هو واقع المآل، وما هو متوقع؛ [الموافقات، (5/ 67)]، فعدم إقامة سيدنا عمر حد السرقة عام المجاعة لشبهة المجاعة المُلجِئة إلى أخذ حق الغير دون إذن منه؛ [مبدأ اعتبار المآل في البحث الفقهي، (ص: 71)].
الشريعة تنظر إلى غايات التصرفات ومآلاتها، فإن كانت لهذه الغايات والمآلات مفاسد وأضرار، منعت من أسبابها، وسدت الطرق التي يُتَذَرَّعُ بها إليها، ولو كانت هذه الوسائل في نفسها مباحة جائزة؛ يقول تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فسبُّ المؤمنين لآلهة المشركين هو ذريعة تجرُّ إلى أن يسُبَّ المشركون إلهَ الناس أجمعين.
________________________________________
الكاتب: ميسون سامي أحمد
- التصنيف:
- المصدر: