صالونات الإلحاد في الغرب
إن الإلحاد يشق طريقه اليوم وبقوة ويعمل عمله في العالم الغربي، وهذا يعني أن الموجات الإلحادية توشك أن تبتلع الحضارة الغربية لتلبس لبوسها، وتتقنع بأقنعة المدنية فيها، وصولًا إلى تصديرها إلى أذنابهم في عالمنا العربي والإسلامي؛ مما يتطلب منا اليقظة والحذر الشديد خلال السنوات العشر القادمة.
لا شك أن الإلحاد بمفهومه المعاصر الذي يتضمَّن إنكار وجود الخالق والإله، لم يكن مشتهرًا عند الأقدمين، ولم يُعرف عن أمة من الأمم في القديم أنها أنكرت وجود الخالق إلا فئة قليلة لا يعبأ بها، ولا يلتفت إليها، ومن هنا لم يعتنِ القرآن الكريم عناية كبيرة بمن أنكروا وجود الله تعالى؛ لأن أمثال هؤلاء من القلة في العدد والسفاهة في الرأي بحيث لا يؤبه لهم، ولذلك نجد أن دعوة القرآن الكريم توجهت نحو الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة.
ويمكن القول: إن الإلحاد المتمثل بإنكار وجود الله تعالى، والقول بمادية الكون لم يعرف خلال تاريخ البشرية بوصفه ظاهرة عامة، بل هو سمة من سمات هذا العصر الحديث وثمرة للمقولات التي انتشرت إبان الثورة الفرنسية، ومنها مقولة: "لن يعم السلام إلا إذا شُنق آخر إقطاعي بأمعاء آخر رجل دين".
تُنسب هذه المقولة أحيانًا عن طريق الخطأ إلى فولتير، ولكن صاحبها هو جان ميسليير الذي مات قبل الثورة الفرنسية بـ ٦٠ سنة، والمقولة الأصلية هي: "عندي أمنية، ربما آخر وأهم أمنية في حياتي، وهي أن يُشنق آخر ملك بأمعاء آخر رجل دين"، مع أن ميسليير نفسه كان رجل دين، ولكنه يعرف الفساد الذي أدخله رجال الكهنوت الديني النصراني للسياسة والعكس، وهكذا بدأ الإلحاد يتسرب للحياة العامة بعد أن بدأت الصالونات المغلقة للتأسيس له نظريًّا وعمليًّا.
نشير هنا إلى أن معظم نزعات الإلحاد التي ظهرت في التاريخ البشري، وعند بعض الأفراد، إنما كانت عرضًا طارئًا على نفوسهم وأفكارهم، ونزغات غير مستقرة، ظهرت في بعض مراحل حياتهم، ولأسباب نفسية أو اجتماعيةٍ مروا بها، ثم خَبَتْ هذه النزعات والنزغات، ثم انطفأت نيرانها، وعلى هذا فإن إنكار وجود الله تعالى على الوجه الذي تتبجح به الجاهلية المعاصرة، وبالسعة الذي تمارس بها ذلك التبجح، أمر غير مسبوق في تاريخ البشرية، وكثير من هؤلاء صحا من سكراته ورعوناته، وعاد إلى حظيرة الإيمان، ولم يصبح الإلحاد ظاهرة وبائية في كتل بشرية وتجمعات إنسانية ثقيلة وخطيرة.
ومع ظهور بوادر الإلحاد، نشأت العديد من المدارس والمذاهب الفكرية والاجتماعية، والتي تصب في مصب الإلحاد، وتستلهم منه مادتها، وهناك العديد من المدارس وكذلك النظريات، سواءً ما كان منها علميًّا بحتًا، أو اجتماعيًّا، أثرتْ أو تأثرتْ بالإلحاد، وقامت بترسيخ مفاهيمه، ودعتْ إليه، وينقسم الملحدون عبر تاريخ الإلحاد الى أربع مجموعات رئيسة هم:
1- نخب علمية وفلاسفة تبنَّوا الإلحاد بناءً على قناعاتهم، معتمدين على نظريات علمية، أو أطروحات فلسفية.
2- حركات سياسية، كما حصل مع الشيوعيين الذي استولوا على السلطة في روسيا بعد الثورة البلشفية، ونشروا الإلحاد بالقوة والعنف في العديد من الشعوب التي ضموها إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وحولوها إلى مستعمرات.
3- أفراد غير متخصصين، أو مُؤدلجين، وجدوا القول في الإلحاد هروبًا من قيود الدين، أو إثباتًا لذواتهم، أو تحقيقًا لمصالح أخرى.
4- عدد لا بأس به من الصامتين من كل الديانات والمجتمعات والأجناس، ممن لديهم شك، لكنهم لا يطرحونه للنقاش، إما تأثرًا بالمظهر العلمي والفلسفي الذي يطرح به أصحاب الفكر الإلحادي أفكارهم وشبهاتهم، أو نتيجةً للأسلوب المنغلق الذي تعلموا به دياناتهم؛ حيث يرفض معلموهم أيَّ منطق، أو علمًا يخالف ما يفهمون، وهو ما يسمى بأسلوب (هو هكذا Just- so)، كما يدعي هؤلاء المعلمون الانفراد بالفهم عن الإله، وأن على الآخرين أن يسلِّموا بذلك[1].
وفي كتاب القوانين لأفلاطون يذكر أن للإلحاد ثلاثة أضرب: الضرب الأول: إنكار الإله (الفلاسفة الطبيعيون قبل سقراط)، الضرب الثاني: إنكار العناية الإلهية؛ أي اثبات الإله، وإنكار عنايته بالعالم، وهذا يستلزم إنكار النبوات والشرائع، فهذا ضرب من ضروب الإلحاد كما يقول أفلاطون، (وهؤلاء يُدعون بالربوبيين)، الضرب الثالث: وهو الاعتقاد أن الإله، أو الإلهة يستجلب رضاها، ويدفع ضررها عن طريق تقديم القرابين كالقضاة المرتشين.
ويمكن الإشارة هنا إلى أن الملحدين المعاصرين يتنوعون ما بين ملحد قوي، أو متصلب (Atheist)، وهو اللون الغالب من الإلحاد في الوقت الحاضر، وهناك اللاأدري (Agonistic)، وهو المتوقف في مسألة وجود الله، ويرى أن أدلة إثبات وجود الله تتكافأ مع أدلة نفي وجوده، وبالتالي لا يمكن إعطاء حكم عقلي في هذه القضية، وصنف ثالث وهو الربوبي (Diest)، وهو المعتقد بوجود إله خالق، لكنه يرى أن هذا الإله خلق الكون ثم تركه يعمل كالساعة الزنبركية التي أُدير مفتاحها، ثم تركت لتعمل وحدَها بدون توجيه ولا تدبير، والصنف الرابع هو اللاديني(Irreligious)، وهو المنكر للأديان عامة، ومما تنبغي الإشارة إليه هنا هو أن هناك من يتبنى الإلحاد بوصفه عقيدة يدافع عنها بشراسة، وآخرون يتبنونه فكرًا مبتنًى على بحث وقراءة أدت به إلى هذا الموقف، وآخر ثالث تبنى الإلحاد من باب التقليد الأعمى دون تعمُّق أو تفكير.
وقد كان لصالونات الإلحاد في الغرب التي تعرف بـ(الصالونات الأدبية) - الأثرُ الكبير في تثقيف العامة بالإلحاد، ولعل أقدم صالون عرفته الوثائق التاريخية هو "فندق رومبيو" القريب من قصر اللوفر في باريس، وكانت مضيفته الرومانية الأصل مركيزة دو رومبيو، واسمها كاترين دو فيفون (1588-1665)، وقد أدارت جلساته منذ عام 1607 حتى وفاتها، وكانت هي من أسست لقواعد وأصول الصالونات الفرنسية بالاستناد إلى قواعد وقوانين الفروسية الإيطالية.
ومن الصالونات المهمة في فرنسا صالون البارون دي هولباخ الذي عُرف بوجوده في الصالونات الأدبية وبإلحاده؛ حيث كانت له كتابات غزيرة ضد الدين، ومن أشهرها مؤلفه "نظام الطبيعة"، وكانت فلسفته مادية وإلحادية صريحة، وتُصنف ضمن حركة فلسفية تدعى المادية الفرنسية، وقد نشر كتاب (كشف النقاب عن المسيحية) في عام 1761 الذي هاجم فيه الديانة المسيحية بشكل عام، واعتبرها عائقًا أمام التقدم الأخلاقي للإنسانية، وقد استخدمَ بارون دولباخ ثروته من عام 1750 وحتى عام 1780 لرعاية واحدة من أكثر صالونات باريس شهرة وبذخًا، التي سَرعان ما أصبحت ملتقًى مهمًّا للمسهمين في موسوعة إنسيكلوبيديا العلمية؛ حيث كان يأتيه كل الملاحدة من كل مكان، ويجمعون حججهم في النفي وإنكار الإله، ويؤسِّسون لها.
ووفقًا لبعض الإحصاءات، فإن انتشار الإلحاد في العالم يتنامى بصورة خطيرة، ومن هذه الإحصاءات ما قامت به مؤسسة (يوربا روميتر)، وهي من كبريات المؤسسات الإحصائية في أوروبا، فقد ذكرت أن 18% من سكان أوروبا في عام 2005م أصبحوا ملاحدة لا يؤمنون بوجود خالق، و27% منهم لا يؤمنون بخالق، وإنما يؤمنون بعالم روحاني أو قوة وراء الحياة.
وفي الدول الإسكندنافية نجد أن غالبية السكان من الملحدين واللا دينيين، وفي ألمانيا 30% من السكان ملاحدة، وفي فرنسا 40%، وهكذا، فلم يعد الإلحاد حالة نخبوية ضيقة، بل صار لها وجود شعبي وقاعدة عريضة بين أمم من الخلق.
وكذلك ما ذكرته مجلة (فاينانشال تايمز)، فإنها ذكرت أن 65% من اليابانيين أصبحوا في عام 2006م ملاحدة، وكذا إحصائية مؤسسة (إينجو) التي ذكرت أن عدد الملاحدة يزداد في المكسيك بنسبة 5،2%، وقد ذكرت إحصائيات أخرى أن نسبة الملاحدة في الصين ما بين 8-14%، ناهيك عن أن كثيرًا من البوذيين - وهم أعداد هائلة - هم في حقيقة أمرهم ملاحدة، ومنها أيضًا إحصائية مؤسسة (إبسوس ريد)، وهي مؤسسة شهيرة مختصة في استطلاعات الرأي، ذكرت أن أعداد الملاحدة في كندا عام 2011م وصلت إلى 43%، أما قناة BBC فقد ذكرت في تحقيق أن 9% من الأمريكيين ملاحدة، كما ذكرت إحصاءات أخرى رسمية وشبه رسمية أن الإلحاد في الولايات المتحدة ينمو بوتيرة سريعة، وأن 55% من الملاحدة واللا دينيين تقل أعمارهم عن 35 عامًا، وأن الجامعات الأمريكية مرتع خصب لانتشار هذا التيار.
ما نريد قوله: إن الالحاد يشق طريقه اليوم وبقوة ويعمل عمله في العالم الغربي، وهذا يعني أن الموجات الإلحادية توشك أن تبتلع الحضارة الغربية لتلبس لبوسها، وتتقنع بأقنعة المدنية فيها، وصولًا إلى تصديرها إلى أذنابهم في عالمنا العربي والإسلامي؛ مما يتطلب منا اليقظة والحذر الشديد خلال السنوات العشر القادمة.
[1] يُنظر: خرافة الإلحاد، عمرو شريف، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2014م: 26-27.
______________________________________________
الكاتب: د. عمر عيسى عمران
- التصنيف: