المؤشرات القوية على انهيار الهيمنة الغربية
من يحكم على المجتمع الغربي من الظاهر - التقدُّم التكنولوجي، الرفاهية والبذخ الاجتماعي يخيَّل إليه من هذه الزاوية أنَّ المجتمع الغربي غارق في النعيم، لكن كما يُقال: ليس الظاهر كالباطن
من يحكم على المجتمع الغربي من الظاهر - التقدُّم التكنولوجي، الرفاهية والبذخ الاجتماعي - يخيَّل إليه من هذه الزاوية، والركن الذي تركز عليه (الكاميرا): أنَّ المجتمع الأمريكي وذيله الأوربي غارقان في النعيم، لكن كما يُقال: ليس الظاهر كالباطن، فتعميق النظر في خبايا هذا الكيان يبشر بأُفول نجم هذا السرطان، كيف ذلك؟ وما هي مؤشرات هذا الانهيار؟
لكن سعيًا مِنَّا إلى الأخذ بالمنهج العلمي؛ يكون من الأوْلَى الوقوف على جملة من المصطلحات وتحديدها:
• معنى الغرب: عبر الحفر في دلالات وحمولات مصطلح (الغرب)، يتبيَّن أنه تحول من مجرد مفهوم جغرافي إلى إحدى البدهيات العقديَّة السياسيَّة العسكريَّة، التي تكثِّف منظومةً عدائيةً تجاه الإسلام والمسلمين.
• معنى الهيمنة: فإذا ما نظرنا إلى تعريف مفهوم الهيمنة كما صاغه (جوزيف ناي Joseph Nye) و(روبرت كوهين Keohane Robert)، بكونه: "وجود قوة دوليَّة مسيطرة، تكون لها الغلبة في المصادر الماديَّة، وتتوافر لديها القوة والإدارة اللازمة لصياغة قواعد للتفاعل فيما بين الدول في النظام الدولي"، والذي يظهر للعيان هو استغلال الترسانة العسكريَّة الغربيَّة في فرض نمطها الثقافي، والاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، على العالم.
• معنى المؤشِّر: عبارة عن رقم إحصائي يمثِّل ظاهرةً معينةً خلال فترة زمنيَّة محددة، وهو أحد أدوات الدراسات الاجتماعيَّة، والديموغرافيَّة، والاقتصاديَّة، والصحيَّة، وأية دراساتٍ أخرى، وفي هذه المقالة سنركِّز على مؤشِّرات اقتصاديَّة واجتماعيَّة في تحديد أفول الإمبراطورية الغربيَّة، بعدما ركَّزنا في مقالاتنا السابقة على المؤشرات الأخلاقيَّة، الدينيَّة والتاريخيَّة في الانهيار.
لماذا الغرب؟ إن الدافع إلى كتابة هذه الورقة ترجع إلى عوامل شتَّى، لكن نجملها في العوامل التالية:
• انبهار أبناء الأمة الإسلاميَّة بهذه الحضارة الغربيَّة الزائفة الزائلة.
• الحقد الغربي الدفين على الأمة الإسلاميَّة، وحتى لا أكون (طوباويًّا)؛ أعرض مجموعةً من أقوالهم، يقول (أيوجين روستو): "إن الظروف التاريخيَّة تؤكد أن أمريكا إنما هي جزءٌ مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معاديةً للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقفَ هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الإسرائيليَّة الصهيونيَّة".
ويقول (لورانس براون): " كان قادتنا يخوفوننا بشعوبٍ مختلفة، لكننا بعد الاختبار لم نجد مبررًا لمثل لتلك المخاوف، كانوا يخوفوننا من الخطر اليهودي، والخطر الياباني الأصفر، والخطر البلْشفي، لكنه تبيَّن لنا أن اليهود هم أصدقاؤنا، والبلاشفة الشيوعيين حلفاؤنا، أما اليابانيون، فإن هناك دولاً ديمقراطيَّة كبيرةً تتكفل بمقاومتهم، لكن وجدنا أن الخطر الحقيقي علينا يتمثَّل في الإسلام، وفي قدرته على التوسُّع والإخضاع، وفي حيويته المدهشة".
• الممارسات اليوميَّة العدائيَّة تجاه المسلمين في العالم الغربي: رغم كل الادعاءات في الدول الأوربيَّة، بأنها مرتعٌ خصب لحرية التعبير والأديان، إلا أن مظاهر العداء للإسلام تتضح يومًا إثر يوم، ولاسيما تجاه حجاب المرأة المسلمة، فمن منا لا يذكر قصة مقتل الدكتورة (مروة الشربيني) في ألمانيا، ثم الممارسات الاستفزازيَّة كما هو الشأن مع الطالبة الجزائرية التي مُنعت من دخول مدرستها في فرنسا؛ لأنها ترتدي الحجاب، في حين يسمح للطلاب اليهود بارتداء قلنسوتهم.
وهناك - أيضًا - قصة الْمُدرِّسة النرويجيَّة التي فُصلت من مدرستها بعد أن أشهرت إسلامها وارتدت الحجاب، فسارعت لرفع عدة دعاوى أمام المحاكم دون جدوى، بحجة أنها تمثِّل خطرًا على النشء! وفي سويسرا كارثة الديمقراطيَّة المزيَّفة التي حظرت بناء المآذن في سويسرا، وقائمة الحقد الغربي مستمرة.
مؤشرات الانهيار:
1- من الناحية الاقتصادية: الأزمة الماليَّة التي أتت على الأخضر واليابس في الولايات المتحدة، وأثَّرت بشكلٍ ملموس على أخواتها - من الدول الليبراليَّة - في الرضاعة، فقد ارتبطت بوادرها بصورةٍ أساسيَّة بالربا، وفي ظل منح القروض العقاريَّة بسعر فائدة معوم؛ أي: متغير، ومع الارتفاع المتوالي لسعر الفائدة من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذُ عام (2004م)، فقد انعكس هذا الارتفاع على تلك القروض، حيث أدى إلى زيادة في أعبائها من حيث خدمتها وسداد أقساطها، وفي المقابل توقَّف عددٌ كبير من المقترضين عن سداد الأقساط الماليَّة المستحقَّة عليهم؛ مما ترتب عليه تحميلهم أعباءً إضافيةً نتيجةً لهذا التأخير وفقًا لسياسة سعر الفائدة، ومما يدل على إثخان جراح الأزمة، وعجز الدول الغربية - رغم استنفارها كل مقوماتها المالية - عن الحد من انتشارها.
2- من الناحية الاجتماعية: تعد الأسرة اللبنة الأساسيَّة والُّلحْمَة الموثقة للمجتمع، لكن يظل التفكك الأسري سمة المجتمع الغربي، وانتشار ظاهرة الأمهات العازبات، والأبناء الذين يسمونهم بالطبيعيين؛ أي: لا علاقة شرعيَّة تجمع والديهم، بل العلامة الغالبة عليهم هي ظاهرة الزنا المقنَّنة، كما نسجل في هذا الباب عزوف الشباب الغربي عن الإنجاب وتكثير النسل؛ إما لانتشار أمراض جنسيَّة في صفوفهم (السيدا، الزهري)، أو استفحال ظاهرة اللواط والسحاق، أو لحفاظ المرأة الغربيَّة على جمالها، ففي فرنسا مثلاً بلغت نسبة الولادة دون زواج 40% من مجمل نسبة مواليد سنة 1997م، وأكثر من نصف النساء - 53% - يضعن أطفالهن دون زواج شرعي، وتضاعفت ظاهرة المعاشرة دون زواج شرعي سنة 1999م، مما يهدد بانقراض الأسرة الفرنسيَّة (التقليدية)؛ بحسب التقرير السنوي للدراسات الديموغرافيَّة في باريس، الذي أكَّد أن الزواج أصبح عادةً (روتينيَّةً) أقلع عنها الكثيرون، كل هذه المؤشرات تجعل المجتمع الغربي مُهددًا بظاهرة الشيخوخة التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق.
إذ عبَّر عن ذلك الخبراء الاستراتيجيُّون الغربيون أنفسهم، من أن المشكلة التي تهدد المجتمع الدولي الغربي تتمثَّل في ظاهرة الديموغرافيا؛ لهذا ركَّز هذا الأخير جُلَّ اهتمامه على العالم الإسلامي، الذي يشكل - على حد تعبيرهم - بؤرة الانفجار الديموغرافي، فأخذ يزوِّده بأدوية – عفوًا: معقمات - للحدِّ من تكاثر النسل الإسلامي، لكن رغم كل هذا، فكل القرائن تدل على أن هذه الخطط الماكرة تظل فاشلةً في أداء مهمتها، ولا أدل على ذلك من الشعب الفلسطيني المسلم المرابط الذي يُقتل أبناؤه يوميًّا، لكن - ولله الحمد والمنة - تزيد البركة في النسل، أما عن نسبة الجريمة في الغرب، فقد أدى تدهور الأوضاع الماليَّة للكثير من الناس في الدول الأوروبيَّة وأمريكا بعد الأزمة الماليَّة الأخيرة، إلى ارتفاع معدَّلات الجريمة والسرقة، مما وضع الشرطة في أمريكا وبريطانيا في حالة استنفار.
أما جريمة الاغتصاب، فهي ماركة أمريكيَّة، وكلنا يذكر فاجعة سجن "أبو غريب" الذي بيَّن جريمة الحضارة الأمريكيَّة!
وارتفعت نسبة الانتحار في أمريكا إلى (70000) سبعين ألف حالة انتحار في كل عام، وأكثرها من شباب العقد الثالث؛ أي: في سن ما بين العشرين والثلاثين.
وفي إحصائيَّات أخرى بلغ عدد المقْدِمين على الانتحار خلال عام واحد مائتين وخمسين ألف شخص، ربع مليون - أي: بمعدل مائة وعشرين شخص في اليوم الواحد - وبالمقارنة فإن هذا العدد أكثر من عدد جرائم القتل التي يعتدي فيها الإنسان على الإنسان، فأصبح قتل الإنسان لنفسه أكثر عددًا من جرائم القتل التي يعتدي فيها عليه غيره.
3- معضلة "عسكرة الاقتصاد الأمريكي": يشير المؤرِّخ (بول كينيدي Kennedy) في كتابه الشهير (صعود وسقوط القوى الكبرى) إلى أن أحد العوامل التي تؤدي إلى أُفول نجم القوى الكبرى: هو عدم قدرة هذه القوى على الحفاظ على توازن معقول بين متطلبات الدولة دفاعيًّا، والوسائل المتوفرة لديها للحفاظ على هذه الالتزامات، وعدم قدرتها على الحفاظ على القواعد التقنية والاقتصاديَّة التي تقوم عليها قوتها من التآكل في مواجهة أنماط الإنتاج العالميَّة المتغيِّرة دومًا.
وكمثال على نتيجة العدوان العسكري الأمريكي على العالم الإسلامي كان بوش قد تسلَّم الحكم في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، وهي لديها فائض قدره 254.8 مليار دولار عام 2000م، وتراجع هذا الفائض إلى 91 مليار دولار سنة 2001م، ثم أصبحت الموازنة تعاني عجزًا كبيرًا وصل إلى 455 مليار دولار في العام المالي الأمريكي المنتهي في سبتمبر 2008م، قبل أن تؤدي التكاليف الهائلة لمواجهة الأزمة الماليَّة والاقتصاديَّة الأمريكيَّة، ومحاولة إنقاذ رأسماليتها المتداعية، من خلال أموال دافعي الضرائب ومجمل الإيرادات العامة، إلى وصول عجز الموازنة العامة للدولة لمستويات قياسيَّة تُقدَّر بنحو 1700 مليار دولار في العام المالي الأمريكي الحالي الذي ينتهي في سبتمبر 2009م.
4- انهيار النظام الرأسمالي: تأتي قيمة الحرية الاقتصادية المنفلتة من أي ضوابط أو قيود، أو رقابة فعَّالة من الدولة - في مقدمة المنظومة القيميَّة التي شكَّلت الثقافة الاقتصادية في الغرب والعالم في العقدين الأخيرين، ونتج عن سيادة هذه الثقافة الرأسمالية موجة عاتية من الفساد ضربت الشركات الأمريكيَّة عامي 2001م و2002، وخلَّفت وراءها انهيارًا كاملاً لشركة (إنرو Enron) النفطيَّة، لكن الانهيار الأشد هولاً انهيار الشركات الماليَّة والعقاريَّة الذي بدأ بانهيار عملاقتي الرهن العقاري: (فاني ماي Fannie Mae)، و(فريدي ماك Freddie Mac)، فهذا النظام كرَّس غياب العدالة الاجتماعيَّة من خلال الثراء في أيدي فئات محدودة من البشر على حساب أعداد هائلة من الآخرين؛ مما أدَّى إلى انتشار الفقر بين صفوفها انتشار النار في الهشيم.
هذا غيض من فيض، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، وإلى موعد لاحق إن شاء الله مع قراءات جديدة في نفس الموضوع.
_______________________________________________________
المراجع المعتمدة:
1- جواد التهامي؛ "المخططات الصهيونية الصليبية لتدمير الأمة الإسلامية"، الطبعة الثالثة، 2009.
2- ياسمين سامي ضيف الله؛ "سقوط الإمبراطورية"، موقع إسلام أون لاين.
3- أحمد السيد النجار؛ "الثقافة والقِيَم الاقتصادية نصيب العرب من الأزمة العالمية"، مجلة العربي الكويتية، العدد(614)، يناير 2010.
4- أولريش شيفر؛ "انهيار الرأسمالية: أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود"؛ ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، العدد(371)، يناير 2010.
_________________________________________________
الكاتب: د. مولاي المصطفى البرجاوي
- التصنيف: