إنسانية الإسلام في مواجهة الحضارة الحيوانية

منذ 2021-12-13

توشك حضارة (الشذوذ) أن تصل بالإنسان إلى "أسفل سافلين" بعد أن عقدت لتقنين الحيوانية مؤتمرات التنمية والسكان، أدت لتقنين اللادينية والفوضوية..

توشك حضارة (الشذوذ) أن تصل بالإنسان إلى "أسفل سافلين" بعد أن عقدت لتقنين الحيوانية مؤتمرات التنمية والسكان، أدت لتقنين اللادينية والفوضوية: مؤتمرات العولمة بقيادة الماسونية والصِّهيونية و"القبالية" المسيطرة على مواقع التأثير السياسي والإعلامي والاقتصادي في العالم، ونحن ملزمون بالتحذير من هذه الحضارة التي نسيت الله والدين، وأصبحت (مسيحًا دجالاً) ينظر بعين واحدة ويكيل بكيلين، ويلعب بالعقول؛ ولهذا فنحن ملزمون بالإصغاء إلى (محمد إقبال) وهو يقول لنا: إياكم وهذه الحضارةَ اللادينية التي هي في صراع دائم مع أهل الحق، إن هذه الفتانة تجلب فتنًا، وتعيد اللات والعزى إلى الحرم، إن القلب يعمى بتأثير سِحرها، وإن الروح تموت عطشًا في سرابها، إنها تقضي على لوعة القلب، بل تنزع القلب من القالب، إنها لص قد تمرن على اللصوصية، فيُغِير نهارًا وجهارًا، إنها تدع الإنسان لا روح فيه ولا قيمة له".

 

ويتابع إقبال - الذي عاش بين أحضان الحضارة الغربية - تحذير المسلمين قائلاً:

• إن شعار هذه الحضارة: الغارة على الإنسانية، والفتك بأفراد النوع البشري، وإن شغلها الدائم التجارة، إن العالم لا يسعد بالسلام والهدوء، وبالحب البريء النزيه، والإخلاص لله، إلا حين تنهار هذه الحضارةُ الجديدة[1].

 

وأيضًا:

"إن شعار الحضارة الحديثة الفتك ببني آدم الذي تقوم عليه تجارتها، وتنفق سلعتها، ليست هذه المصارف العظيمة إلا وليدة دهاء اليهود الأذكياء، الذي انتزع نور الحق من صدور بني آدم، إن العقل والحضارة والدِّين حُلْم من الأحلام ما لم ينقلب هذا النظام رأسًا على عقب".

 

• إنها حضارة شابة بحداثة سنها والحيوية الكامنة فيها، ولكنها محتضرة تعاني سكرات الموت، وإن لم تمت حتف أنفها فستنتحر وتقتل نفسها بخَنجرها، ولا غرابة في ذلك؛ فإن كل وكر يقوم على غصن ضعيف ليس له استقرار، "ولا يستغرب أن يرث تراثها الديني ويدير كنائسها اليهود"[2]، ما تنبأ به (محمد إقبال) نعيشه اليوم، ولا سيما بعد مؤتمرات السكان والتنمية، ووضوح الهيمنة الصِّهيونية على العرشين الأمريكي والأوربي، وبعد أن ظهر خضوع بعض الكنائس وقساوستها لضغوط قيادات الشذوذ الجنسي، وعقد بعض الزيجات في بعض الكنائس بين الشواذ، وتمكين بعض الشواذ من القيام بخدمات لاهوتية، وهذا يجعلنا نوقن في الوقت نفسه أن المسيحيين، ولا سيما طائفة البروتستانت، ونوقن في الوقت نفسه أن الأصابع الصهيونية والماسونية - وراء هذا الهبوط الذي دعت إليه بوضوحٍ برتوكولات حكماء صهيون.

 

ونحن هنا نؤيد بالنزعة الإنسانية والشمولية التي يدعو إليها (إقبال) - أمة المسلمين في مواجهة هذه الأخطار؛ فالأمة الإسلامية ذات مسؤولية نحو الإنسانية كلها، ونحن لهذا نختلف مع العلاَّمة (مالك بن نبي) الذي أخذ على إقبال أنه وهو "يخط للعالم الإسلامي طريق نهضته الروحية - طالب بصبغة في التفكير تمكنه من النظر إلى الأشياء والتنظيمات، "لا من حيث نفعها أو ضررها الاجتماعي الذي تعود به على بلد أو آخر من حيث الأهداف العظمى التي يسعى إليها مجموع الإنسانية"؛ فهذا النوع من الفكر الميتافيزيقي الذي قال به إقبال قد يصطدم بالأذهان ذات النزعة العقلية، تلك التي ترى أن كل ما لا يدخل في نطاق المادة لا يدخل في نطاق العقل"، كما يرى مالك بن نبي[3]: "أن دخول العثمانيين إلى أوروبا كان سيحمل إلى أوروبا إسلامًا لا يعيش أصحابه عصر تألق به، ولا فقه صحيح له، بينما كانت حضارة المسلمين في حاجة إلى شَفَق يغلِّفها لحظة أفولها.

 

• لقد كانت إحداهما - أي: أوروبا - بداية نظام جديد، وكانت الأخرى - أي: الخلافة العثمانية - نهاية دارس، وما كان شيء في الأرض يستطيع أن يدفع عن العالم الليل، الذي أخذ يبسط سلطته يومئذٍ على البلاد الإسلامية في هدوء، فلو أن تيمور لنك كان قد اتبع دوافعه الشخصية لَمَا استطاع شيء أن يحول دون نهاية الحضارة الإنسانية، وأخيرًا يتساءل - ويجيب - مالك بن نبي قائلاً: لماذا حال تيمور لنك دون قيام بايزيد بنشر الإسلام في قلب أوروبا؟

 

والجواب لكي تتابع أوروبا المسيحية بجهدها الحضاري الذي لم يكن العالم الإسلامي بقادر عليه منذ القرن الرابع، حيث كان في نهاية رمقه، ومهما يكن من شيء، فإن مضمون هذه الأحداث التاريخية، ليس بالبساطة التي قد تظهر لعين الذين لا ينظرون إلى الأشياء إلا من وجهة النظر الفردية، أو القومية؛ فهناك حسب تعبير إقبال "خطة للمجموع"، هي التي تكشف عن اتجاه التاريخ[4].

 

ومن جانبنا نرى في مجال التعليق على الرؤية العميقة لفيلسوفنا مالك بن نبي أنه لم يكن ضربة لازب، ولا قولاً واحدًا، أن يكون الإسلام الذي يذهب به الخافية (بايزيد) وإخوانه من الأتراك إلى أوروبا - مثقلاً بكل الشحنات الخاصة ذات الطابع العسكري الصارم، الذي يحمله جنود آل عثمان، الذين تغلب عسكريَّتُهم وغَيْرتهم على فقههم الحضاري، ولقد كان ممكنًا أن يجد الإسلام في أوروبا الناهضة التنويرية الصاعدة أرضَه الخصبة التي يبحث عنها - في دورته تلك - لكي ينتج من خلالها منهجية إسلامية، حضارية، إيجابية، عقلية فاعلة، بعيدًا عن الجزئية والسكونية المشرقية، وقد كان من شأن هذا الواقع أن ينقذ الإنسانية من المسيرة الحضارية الأوربية التي تقدمت عقلاً على حساب دين الكنيسة الذي عجز عن استيعاب شروط النهضة... وكان في جهوده ووقوفه ضد العلم والعقل أسوأ ألف مرة من جمود العثمانيين.

 

• وأيًّا كان الأمر، فإن الإنسانية اليوم - أوروبية وغير أوروبية - أحوج ما تكون إلى الإسلام الصحيح، بعيدًا عن تشرذم المسلمين وتخلُّفهم.

 

ولعل الظروف الإنسانية المعاصرة، والشباب المسلم المثقف الحكيم الفقيه بدينه وبالواقع - يحقق هذا التلاحم بين الإيجابيات الأوروأمريكية التي لا يمكن إنكار قيمتها في الجوانب المادية والمعاشية، وبين إنسانية الإسلام التي تملك وحدها منهجًا إنسانيًّا عالميًّا يقوم على الرحمة والمساواة والأخوة بين جميع البشر في المجالين معًا؛ مجال تحقيق سِلْم عام، وعلاج تام لأمراض الإنسانية في الأوقات السِّلمية، ومجال فرض الإنسانية في الأزمات والحروب؛ فأما في المجال السِّلمي العام والظروف العادية، فإن منهجنا يقوم على اتباع منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو - للأسف - المنهاج الذي يفتقده عامة المصلحين الذين يأتون البيوت من ظهورها، أو يتسللون إليها من نوافذها، ويكافحون بعض الأدواء الاجتماعية والعيوب الخلقية فحسب، فمنهم من يوفَّق لإزالة بعضها مؤقتًا في بعض البلاد، ومنهم من يموت ولم ينجح في مهمته، لكن منهاج النبوة يأتي الدعوة والإصلاح من بابه، ويضع على قُفْل الطبيعة البشرية مفتاحه، ذلك القُفل المعقد الذي أعيا فتحُه جميعَ المصلحين في عهد الفترة، وكل من حاول فتحه من بعده تغيَّر مفتاحه، وهو مفتاح الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وحده، ورفض الأوثان وعبادتها، والكفر بالطاغوت بكل معاني الكلمة؛ ((يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله، تُفْلحوا))، والدعوة إلى الإيمان برسالات الله، والإيمان بالآخرة، وبكل الأنبياء والرسل.

 

وقد رأينا أن أصحابه عندما آمنوا وتفتحت قلوبُهم على الحقائق الكبرى، عولج كلُّ شيء؛ لأن الإنسان قد عولجت فطرتُه؛ فأصبح مفتح الفطرة، مؤهَّلاً لعلاج كل الأمراض، وإدراك كل الحقائق، وهكذا يجب أن نفعل اليوم، والنتائج نفسها تنتظرنا لو حاولنا أن نصبح (أمة دعوة) أمة الحضارة الحقة... خير أمة أخرجت للناس، ومن ثم نحول أفرادًا ومؤسسات ودولاً إلى (دعاة فقه حضاري خالص)، لنا مشروعنا لإنقاذ الإنسانية، لا تصادم الباطل بالباطل، ولا العنف بالعنف، ولا دعوة الصدام بالصدام، بل بالحوار، والعدل، والإحسان.

 

إن من الواجب علينا في عصرنا هذا أن نمضي على منهاج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إصلاح الخلل العالمي، فلا ننسخ باطلاً بباطل، ولا نبذل عدوانًا بعدوان، ولا نُحرم شيئًا في مكان ونحِلُّه في مكان آخر، أو نبدل أثرة الأمة بأثرة أمة أخرى، وإنما نجاهد في سبيل إخراج عباد الله جميعًا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ونخرج بالناس جميعًا من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام[5].

 

وخطابنا - كذلك على خُطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يكون خطابًا لأمة دون أمة، ولا لوطن دون وطن، لكنه خطاب للنفس البشرية وللضمير، وأما في المجالات الاستثنائية - مجالات الحروب والنزاعات - فإن الإسلام - كذلك - يقدم لنا الإطار الإنساني الذي يلزم بالتزامه، وعلى المسلمين أن يجاهدوا ليحملوا غيرهم على التزامه أيضًا، ويقدم لنا (مارسيل بوازار) خلاصة النظام القانوني الإسلامي في هذه الحالات الاستثنائية في كتابه: "إنسانية الإسلام" في هذه النقاط المحددة:

1- حظر التجاوز والغش والظلم في جميع المجلات.

 

2- منع إنزال الأضرار الزائدة على الحاجة بالعدو؛ كالقتل والقسوة والتعذيب المهين.

 

3- حظر أعمال التدمير غير المفيدة، ولا سيما إتلاف المزروعات.

 

4- إدانة الأسلحة المسمومة والتدمير الجماعية العشوائية.

 

5- التمييز بين المقاتلين، وهم يحملون في الجيوش الإسلامية شارات مميزة، وبين المدنيين غير المشتركين بصورة مباشرة في القتال.

 

6- احترام المنسحبين من الالتحام؛ كالجرحى، والجنود المتمتعين بأمان موسع - الحماية - وأسرى الحرب.

 

7- المعاملة الإنسانية للأسرى للذين يبادل بهم، أو يحررون من جانب واحد، حين تضع الحرب أوزارها، شرط ألا يبقى أيُّ أسير مسلم في قبضة الأعداء.

 

8- حماية السكان المدنيين: احترام أديانهم - وبالتالي حضارتهم - رؤساء هذه الأديان، ولا شرعية لقتل الرهائن واغتصاب النساء.

 

9- تأكيد المسؤولية الفردية: إلغاء كل عقوبة تصدر بحق أشخاص عن جرائم لم يرتكبوها بأنفسهم.

 

10- لا شرعية في مقابلة الأذى بالأذى، والتدابير الردعية التي قد تكون مخالفة للمبادئ الإنسانية الأساسية.

 

11- التعاون مع العدو في الأعمال الإنسانية[6]

 

12- منع كل مخالفة لأحكام المعاهدات التي يعقدها المسلمون منعًا باتًّا.

 

والحق أنَّ ما قدمه بوازار خلاصة قانونية كافية، دالة على عظمة ما يملكه المسلمون للحضارة الإنسانية المعاصرة في شتى المواقف، وفي كل الحالات، والمهم أن يجاهدوا في الله حقَّ جهاده، آخذين بأسباب التمكين والتأثير:

{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

 


[1] الشيخ أبو الحسن الندوي: روائع إقبال، ص70، ط الرابعة، 1418هـ، 1998م، دار القلم، الكويت.

[2] المرجع السابق نفسه، ص: 71.

[3] وجهة العالم الإسلامي، ص: 360، ترجمة عبدالصبور شاهين، دار الفكر، دمشق 1402هـ.

[4] المرجع السابق: ص 164.

[5] انظر في تفصيل هذا سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ص93، 94.

[6] مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام، ص 294، منشورات الآداب، بيروت، ط1 /1980.

عبد الحليم عويس

باحث أكاديمي متخصص في دراسة التاريخ والحضارة، وقدم العديد من الدراسات والأبحاث العلمية للمكتبة العربية

  • 1
  • 1
  • 1,821

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً