لباس المرأة بين العفاف والإسفاف

منذ 2021-12-07

أيها المؤمنون، لئن عُدْنا متأملينَ مكيدةَ الشيطانِ الأولى بإغرائِهِ أبويْنا حتى أكلا من الشجرة، لوجدْنا أنه بدأَ أوَّلَ ما بدأَ بنزعِ اللباسِ وإبداءِ العورة..

يقول سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26].

 

هذا الخطابُ الربانيُّ صدَّرَهُ سبحانهُ لبني آدمَ مُمْتَنًا عليهِم بِإنزالِ اللباسِ لهم، يُواري سوءاتِهم، ويَحفَظُ أعراضَهُم، ويُحَصِّنُ الحياءَ في نفوسِهِم، للرجالِ لِباسٌ يَخُصُّهُم، وللنساءِ لباسٌ يخُصُّهُن؛ فلا تلبسُ المرأةُ لباسَ الرَّجل، ولا يلبسُ الرجلُ لباسَ المرأة، نهَى الرجالَ عن الإسبال، وشرعَه للنساء مبالغةً في سترِهِن وعِفَّتِهِن، ثم ذَكَّرَنا سُبحانهُ بلباسِ التقوى، وأخبرَنا أنه خيرٌ من لباسِ البدن؛ فكما يُحِبُّ الإنسانُ السَّويُّ أن يستُرَ عورتَهُ عن الناسِ باللباس، ويُحِبُّ أن يَتزيَّنَ بالزينة؛ فإن لباسَ الأخلاقِ والدينِ وهو اللباسُ المعنويُّ خيرٌ وأزكى؛ لأنه اللباسُ الحقيقيُّ الذي يمنعُ الإنسانَ من التكشُّفِ والعُرِيِّ وإظهارِ ما يجِبُ سَتْرُهُ عن أعينِ الناس.

 

أيها المسلمون، إن هذا اللباسَ بجميعِ أصنافِهِ وأشكالِهِ من الزينةِ التي أخرجَها اللهُ وأباحها لعبادِه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32].

 

أضاف سبحانهُ في هذهِ الآيةِ الزينةَ إليهِ امتنانًا علينا بنعمتِه، وتنبيهًا لنا أن نعتقدَ فيها بأحكامِ شريعتِه؛ فلا نتحكمُ فيها بتحليلٍ أو تحريم، أو نستعملُها فيما يخالفُ الشرعَ الحكيم {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

 

أيها المؤمنون، لئن عُدْنا متأملينَ مكيدةَ الشيطانِ الأولى بإغرائِهِ أبويْنا حتى أكلا من الشجرة، لوجدْنا أنه بدأَ أوَّلَ ما بدأَ بنزعِ اللباسِ وإبداءِ العورة {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].

 

لقد حمَلَ الشيطانُ على عاتقِهِ الدعوة إلى نزعِ اللباسِ وإظهارِ العوراتِ في ذُريةِ آدم، جنَّدَ لذلك جنودَه؛ لعلمِهِ لما تقودُ إليهِ هذه الدعوة البائسة، وصدَقَ اللهُ ومَن أصْدقُ من اللهِ قيلا، فها هو النَّزْعُ متَّصِلٌ على تعاقُبِ الدهورِ ومَرِّ الأزمانِ بأساليبَ ماكرة، وإغراءاتٍ فاتنة، وبنظرةٍ فاحصةٍ لواقعِ البشريةِ اليوم تُغنيكَ عن كثيرٍ من الشواهد؛ فما واقِعُ الملابسِ الرياضيةِ لكثيرٍ من الألعابِ بِخافٍ علينا؛ فكيفَ لو مِلْتَ بطرْفِكَ إلى ما خُدِعَتْ بهِ المرأةُ ولُبِّسَ به عليها؛ فكم مِن أزياءَ وموضاتٍ تحسِرُ كُلَّ يومٍ عن شيءٍ من مفاتنِ المرأةِ وجمالِها بدعوى الزينةِ وملاحقة رديء الدعايات، إنَّ الحديثَ عن اللباسِ عبادَ الله من الأهميةِ بمكان، لمِا لهُ من الأثرِ العظيمِ في مسيرةِ المجتمعات، وخاصةً فيما يتعلقُ بالنساء لمِا لَهُنَّ من أثَرٍ وفتنةٍ على الرجال، بل على المجتمعِ بأسْرِه؛ فبِصيانةِ المرأةِ وحُسْنِ لِباسِها يُصانُ المجتمع، وإضاعتُها إضاعةٌ له؛ وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من فتنةِ النساءِ فقال: "اتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أولَ فتنةِ بني إسرائيل كانتْ في النساء".

 

معاشرَ المسلمين، لَمَّا كان لباسُ المرأةِ المسلمةِ غايةً في التحفُّظِ والسترِ والعفاف، يصونُها عن أعينِ الناظرين، ويحفظُها من كيدِ الكائدين، ويُظهِرُ اعتزازَها بدينِها وقِيَمِها أمامَ المعتدين، لَمَّا كان الأمرُ كذلك، شرِقَتْ بذلك نفوسُ أعداءِ الأُمَّة ومَن سارَ في رِكابِهِم مِنَ المخذولينَ والمخدوعينَ فكادُوا لفتاةِ الإسلام، ورمَوْها بقوسٍ واحدة، إننا نرى اليومَ أباطرةَ الشرِّ والفسادِ يتفنَّنونَ في استحداثِ ألبسةٍ نسائيةٍ إن لم تكن ضيقةً فعارية، وإن لم تكن عاريةً فمشقَّقَةُ الجوانب، لها فتْحاتٌ جانبيّةٌ وخلفيّةٌ تَصِلُ أحيانًا إلى ما فوقَ الرُّكبة، فإن لم تكن كذلك فمُتَشَبَّهٌ فيها بالكافرات، وقد يجمعُ ذلك كلَّهُ فتنةٌ وإغراءٌ في كثيرٍ من الأزياء، أيها المؤمنون: إنَّ مِن أشدِّ وسائلِ غزوِ لباسِ المرأةِ تلكَ القنواتِ التي تبُثُّ مِن عفَنِها ما يُهَيِّجُ النفوسَ ويُثيرُ كوامِنَها، وقد حدَثَ من جرَّائِها ما يستحي اللسانُ من ذِكْرِه، والأذُن مِن سماعِه، وقد تواطأَ كلامُ العُقلاء على حدوثِ عواقبَ وخيمةٍ في الأعراضِ بسببِ ذلكم، لقد علَّمتْنا تلك الوسائلُ الإعلاميةُ أنَّ الانحلالَ حلال، وأن الكفرَ فِكْرٌ يجبُ احترامُه، وأنه لا بُدَّ مِنَ الاستسلامِ للفساد، إذا فشا وساد، علَّمتْنا أنه لا بأسَ بخروجِ المرأةِ كاسيةً عاريةً بملابسَ فاضحة، علَّمتْنا تلك القنواتُ أنَّ القِوامةَ تخلُّف، وأن الغيرةَ تسلُّط، وأن الحريةَ والإباحيةَ تحضُّرٌ وتمدُّن، لقد سَلبتْ هذه الوسائلُ وغيرُها مِنَ المرأةِ حياءَها، ومن الرجالِ غيرتَهُم ورجولتَهُم، ومن الكثيرين إحساسَهُم، وما لِجُرحٍ بميتٍ إيلامُ، يا مسلمون: من كان منكم في شكٍّ في تأثيرِ الأعداءِ وغزوِهِم للباسِ نساءِ المسلمين فلْيُلْقِ بطرْفِهِ إلى ما يُلبسُ في الأعراسِ والأفراحِ والمناسباتِ النسائية، حيثُ شاعَ مع الأسفِ لُبْسُ الملابسِ العاريةِ وشِبْهِ العارية، والضيِّقةِ المحدِّدَةِ للعورات، والمفتوحةِ المظهرةِ للصدورِ والظهور، وبعضُ النساءِ لا ترتدي إلا الملابسَ الشفافةَ التي لا تسترُ أجزاءَ الجسد، لقدِ ارتفعتْ أصواتُ النساءِ الصالحاتِ مِمَّا يُواجِهْنَهُ في حفْلاتِ الزواجِ من لحومٍ عارية، وأجسادٍ مكشوفةٍ بادية، عوراتٌ ظاهرة، ومَوْضاتٌ فاضحة، بِحُجةِ أن لُبْسَها إنما هو بينَ النساءِ فقط، وهذه حجةٌ أقبحُ من ذنب؛ فإن فتاوى العلماءِ الأجلاءِ في بيانِ ذلك مشهورةٌ معلومة، تُحَرِّمُ على المرأةِ أن تُظهِرَ شيئًا من عورتِها أمامَ امرأةٍ أخرى، أيها الغيورون النبلاء، أيها الرجال، لِيعلمَ كلُّ أبٍ ووليٍ أنه مسئولٌ أمامَ اللهِ تعالى عن محارمِه؛ فعليهِ أن يأمرَهُنَّ بالمعروف وينهاهُنَّ عن المنكر، فإنْ رأى منهُنَّ تهتُّكًا في اللباسِ - ولو عندَ محارمِهِنَّ - منعَهُنَّ مِن ذلك، فإنْ قَبِلْنَ الوعظَ وإلا أَخَذَ على أيديِهِن، وقَصَرَهُنَّ على الحقَّ قصْرا؛ ففي ذلك حمايةٌ لهُ ولهُنَّ في الدنيا من العارِ والفضيحة، وفي الآخرةِ من غضب الله ونقمته وأليم عقابه، حمى اللهُ الجميعَ من موجباتِ سخَطِه، وبسَطَ علينا رِضاهُ ورحمتَه، أقول قولي هذا..

 

فيا عباد الله، إذا هاجمت الأمراضُ الأجساد، توَجَّب على ناشدي الصحةِ والعافيةِ مكافحتَها ومقاومتَها، ومُجرَّدُ العلمِ بوجودِ المرضِ ووصولِهِ إلى الجسد، أو الحُزْنِ على الإصابةِ بهِ لا يكفي للقضاءِ على الأمراضِ واستئصالِها ما لم يتبعْ ذلك عملٌ يَجتثُّها بالكليةِ أو يُقاومُ انتشارَها، ونحن إزاءَ هذا الهجومِ السافرِ على لباسِ المرأةِ نحتاجُ إلى وقفةٍ صادقةٍ مِن كلِّ واحدٍ مِنَّا؛ لئلا يَستشري فينا هذا الداءُ ثم نألفُهُ حتى يتبلَّدَ إحساسُنا به، ولا أقلَّ مِن مَنْعِ كلِّ واحدٍ مِنَّا محارمَهُ، ومَن تحتَ يدِهِ شِراءِ تلكَ الملابسِ العاريةِ أو لُبْسِها قبل تعديلِها وإِضفاءِ وصْفِ الستر والحشمةِ عليها، وذلك باستخدامِ كافةِ الوسائلِ المتاحةِ ترغيبًا أو ترهيبًا، ولا يغفَل صاحبُ الوِلايةِ أو يتغافلْ عمَّا يراهُ من لِباسٍ غيرِ محتشِمٍ على أهلِهِ ومَن تحتَ يدِه، وليَتفقدهُم عندَ الخروجِ للمناسباتِ والزيارات، وليَجعل لنفسِهِ هيبةً في نفوسِهِم غيرةً لله تعالى، فإنه عنهم مسؤول، ويومَ القيامةِ محاسَب {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، «ما من عبد يسترعيه الله رعيةً يموتُ يومَ يموتُ وهو غاشٌّ لرعيتِهِ، إلا حرَّمَ اللهُ عليهِ الجنة»؛ (متفق عليه).

 

أيها الأولياء، لا تتنصَّلوا عن واجِبِكُم تجاهَ أهليكُم وبناتِكُم، الأبُ والأمُّ هما ركنا البيتِ، فليتعاونا وليتشاورا، ولا يتغافلا ويتجاهلا، ولا يُلْقِ أحدُهُما باللَّائمةِ على الآخر فتضيعَ الرعيةُ، ويندمَ الأبَوان ولاتَ حينَ مندم، وإن أبَتْ المرأةُ إلا العِناد، ولم تقبلْ النصحَ والإرشاد، فهي بفعلِها تُشجع غيرَها على التعري وقلةِ الحياء، وتبوء بإثمِ من اقتديْنَ بها، وحسابُها عند الله {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]، ولتَحذر ممن قال الله فيهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]، فاللهم رحماك رحماك، ونسألك تقواك ورضاك، هذا وصلوا..

إبراهيم بن عثمان الفارس

أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة كلية أصول الدين -جامعة الإمام محمد بن سعود.

  • 5
  • 1
  • 2,685

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً