فن الكتابة فى الصفحة البيضاء - ممنوعات6 (تابع): "وإنما لكلِّ امرِءٍ مَا نَوَى"

منذ 2022-01-08

"وإنما لكلِّ امرِءٍ مَا نَوَى".. مَراحِلُ ميلادِ نيةِ المنفعةِ الخاصة..



قلنا في المقالةِ السابقةِ:لكي نُمسِكَ بتلابيبِ النيةِ التربويةِ في بداياتِها، سنتتَبَعُ مواضعَ نيةِ المنفعةِ الخاصةِ، وكيف يمكنُنا اكتشافُها من خلالِ آثارِ أقدامِها..

ولدينا...

ثلاثُ مراحل:

أولُ مرحلةٍ: ابتداءً.. قبل الإنجاب أصلا:
فننجبُ كما يُنجِبُ الناسُ.. دون احتسابِ أجرٍ من الله..
=إما لنتخلصَ من كلامِ الناسِ عن تأخرِنا في الحَملِ مثلا، وإخمادِ غيرتِنا من قريناتِنا اللاتِي أنجبنَ قبلنا..

=أو لنستعملَ الأولادَ في خِدمتِنا ويكونوا لنا عُزوَةً ننتسِبُ إليها ويشدون مِن أزرِنا..
=أو لنحصُل على جِنسيةِ بلدٍ ما مثلا ونتمتعَ بصلاحياتِ المواطنين فيها..
=أو لنحصلَ على نفقةٍ في حالةِ حدوثِ طلاقٍ لاحِقًا لا سمحَ الله..
وما إلى ذلك من المنافعِ الدنيويةِ الخاصةِ التي لا وِزر فيها إن كانت نيتُنا لها، لكن لا أجرَ لنا من ورائها كذلك، لفقدانِ الاحتساب..
فكما قال ﷺ: "إنما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوَى"..

=و مِنا من تُنجِبُ طمَعًا في أن ينالَها مِن حُسنِ سَمتِ الأولادِ وتَدَيُّنِهم وتفوقِهم وشأنِهم، شُهرةً أو مدحًا أو مالا.. ونُكاثِرُ بهم قوافِلَ المُفاخِرين بالذرية...

وهذا يَتبَعُ القِسمَ الذِي فيه وِزر والعياذُ  بالله..

 تأملوا قولَ النبيِ ﷺ في الخيلِ:

«"الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ: فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ.. وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ.. وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ.. =فَأَمَّا الَّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ: فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُعِدُّهَا لَهُ، فَلاَ تُغَيِّبُ شَيْئًا فِي بُطُونِهَا إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرًا../ وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ، مَا أَكَلَتْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا أَجْرًا../ وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ تُغَيِّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ -حَتَّى ذَكَرَ الأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا!» (أي أخذ يُعَدِّدُ كُلَّ شيئٍ فيها ويُلحِقُ به الأجرَ!)- « وَلَوْ اسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ» (أي ركضت وأسرعت)، «كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ..!»
= «وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ: فَالرَّجُلُ يَتَّخِذُهَا تَكَرُّمًا وَتَجَمُّلًا، وَلَا يَنْسَى حَقَّ ظُهُورِهَا، وَبُطُونِهَا فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا» ، (أي يؤدِي حق الله فيها والناس، وإن لم يهبها في سبيل الله)..
-
«وَأَمَّا الَّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ: فَالَّذِي يَتَّخِذُهَا أَشَرًا وَبَطَرًا، وَبَذَخًا وَرِيَاءَ النَّاسِ » (أي خيلاء وفخر)..*3

هذا في الخَيلِ...!
فكيف بمن أنجبَ ولدًا للحياةِ وسقاهَ ورعاهُ من لحمِهِ ودمِه وأنفقَ عليه شبابَه وصحتَه ومالَه في سبيلِ الله.....؟

وبالطبع ليس كلُ سرورٍ بمدحِ الناسِ رياءً، فالسرورُ المحمودُ  حين يفرحُ المرءُ بفضلِ الله عليهِ، لا بحمدِ الناسِ لعملِه.. "قيلَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيتَ الرَّجُلَ يَعمَلُ العَمَلَ مِنَ الخَيرِ ويَحمَدُه النَّاسُ عليه؟ فقالَ: تِلك عاجِلُ بُشرى المُؤمِنِ"

وهنا نسأل: أين ننتبهُ لهذا النوعِ من النوايا؟
===عند الغضبِ.. يَظهَرُ وينكَشِفُ بوضوح..
فغضَبُ الأمِ بشدةٍ واكتئابِها وحَنَقِها وسَخَطِها، حينَ لا تَحصُلُ على أيٍ مِن تلكَ الثمراتِ المطلوبةِ، علامةٌ تدُلُ على وُجودِ هذا النوعِ.. وأشدُّ مِن ذلك وضوحًا: غضبُها بوسيلةٍ مما نَهَى اللهُ عنه، مِن سَبٍ ودعاءٍ عليه وربما عنفٍ وسخريةٍ وتجريح..
هي هنا تغضبُ لنفسِها وصورتِها أمامَ الناسِ لا تغضبُ للهِ... ولا تدرِي..
المرحلةُ الثانيةُ: في المنتصف.. بعد الإنجاب..
فربما تبدأُ الأمُ بنيةٍ خالصةٍ لوجهِ اللهِ منذ البداية، ثم تتحولُ نيتُها في المنتصف..

=إما لخوفٍ شديدٍ على الولدِ، لتنامي تعلقِها بهِ أكثرَ كلما كَبُرَ، ولشدةِ جزَعِها من كسرِ خاطِرِه، فتُجَنّبُهُ الكثيرَ من مِواطِنِ التربيةِ المُستقيمةِ والتقويمِ الإيمانيِّ والخُلُقِيِّ الحازمِ بما أمرَ اللهُ، إشفاقًا عليه وإشفاقًا مِن تبرّمِهِ وغضبِه، مثلما فصّلنا في الممنوعِ الأولِ سابقا.. فتتحولُ كما تحوّلَ الذين حَكَى اللهُ لنا عنهم تحولَهم بعدما وهَبَهم الطفلَ السليمَ من العيوبِ كما طلبوا، قائلا:
{{فَلَمَّاۤ ءَاتَىٰهُمَا صَـٰلِحࣰا جَعَلَا لَهُۥ شُرَكَاۤءَ فِیمَاۤ ءَاتَىٰهُمَا فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ}} ..
=وإما لتعجّلِها الثمرةِ، فيغزوها الإحباطُ وفقدانُ الأمل.. فتهجُرُ تجديدَ النيةِ الأصليةِ لديها للإنجاب، وتطغَى داخلَها نوازعُ المنفعةِ الخاصةِ بحكمِ سرعةِ وتيرةِ الحياة وضغوطاتِها وتَعارُضِ المصالحِ وضعفِ الإنسانِ أمامَ احتياجاتِه.. فتتجهُ بكاملِ طاقتِها القلبيةِ لتلبيةِ منافعِها الخاصةِ الضيقةِ ويخفُتُ صوت:ُ {للهِ ربِّ العالمين}..
نعم.. تعجُّلُنا للثمرةِ وفُقدانُنا للأملِ يكونُ أحيانًا نقطةَ تحولٍ فارقة..
فلا يُلهينا غيابُ ثمرةٍ عاجلةٍ، عن قطافِ ثمراتٍ أعظمَ مُؤجَّلة..

=وإما تتحولُ فرارًا من ((وجعِ الدماغِ)) التربويِّ المتضخمِ، حين اكتشفَتْ بعدما كَبُرَ ولدُها، أن التربيةَ وفق هذه النيةِ إلى ما لا نهايةٍ= أمرٌ صعبٌ ومُرهِقٌ، وشبابُها يزولُ سريعًا وأوقاتُها الخاصةُ تبخرتْ وهذا كلُه يُزعجُها، فتتركُ ولدَها للشوارعِ أو للعالم الرقميِ يُرَبِّيانِهِ عِوَضًا عنها مادامَ يَجِدُ فيهما مُتعتَهُ وضالتَه وتُرحَمُ بهما من طَنِينِهِ  وثَرثَرَتِه وأسئلتِه لها وملاحقتِه والتصاقِه بها.. أو ربما تمنعُه من الشوارعِ والعوالمِ الرقمية، لكنها تتركهُ وحيدًا في عالمهِ الخاص كالقوقعةِ المنبوذةِ في قاعِ المحيطِ، لتنعمَ هي بقوقعتِها الخاصةِ كأيامِ شبابِها، فمادام لا يرتكبُ مصائبَ ظاهرةً ولا يَطلُبُ شيئًا منها =فلا بأسَ بالنسبةِ لها أن تنشغلَ عنه بعالَمِها وكفى اللهُ المؤمنين القتال.. فلا تتأكدُ من إحكامِ عقيدتِهِ كفعلِ سيدِنا يعقوبِ مع بَنِيه حتى آخرَ أنفاسٍه من الدنيا: {{إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي}} .. ولا تتفقدُ أحلامَه كما كان يفعلُ النبيُ ﷺ مع أصحابِه حين يُصبِحون فيسألُهم عن أحلامِهم ليلةَ أمس.. ولا تتفقدُ طموحاتِه واحتياجاتِه ولا تشاركه طعامًا ولا حوارًا كما كان يفعلُ النبيُ ﷺ مع أهلِ بيتِه.. ولا تُفَتِّشُ وراءَ همومِ وجههِ وشرودِ روحِه كما كفعلِ النبيُ ﷺ مع أبي عمير وعصفورِه النغيرِ.... وغيرِهم..
 فيصبحُ الولدُ يتيمًا وأبواه على قيدِ الحياة.. ويَنقَطِعُ أجرُها هي بعدما كان شلالًا عذبًا زُلالًا لا ينقطعُ حتى وهي نائمة..!

=وربما تركَتْ النيةَ في المنتصف، لخذلانِ مَن حولِها لها في حَملِ عِبءِ التربيةِ معها... ولو أنها ركزتْ على النيةِ مهما عاكَسَتْها البيئةُ الخارجيةِ وخذَلَتْها، لنالتْ الأجرَ حتى ولو فَسَدَتْ ثمرتُها بسببِ الخذلانِ وفقرِ الأسباب..
قال النبيُ ﷺ عن الرجلِ الذي لا مالَ عنده ويتمنَى المال ليتصدق، أنه قال: ..((لو أنَّ لي مالًا لعَمِلْتُ بعملِ فلانٍ..)).. "فهو بِنِيَّتِه.. وهُمَا في الأجرِ سواءٌ"..

=وربما تحولت نيتُها، لكثرةِ لومِ الناسِ وانتقادِهم لها وتبكيتهم إياها ووصفهم إياها بالتشدد، لتربيتِها ولدَها بالوحيينِ تربيةٍ محافظةٍ ذاتِ رقابةٍ ومرجعيةٍ دينيةٍ، وهو بعدُ صغيرٌ -في نظرِهم!..
بينما الإخلاصُ أن يستوِي عندنا مدحُ الناسِ وذمِّهم..

قال الفضيل بن عياض:
[[
مَن عَرَف الناسَ استراح]].. أي مَن عرفَ أنهم لا يَنفعونه ولا يَضُرونَه استراحَ منهم..
وقال ابن تيمية:
[[السعادة ُفي أن تعاملَ الخلق لله؛ ترجو اللهَ فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافُ اللهَ فيهم ولا تخافَهم في الله
.]]
وقال ابن القيم :
[[مَتَى اسْتَقَرَّتْ قَدَمُ الْعَبْدِ فِي مَنْزِلَةِ الْإِخْبَاتِ (المخبتين)، وَتَمَكَّنَ فِيهَا: ارْتَفَعَتْ هِمَّتُهُ، وَعَلَتْ نَفْسُهُ عَنْ خَطْفَاتِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَلَا يَفْرَحُ بِمَدْحِ النَّاسِ. وَلَا يَحْزَنُ لِذَمِّهِمْ ، هَذَا وَصْفُ مَنْ خَرَجَ عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ، وَتَأَهَّلَ لعُبُودِيَّةِ رَبِّهِ، وَبَاشَرَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ قَلْبُهُ]]
*وقال ابن الجوزي: [[ومتى نَظَر الإنسانُ إلى التفاتِ القلوبِ إليه فقد زاحمَ الشركَ نيتَه؛ وضاعَ العملُ، وذهب العمرُ]]*6

ويأتي السؤال:

 

أين ننتبهُ لهذا النوع؟
الجواب:
-عند أوامرِ الله..
-وعند مدحِ الناسِ لنا أو ذمِهِم..

فإن كنا لا نَسمَعُ لاختلالِ النيةِ صوتًا لأنه أخفَى من دبيبِ النملِ كما قال ﷺ: "الشِّركُ في هذه الأُمَّةِ أخْفَى من دبيبِ النَّملِ"، إلا إن لدبيبِهِ في القلبِ كما فصلنا آثارًا على الجوارحِ تفضحُه...

وكل ذلك، إن لم يكن فيه وِزرٌ، فإنه ليس فقط يُفقِدُنا الأجرَ، وإنما أيضاً يُفقِدُ التربيةَ بركتَها والتوفيقَ فيها غالبًا، بالإضافةِ إلى أنه يؤدِي لسوءِ العلاقةِ بيننا وبين أولادِنا، إذ تصبحُ مبنيةً على المصالحِ الضيقةِ والأهواءِ االمُتعارضةِ بطبيعةِ الحال، لا علاقةً مبنيةً على معالِي الأمورِ والغاياتِ والمقاصدِ، فيُمَزِّقُها الشيطانُ كُلَّ مُمُزَّقٍ والعياذ بالله..

بينما ما كان لله دامَ وارتفع..
وكلما كانت العلاقةُ في اللهِ ولله، كلما ذابت المسافات بين أطرافِها وسَدَّتْ بينهم فُرَجِ الشيطانِ المُفسدة..

وهكذا نكون قد تعرَّفْنا على جانبٍ من الواقعِ يخصُّ أنواعَ النياتِ ومراتِبها وأمثالِها..
وبقِيَ أهمُ سؤالٍ:
بعدَ كلِ الرصدِ والتحليلِ والتشخيصِ والتصنيفِ:
كيفَ العلاجُ.....؟
والجواب في المقالةِ القادمةٍ بإذن الله..

*الهوامش:

1* رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح

2* https://dorar.net/hadith/search?q=%D8%A5%D9%90%D9%86%D9%91%D9%8E+%D8%A7%D9%84%D9%92%D9%85%D9%8F%D9%86%D9%92%D9%81%D9%90%D9%82%D9%8E+%D8%B9%D9%8E%D9%84%D9%8E%D9%89+%D8%A7%D9%84%D9%92%D8%AE%D9%8E%D9%8A%D9%92%D9%84%D9%90+%D9%81%D9%90%D9%8A+%D8%B3%D9%8E%D8%A8%D9%90%D9%8A%D9%84%D9%90+%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%91%D9%8E%D9%87%D9%90&st=w&xclude=&rawi%5B%5D=

3*صحيح البخاري ومسلم

4*"من مدارج السالكين
" (2/ 8).
5*صيد الخاطر
6*بتصرف واختصار

*شرح حديث عاجل بشرى المؤمن:

https://dorar.net/hadith/sharh/148912

*شرح حديث الخيل ثلاثة:
https://dorar.net/hadith/search?q=+%D9%81%D9%8E%D9%87%D9%90%D9%8A%D9%8E+%D9%84%D9%90%D8%B1%D9%8E%D8%AC%D9%8F%D9%84%D9%8D+%D8%A3%D9%8E%D8%AC%D9%92%D8%B1%D9%8C%D8%8C+%D9%88%D9%8E%D9%84%D9%90%D8%B1%D9%8E%D8%AC%D9%8F%D9%84%D9%8D+%D8%B3%D9%90%D8%AA%D9%92%D8%B1%D9%8C%D8%8C+%D9%88%D9%8E%D9%84%D9%90%D8%B1%D9%8E%D8%AC%D9%8F%D9%84%D9%8D+%D9%88%D9%90%D8%B2%D9%92%D8%B1%D9%8C&st=w&xclude=&rawi%5B%5D=

 

 

--

أسماء محمد لبيب

كاتبة مصرية

  • 6
  • 1
  • 1,680
المقال السابق
ممنوعات6: أبدا ما ربيتُك لأجل منفعتي الخاصة: {لا نُرِيدُ مِنكُم جَزاءً وَلا شُكُورًا}
 

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً