درر وفوائد من التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية-2

منذ 2022-01-11

وكذلك محبة صحابته وقرابته, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( آية الإيمان حب الأنصار, وآية النفاق بغض الأنصار.)

بسم الله الرحمن الرحيم  

وقد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين, كما في قوله: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ) [البقرة:165] وقوله تعالى: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) [المائدة:54]  وقوله تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ) [التوبة:24] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان, أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.)

بل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله كما في قوله تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [التوبة:24] وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) وفي صحيح البخاري عن  عمر بن الحطاب أنه قال: والله يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال: ( لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك ) فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي قال: (الآن يا عمر)

وكذلك محبة صحابته وقرابته, كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( آية الإيمان حب الأنصار, وآية النفاق بغض الأنصار.)   

وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النساء:125] وقال تعالى: ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) [المائدة:54] وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [البقرة:195]  ( وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [الحجرات:9] وأما الأعمال التي يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة, وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون.

وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة, والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث, وجميع مشايخ الدين المتبعون, وأئمة التصوف: أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية, بل هي أكمل محبة, فإنها كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ) [البقرة:165]  وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية.

ومما ينبغي التفطن له أن الله سبحانه قال في كتابه: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) [آل عمران:31] قال طائفة من السلف: ادعى قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله, فأنزل الله هذه الآية: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ) فبين سبحانه أن محبته توجب اتباع الرسول, وإن اتباع الرسول يوجب محبة الله للعبد, وهذه محبة امتحن الله بها أهل دعوى محبة الله.

فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وشريعته باطناً وظاهراً, هي موجب محبة الله, كما أن الجهاد في سبيله, وموالاة أوليائه, ومعاداة أعدائه, هو حقيقتها, كما في الحديث: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله, والبغض في الله.) وفي الحديث: ( من أحب لله, وأبغض لله, وأعطى لله, ومنع لله, فقد استكمل الإيمان.)

وكثير ممن يدعى المحبة هو أبعد من غيره, عن اتباع السنة, وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والجهاد في سبيل الله.

وفي الحديث المأثور: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.) فقوله: أين المتحابون بجلال الله تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه, مع التحاب فيه. وبذلك يكونون حافظين لحدوده, دون الذين لا يحفظون حدوده, لضعف الإيمان في قلوبهم, وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث: ( حقت محبتي للمتحابين فيّ, وحقت محبتي للمتجالسين فيّ, وحفت محبتي للمتزاورين فيً, وحقت محبتي للمتباذلين فيّ.)

والأحاديث في المتحابين في الله كثيرة.

الحزن:

الحزن لم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين, كقوله تعالى: ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران:139] وقوله: ( وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ) [النمل:70] وقوله: ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [التوبة:40] وذلك لأنه لا يجلب منفعة, ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه, وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به, نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بخزنه محرم, كما يحزن على المصائب, قال صلى الله عليه وسلم: ( تدمع العين, ويحزن القلب, ولا نقول إلا ما يرضى الرب) وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه, ويحمد عليه, فيكون محموداً من تلك الجهة لا من جهة الحزن, كالحزين على مصيبة في دينه, وعلى مصائب المسلمين عموماً. وإما أن أفضى إلى ضعف القلب, واشتغاله به عما فعل ما أمر الله ورسوله به, كان مذموماً عليه من تلك الجهة.

 

الصبر:

الإنسان إذا ابتلي فعليه أن يصبر, ويثبت, ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات, ولا بد في جميع ذلك من الصبر, ولهذا كان الصبر واجباً باتفاق المسلمين على أداء الواجبات, وترك المحظورات, ويدخل في ذلك الصبر على المصائب أن يجزع فيها, والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى الله عنه.

وقد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً, وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) [البقرة:45] وجعل الإمامة في الدين مورثة عن الصبر واليقين بقوله: ( وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) [السجدة:24] فإن الدين كله علم بالحق وعمل به, والعمل لا بدّ فيه من الصبر.

الشكر والاستغفار:

العبد دائماً بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر, وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار. وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائماً, فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه, ولا يزال محتاجاً إلى التوبة والاستغفار.

ولهذا كان سيد ولد آدم, وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم, يستغفر في جميع الأحوال وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: ( أيها الناس توبوا إلى ربكم, فإني لأستغفر الله, وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.) وفي صحيح مسلم قال: ( إنه ليغان على قلبي, وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.) وقال عبدالله بن عمر: كنا نعدُّ لرسول الله صلى عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: ( رب اغفر لي, وتب عليّ, إنك أنت التواب الغفور.)

 

العبادة:

العبادة هي الغاية التي خلق الله لها العباد, من جهة أمر الله ومحبته ورضاه, كما قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات:56] وبها أرسل الرسل, وأنزل الكتب, وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته, وكمال الذّلّ ونهايته, فالحب الخلي عن ذل, والذّلّ الخلي عن حب لا يكون عبادة, وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين, ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا لله. وهي وإن كانت منفعتها للعبد, والله غني عن العالمين, فهي له من جهة محبته لها, ورضاه بها.

البدعة:

قال أئمة الإسلام: أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية  لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يُتاب منها." ومعنى قولهم أن البدعة لا يتاب منها, أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه الله, ولا رسوله, قد زين له سوء عمله فرآه حسناً,  فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً, لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه, أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله, فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الوقت, فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منة ممكنة وواقعة, بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال, وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه, فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[محمد:17]وقال: ( ولو أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا* * وإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ) [النساء:66_68]

وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحديد:28]

وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعاً لهواه, فإن ذلك يورثه الجهل والضلال, حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح, كما قال تعالى: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف:5] وقال تعالى: ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) [البقرة:10] ولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير: إن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها, وإن من عقوبة السيئة, السيئة بعدها.

أسباب تندفع بها عقوبة السيئات:

المؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:

أن يتوب, فيتوب الله عليه. فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له, أو يستغفر فيغفر الله له, أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات, أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حياً وميتاً, أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به, أو يشفع فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه, أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه, أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه, أو يرحمه أرحم الراحمين.   

فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه.

فوائد متفرقة:

** الكرامة لزوم الاستقامة والله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله

** العاقبة للتقوى, ومن لم يقف عند أمر الله ونهية, فليس من المتقين.

** ما ينفع العبد هو: طاعة الله, وعبادته, إذ النافع له هو طاعة الله, ولا شيء أنفع له من ذلك. وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة, وإن كان من جنس المباح.

**روي إن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش, بقولهم: " لا حول ولا قوة إلا بالله " وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة.

** قال طائفة من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد, ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل, والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشريعة, وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد, والعقل, والشرع.

** الرضا والتوكل يكتنفان المقدور, فالتوكل قبل وقوعه, والرضا بعد وقوعه.

** العلم النافع هو أصل الهدى, والعمل بالحق هو الرشاد, وضد الأول الضلال, وضد الثاني الغي, فالضلال العمل بغير علم, والغي اتباع الهوى.

** قال أبي بن كعب رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة, فإنه ما من عبد على السبيل والسنة, وذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه, كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة, وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً. وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد خلاف سبيل وسنة, فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصاداً واجتهاداً على منهج الأنبياء وسنتهم.

** قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار, وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة. وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها, ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر الله, ويتوب إليه منها.

                           كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 4
  • 1
  • 2,440

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً