سورة عبس 2
وقد جمع لهم هنا بين الكفر والفجور، وهما: الكفر في الاعتقاد، والفجور في الأعمال، كما في قوله تعالى {{وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}}
{{قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ}} [عبس:17]
{{قُتِلَ الإنسان} } دعاء عليه، والإنسان: للجنس الكافر، والقتل أعظم شدائد الدنيا {مَا أَكْفَرَهُ} أي ما أشد كفره، تعجب من إفراط كفره .. قال الزمخشري: هي تعجب من إفراطه في كفران نعم الله.
قيل: نزلت في عتبة بن أبي لهب، غاضب أباه فأسلم، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كافر برب النجم إذا هوى. وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (اللهم ابعث عليه كلبك يأكله) فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله. فأقبل الأسد إلى الرجال ووثب، فإذا هو فوقه فمزقه، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه، وقال: "ما قال محمد شيئاً قط إلا كان"
{{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}} [عبس: 18-22]
** رد تعالى عليه ذلك، برده إياه إلى أصل خلقته ليتعظ من نفسه في قوله تعالى {{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}} أي من نطفة إلى علقة إلى مضغة فبشر سويّ {{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ}} بدون استشارته ولا أخذ رأيه {فَأَقْبَرَهُ} هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته الكلاب .. لأن هذه الثلاثة مسلم بها ورتب عليها الرابعة {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}
** قوله تعالى: {{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} } قيل السبيل إلى خروجه من بطن أمه حيث أدار رأسه إلى جهة الخروج بدلا مما كان عليه إلى أعلى وهذا من التيسير في سبيل خروجه وهذا مروي عن ابن عباس وغيره وهو اختيار ابن جرير.
وقيل {السَّبِيلَ}: أي الدين في وضوحه ويسر العمل به، كقوله تعالى {{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} } ولعل هذا هو الأرجح لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان، وهو مشاهد ملموس، فلا مزية للإنسان فيه على غيره، كما أن ما قبله دال عليه أو على مدلوله وهو القدرة في قوله تعالى {{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}} أي قدر تخلقه وزمن وجوده وزمن خروجه وتقديرات جسمه، وقدر حياته وقدر مماته كما هو معلوم.
{{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}} [عبس:23]
{{كَلَّا}} أما يصحو هذا المغرور، أما يفيق هذا المخدوع {{لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}} فما له لا يقضي ما أمره ربّه به من الطاعات والواجبات في نفسه وماله.
والقضاء: «فعل ما يجب على الإنسان كاملا» لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلا تاما، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضا عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطور أطوارا إلى الموت قال تعالى: {{فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ}} [الطارق:5]، وما أمره من التدبر في القرآن ودلائله، ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشرك عنه. ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر.
{{فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ {24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً {25} ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً {26} فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً {27} وَعِنَباً وَقَضْباً {28} وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً {29} وَحَدَائِقَ غُلْباً {30} وَفَاكِهَةً وَأَبّاً {31} مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {32}}
** ولما عدّد تعالى نعمه في نفس الإنسان، ذكر النعم فيما به قوام حياته، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم. وفي كليهما آية على القدرة.
** { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً} القت الرطب، وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة، وهو علف البهائم {وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً} أي كثيرة كثيفة {وَفَاكِهَةً} الثمار التي تؤكل للتفكه لا للاقتيات {وَأَبّاً} التبن وما ترعاه البهائم،
** وعن الصِّدِّيق -رضي الله عنه- أنه سُئل عن الأب، فقال: أيُّ سماء تُظلني، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به.
وعن عمر -رضي الله عنه- أنه قرأ هذه الآية، فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصاً كانت بيده، فقال: هذا لعَمْرُ الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أم عمر، ألاَّ تدري ما الأبُّ؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه.
** وهذه اللفظة من لغات البادية، فلذلك خفيت على الحواضر. فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتُنسى في بعضها: مثل اسم «السكين» عند الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك -رضي الله عنه- ما كنا نقول إلا «المدية» حتى سمعت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكر أن سليمان عليه السلام قال "ائيتوني بالسكين أقسم الطفل بينهما نصفين".
** وإما أن كلمة «الأب» تطلق على أشياء كثيرة منها: النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين.
4/ وذكر في الكشاف وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال: إن القوم كانت أكبر همتهم على كفة العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان. وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه، فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.
** وفي التنصيص على أنواع النبات من حب وغيرها لظهور معنى المغايرة والتنوع فيها، مع أنها من أصلين مشتركين الماء من السماء والتربة في الأرض، يسقى بماء واحد.
{مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}... والمتاع: ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع، قال تعالى: {{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}} [آل عمران:185] يتمتع بها قليلا ثم تفنى
{{فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}} [عبس:33-37]
** { {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ}} القيامة، سميت بهذا الاسم نظرا إلى نفخة الصور التي تصخ الآذان [أي تصمها] فتصيبها بالصمم لشدتها. وهي النفخة الثانية.
** {{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ ... }}
1/ وكون أقرب الناس للإنسان يفر منهم، يقتضي هول ذلك اليوم، بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله، إذ قد علم أنه كان مماثلا لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس «معزة» وحرص على سلامة صاحبها وكرامته. «والإلف» يحدث في النفس حرصا على الملازمة والمقارنة، وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة، فما قولك في هول يغشى على هذين الوجدانين فلا يترك لهما مجالا في النفس.
2/ ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجا في تهويل ذلك اليوم. فابتدئ بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قربا لأبنيهما، وقدمت الأم في الذكر لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان وأشد الناس قربا به وملازمة
** ولابد أن يلحظ أن ترتيب الترقي في الآيات يراعى فيه الفرار، فإن الفرار من الأبناء في الخطوب وعظائم الأمور من أكبر العار، يليه الفرار من الزوجة، فالفرار من الأم وهي أحق الأبوين، ولكن جرت العادة أن الإنسان يستميت في الدفاع عن أهله وبنيه أكثر من الأبوين .. وأيضًا فإن الأبناء ليس لهم قريب كالوالد، ولا من هو أولى منه، بخلاف الأبوين، فإن لهم أبوين وأبناء، والترتيب هنا مخالف لما جاء في سورة المعارج، فهذا في الفرار، وذاك في الافتداء.
{ {يُبَصَّرُونَهُمْ} [يبصر بعضهم بعضا] {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ} [عشيرته] {الَّتِي تُؤْويهِ} } [المعارج:11- 13]
** وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: «يوم يفر المرء من أقرب قرابته» مثلا لإحضار صورة الهول في نفس السامع.
** وإنما ذكرت الزوجة بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوجة لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة.
** وقد اجتمع في قوله: {{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}} إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده، فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه، وهم يتعيرون بالجبن، وكونه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى.
{{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}} [عبس: 39].
** {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} الإسفار الإضاءة، وهو تهلل الوجه بالسرور، كما قال تعالى: {{وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً}}
** {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} الاستبشار من تقدم البشرى في قوله تعالى: {{تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}} . وقوله تعالى: {{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}} .
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ {40} تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ {41} أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ {42}}
** {{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}} غبار {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} تغشاها وتعلوها ظلمة من سواد، كقوله تعالى: {{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}}
** وقد جمع لهم هنا بين الكفر والفجور، وهما: الكفر في الاعتقاد، والفجور في الأعمال، كما في قوله تعالى {{وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}}
اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً .
- التصنيف: