دخول المذاهب الأربعة إلى مصر
المذاهب الفقهية السنية الأربعة لها دخولان إلى مصر:
المذاهب الفقهية السنية الأربعة لها دخولان إلى مصر:
الدخول الأول: هو الذي أعقب ظهور الأئمة الأربعة إلى أن استولى الفاطميون على مصر، وحولوها إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي سنة (358هـ).
الدخول الثاني: ويبدأ من تولي صلاح الدين الأيوبي منصب الوزارة بمصر سنة (564هـ) إلى يومنا هذا.
وقبل التعرف على كيفية دخول المذاهب الفقهية السنية الأربعة إلى مصر، نعرض باقة من الأوائل المهمة، وهي:
1- أوّل من أقرأ القرآن بمصر هو: الصحابي الجليل عبيد بن مخمر المعافري يكنى أبا أمية، شهد فتح مصر، روى عنه أبو قبيل. (خطط المقريزي 4/148).
2- أوّل الناس إقراء بمصر بحرف نافع قبل سنة (150هـ) هو: أبو ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة مولى الملامس الحضرميّ، وكان فقيها عفيفًا شريفًا، ولد سنة (110هـ)، وتوفي سنة (188هـ). (المرجع السابق 4/148).
3- أول من نشر الفقه بمصر هو: يزيد بن أبي حبيب. (المرجع السابق 4/148).
4- أوّل من رحل من أهل مصر إلى العراق في طلب الحديث هو: أبو سعيد عثمان بن عتيق مولى غافق. (السابق 4/149)
الدخول الأول للمذاهب الأربعة الفقهية السنية إلى مصر:
أولا: المذهب الحنفي:
أول من أدخله إلى مصر إسماعيل بن اليسع عندما ولي قضاءها بأمر من الخليفة المهدي سنة (146هـ) خلفًا لابن لهيعة، وهو أول قاض حنفي بمصر، وأول من أدخل إليها مذهب أبي حنيفة، وكان من خير القضاة، إلا أنه كان يذهب إلى إبطال الأحباس، فثقل أمره على أهل مصر وقالوا: أحدث لنا أحكامًا لا نعرفها ببلدنا: فعزله المهدي. (ينظر: خطط المقريزي 4/141، ورفع الإصر ص 88، وحسن المحاضرة 2/141).
ثانيًا: المذهب المالكي:
أول من أدخل آراء الإمام مالك إلى مصر عبد الرحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى مولى جمح. وكان فقيها روى عنه الليث وابن وهب ورشيد بن سعد، وتوفي بالإسكندرية سنة (163هـ)، وكانت الإسكندرية هي العاصمة الثانية للمذهب المالكي بعد المدينة المنورة.
ثم نشره بمصر عبد الرحمن بن القاسم، فاشتهر مذهب مالك بمصر أكثر من مذهب أبي حنيفة لتوفر أصحاب مالك بمصر، ولم يكن مذهب أبي حنيفة رحمه الله يعرف بمصر. (ينظر: الخطط، للمقريزي 4/151).
ثالثًا: المذهب الشافعي:
على خلاف المذهبين الحنفي والمالكي يرجع الفضل في نشر المذهب الشافعي في مصر إلى مؤسسه الإمام محمد بن إدريس الشافعي؛ فقد قدم إليها سنة 198 أو 199هـ في أول خلافة المأمون، واستوطنها حتى مات بها، وكثر أصحابه بمصر.
وكان سبب قدوم الشافعي رضي الله عنه إلى مصر أن الأمير العباسي العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن العباس استصحبه فصحبه، وكان العباس هذا خليفة لأبيه عبد الله على مصر. (معجم الأدباء 6/ 2414- 2415، وخطط المقريزي 4/151).
[لطيفة: قال أبو عمرو الكنديّ في كتاب أمراء مصر: ولم يزل أهل مصر على الجهر بالبسملة في الجامع العتيق إلى سنة (253هـ)، إلى أن أصدر أرجون صاحب شرطة مزاحم بن خاقان أمير مصر أمرًا بمنع الجهر بالبسملة في الصلوات بالمسجد الجامع، وأمر الحسين بن الربيع إمام المسجد الجامع بتركها، وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين، ولم يزل أهل مصر على الجهر بها في المسجد الجامع منذ الإسلام إلى أن منع منها أرجون. (خطط المقريزي 4/151)]
رابعًا: المذهب الحنبلي:
ذكر أحمد تيمور في كتابه "نظرة تاريخية في حدوث المذاهب، ص83" أن المذهب الحنبلي قد تأخر ظهوره بمصر ظهورًا بَيِّنًا إلى القرن السابع.
وهذا الرأي اعتمد فيه أحمد تيمور باشا على نص للسيوطي، قال فيه: "هم -يعني الحنابلة-بالديار المصرية قليل جِدًّا، ولم أسمع بخبرهم فيها إلا في القرن السابع وما بعده، وذلك أن الإمام أحمد - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كان في القرن الثالث، ولم يبرز مذهبه خارج العراق إلا في القرن الرابع، وفي هذا القرن ملك العبيديون مصر، وأفنوا من كان بها من أئمة المذاهب الثلاثة، قتلًا ونفيًا وتشريدًا، وأقاموا مذهب الرفض والشيعة، ولم يزولوا منها إلا في أواخر القرن السادس، فتراجع إليها الأئمة من سائر المذاهب، وأول إمام من الحنابلة علمت حلوله بمصر، الحافظ عبد الغني المقدسي صاحب " العمدة "». انتهى". (حسن المحاضرة 1/480).
[وسوف نرجع إلى التعليق على هذا الرأي عند الحديث عن الدخول الثاني]
الدخول الثاني للمذاهب الأربعة إلى مصر:
يقول أحمد تيمور: " ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر لظهور الرافضة، وتداول بها فقه أهل البيت، وتلاشى من سواهم، إلى أن ذهبت دولة العُبَيْدِيِّينَ من الرافضة على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب، ورجع إليها فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام، فعاد إلى أحسن ما كان، ونفق سوقه. (نظرة تاريخية ص 7)".
ومما يذكر من حرب العبيديين للمذاهب السنية في مصر أنهم في سنة (381هـ) قبضوا على رجل، وضربوه، وطيف به المدينة من أجل أنه وجد عنده كتاب الموطأ لمالك بن أنس رحمه الله. (الخطط 4/163).
وفي سبيل القضاء النهائي على المذهب الإسماعيلي ودعم مذاهب أهل السنة، أنشأ صلاح الدين الأيوبي المدارس العلمية المخصصة للمذاهب السنية، فبنى المدرسة الناصرية سنة (566هـ) وخصصها للفقهاء الشافعية، ثم المدرسة القمحية، وخصصها للفقهاء المالكية، ثم المدرسة السيوفية، وخصصها للفقهاء الحنفية.
أولا: المذهب الحنفي:
يرجع الفضل في عودة المذهب الحنفي مرة ثانية إلى مصر إلى الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الذي كان حنفيًّا فيه تعصب، فنشر مذهب أبي حنيفة رحمه الله ببلاد الشام، ومنه كثرت الحنفية بمصر، وقد أنشأ لهم صلاح الدين الأيوبي مدرسة تسمى السيوفية. (خطط المقريزي 4/166).
ولم أجد من بين المؤرخين مَن عيَّن أسماء فقهاء الحنفية الذين دخلوا مصر في هذه الحقبة، وأعادوا إليها مذهب أبي حنيفة، إلا أنني وجدت في ترجمة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد عمر بن سالم البجلي الحريري، الفقيه الحنفي، أن له اختصاصًا بالملك الناصر صلاح الدين يوسف، وكان يراسل به ملوك الأطراف، ولما فتح ديار مصر سافر إليها وأقام بها يدرس ويفتي ويعظ ويحدِّث، بل ذكر القرشي أن المترجم كان له أثرٌ صالح في التحريض على قصد البلاد المصرية واستنقاذها مما كانت في يده، وأنه هو شديد التعصب للسنة مبالغ في عداوة الرافضة، تولى التدريس بالقاهرة في مدرسة الحنفية السيوفية مدة إلى أن مات سنة (584هـ). الجواهر المضية (1/285).
ثانيًا: المذهب المالكي:
بنى صلاح الدين مدرسىة للمالكية بجوار جامع عمرو بن العاص، عرفت باسم المدرسة القمحية، نسبة إلى القمح الذي كان يفرق على الطلبة من ضيعة بالفيوم وقفها صلاح الدين على هذه المدرسة. (خطط المقريزي 4/201، وتاريخ ابن خلدون 7/668).
وقد حاولت جاهدًا الوقوف على أسماء الفقهاء المالكية الذين تولوا التدريس في المدرسة القمحية، إلا أنني لم أظفر بشيء ذي بال في هذا الصدد.
لكننا -وعلى الرغم من هذا- لا نعدم أسماء لبعض كبار فقهاء المالكية عاشوا في مصر في هذه الفترة فنجد منهم:
1- أبو الطاهر إسماعيل بن مكي بن إسماعيل بن عيسى بن عوف: صدر الإِسلام الفقيه العالم فريد عصره ووحيد دهره، كان عليه مدار الفتوى مع الورع والزهد، وبيته بالإسكندرية بيت كبير شهير بالعلم والفضل، قصده السلطان صلاح الدين، وسمع منه الموطأ، وفي "الديباج": كان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يعظمه ويراسله. (شجرة النور الزكية ص209).
2- أبو بكر الطرشوشي: محمد بن الوليد القرشي الفهري: المعروف بابن رَنْدَقَه الطرطوشي الإسكندري الإمام الفقيه الحافظ العالم العامل الثقة الفاضل الجليل القدر، توفي بالإسكندرية سنة (520هـ). (السابق، ص 184).
3-أبو علي سند بن عنان بن إبراهيم الأسدي المصري: الإمام الفقيه الفاضل العالم النظار العمدة الكامل، تفقه بأبي بكر الطرطوشي، وسمع منه وانتفع به وجلس لإلقاء الدروس بعده، ألّف الطراز كتاب حسن مفيد شرح به المدونة نحو الثلاثين سفرًا. وتوفي قبل إكماله. توفي بالإسكندرية سنة 541 ه. (السابق، ص 184).
ثالثًا: المذهب الشافعي:
ذكر الحافظ ابن حجر أن عيسى بن محمد بن عيسى الهَكَّرِيّ الموصلي المعروف بالفقيه عيسى (ت 585هـ) أول من ولي القضاء بالديار المصرية فِي الدولة الأيوبية، وذلك أن أسد الدين شِيرَكُوه لما ولي الوزارة بمصر، استدعاه إليها، وقدمه إِلَى الإِمْرَة، لما كَانَ يعرف من شهامته وشجاعته. (رفع الإصر ص294).
فلما استقر صلاح الدين بعد عمه، وأعيد المفضل بن عبد الله بن كامل إِلَى القضاء، وذلك فِي ذي الحجة سنة (565هـ)، أذن السلطان صلاح الدين للفقيه عيسى أن يحكم بَيْنَ الناس بالقاهرة رفيقًا لابن كامل، وأفرد مصر لابن كامل، فاستمر الحال عَلَى ذَلِكَ إِلَى أن أسند صلاح الدين قضاء مصر إلى الفقيه الشافعي صدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني، الذي أناب عنه قضاة شافعيين في جميع أنحاء مصر. (خطط المقريزي 4/166).
وسبق القول أن صلاح الدين الأيوبي بنى للشافعية المدرسة الناصرية بجوار الجامع الأزهر، وكان أول من تولى التدريس بها أبو العباس أحمد بن المظفر بن الحسين الدمشقيّ، المعروف بابن زين التجار، أحد أعيان الشافعية. درّس بهذه المدرسة مدّة طويلة، ومات في ذي القعدة سنة (591هـ). (خطط المقريزي 4/200-201).
رابعا: المذهب الحنبلي:
يقول المقريزي: لم يكن في الدولة الأيوبية بمصر كثير ذكر لمذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ثم اشتهر مذهب أبي حنيفة وأحمد بن حنبل في آخرها.
فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ، ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ. فاستمرّ ذلك من سنة (665هـ) حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة. (الخطط 4/167).
وهذا النص يتفق مع نص السيوطي السابق في أن ظهور الحنابلة بمصر تأخر إلى القرن السابع.
وقد تابع العلامة أحمد تيمور باشا كلا من المقريزي والسيوطي، فذهب في "كتابه نظرة تاريخية في حدوث المذاهب، ص83" إلى أن المذهب الحنبلي قد تأخر ظهوره بمصر ظهورًا بَيِّنًا إلى القرن السابع.
وما ذهب إليه المقريزي والسيوطي يحتاج إلى مراجعة، فإن الباحث في تراجم الحنابلة يجد بعض الفقهاء الحنابلة الذين كان لهم وجود ذائع الصيت وشهرة عالية بمصر قبل هذا التاريخ، ومنهم:
1- الشيخ عز الدين عبد الهادي بن شرف الإسلام، كان فقيهًا واعظًا، شجاعًا، حسن الصوت بالقرآن، شديدًا في السنة، وكان في صحبة أسد الدين شيركوه إلى مصر، وبنى مدرسة بمصر، ومات قبل تمامها، وتوفي بمصر. لم يذكر له ابن رجب سنة وفاة.
2- علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدمشقي، الفقيه الواعظ المفسر زين الدين أَبُو الحسن بن رضي الدين أبي طاهر، المعروف بابن نجية، نزيل مصر، سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الحنبلي: ولد بدمشق سنة (508هـ) وقيل غير ذلك، وانتقل إلى مصر من قبل دولة صلاح الدين، وأقام بها، وكان يعظ بها بجامع القرافة مدة طويلة. وله فيها وجاهة عظيمة عند الملوك، إلى أن مات سنة (599هـ).
وقال ناصح الدين: كان ذا رأي صائب. وكان صلاح الدين - يعني يوسف بن أيوب - يسميه عمرو بن العاص، ويعمل برأيه.
وقال أَبُو شامة: كان صلاح الدين يكاتبه، ويحضر مجلسه هو وأولاده: العزيز، وغيره. وكان له جاه عظيم، وحرمة زائدة.
وقال ناصح الدين: كان أهل السنة بمصر لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين - يعني ابن نجية - وكثير من أرباب الدولة. (ذيل طبقات الحنابلة 2/528 وما بعدها).
3- عثمان بن مرزوق بن حميد بن سلام القرشي: الفقيه، العارف، الزاهد، أَبُو عمرو. نزيل الديار المصرية: صحب شرف الإسلام عبد الوهاب بن الجيلي بدمشق، وتفقه واستوطن مصر وأقام بها إلى أن مات، وأفتى بها ودرس وناظر، وتكلم على المعارف والحقائق. وانتهت إليه تربية المريدين بمصر، توفي بمصر سنة (564هـ). ذيل طبقات الحنابلة 2/222 وما بعدها.
ولعل هؤلاء العلماء الثلاثة هم الذين أسسوا لوجود المذهب الحنبلي في مصر.
______________________________________________________
الكاتب: أ. محمد فضل العجماوي
- التصنيف: