من القيم المجتمعية (الستر) بضابط ورابط ..

منذ 2022-01-11

الإسلام يقول لك : لا تفضح نفسك ، بل استر على نفسك ، ولا تستسلم ، ولا تتمادي في جهلك ، قاوم نفسك ، جاهدها ، واستعن بالله تعالى عليها وقد صح

 
 
أيها الإخوة الكرام: اليوم موعدنا لنتحدث عن قيمة جليلة من قيم الإسلام، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على عظمة الإسلام ، وعلى عظمة أخلاق المسلمين ، وعلى رجاحة عقولهم ، وعلى حسن أعمالهم ..
اليوم نتحدث عن قيمة ( الستر )
ما هو الستر ؟
ومن ذا الذي نستره ؟ ولماذا نستره ؟ وهل نثاب إن سترناه ؟
ومن ذا الذي لا نستره ؟ ولماذا لا نستره ؟ وهل نأثم إن لم نستره ؟
الحديث عن الستر بابه واسع ؟
قد لا تكفيه ساعات وساعات ، لكن حسبنا أن ما لا يدرك كله لا يترك كله .. وقد يبارك الله تعالى في القليل فيجعل منه الخير الكثير ..
ماعزُ بن مالكٍ الأسلمي:
أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، شاب من شباب الانصار وقر الإيمانُ في قلبه، آمن بربه، صدق نبيِّه، عاش في المدينة جنبا الى جنب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هذا حاله لكنه لم ينفك عن بشريَّته، ولم ينسلخ عن ضعفه كإنسان والله تعالي يقول: {﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ }
ماعز بن مالك زيَّن له الشيطانُ عمله، وأزَّته نفسُه نحوَ الحرام أزًّا، وفي ساعة غفلة وسكرة شهوة وقع في الإثم، وكان من أمره ما تعرفون .. أتى من امرأة في الحرام ما يأتي الرجل من امرأته في الحلال...
عصى ماعزٌ ربَّه، وهتك الستر الذي بينه وبين الله تعالى ، لكنه ندم على ما كان منه وأيقن أنَّ ما وقع فيه من عَمَلِ الشيطان، فاحترق قلبه ندمًا وأسفًا، وعاش أيامًا في بُؤس وغمٍّ، وحسرةٍ وهمٍّ.
عندها قرر ماعز رضي الله عنه أنْ يتكلم ، فشكى ما كان منه إلى أحد أقاربه، وهو هزَّال بن يزيد الأسلمي، فأشار هزال على ماعز أن يعترفَ بذنبه بين يدي النبي - صلَّى الله عليه وسلم - .
فمشى ماعز حتى أتى المسجد وفيه رسول الله فوقف بين يديه وأقر بذنبه فرده النبي مرة بعد مرة ، حتي عاد من نفسه مرة بعد أخرى وأقر بذنبه أربع مرات،
وألح على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقيمَ حدَّ الله، فلم يكُن بدٌّ من إقامة الحد، فرجمه الصحابة حتَّى فاضت روحُه إلى بارئها، فجهزه المسلمون وصلَّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم دفنه في مقابر المسلمين ودعا له، واستغفر له ، وأثنى على توبته وصدقه مع ربِّه ..
يومها قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّ هزَّالاً الأسلميَّ هو الذي أشار على ماعز أن يكشف ستر نفسه، وأن يعترف بذنبه، فدعا النبي هزالا فقال له : «(يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به).»
الشاهد : أننا بشر ، وأننا خطائون ،وأننا ضعفاء ، وأنه ليس من بيننا معصوم ، وأن ستر المؤمن فضيلة ، وأن التكتم على زلات المؤمنين ونصحهم خير من فضحهم والتشهير بهم ذلك أن الله تعالى لا يحب كشف الأستار قال النبي عليه الصلاة والسلام «(يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به).»
ستر زلات الناس:
لا يعني ترك التناصح ولا يعني الرضا بما صنعوا، ستر هفوات الناس لا يعني إقرارهم على ما فعلوا .. إنما الستر رحمة، إنما الستر مع النصيحة ومعه وقفة من أجل الندم من أجل التوبة من أجل إصلاح ما يمكن إصلاحه ..
الستر: صفة للخالق العظيم سبحانه وتعالى..
قال النبي عليه الصلاة والسلام « (إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والستر).»
الستر: صفة الانبياء والرسل، فقد كان موسى عليه السلام ستيرا، وكان من دعوات النبي محمد عليه الصلاة والسلام {(اللهم استر عوراتي وأمن روعاتي)}
نهى رب العالمين سبحانه وتعالى عن التجسس على الناس لأنه يحب أن يستر عباده ولا يحب أن يفضحهم من أجل ذلك قال {﴿وَلَا تَجَسَّسُوا۟ ﴾}
نهى رب العالمين سبحانه وتعالى عن تتبع عيوب الناس وعورات الناس حتى لا يشهر بهم ..
خطب رسول الله الناس يوما فرفع صوته حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال «(يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتِهم، فإنَّه من يتبع عوراتِهم، يتبعِ الله عورته، ومن يتبعِ اللهُ عورتَه، يفضحه في بيته)»
كان من هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا وقع أحد أصحابه في ذنب أن يستره فلا يفضحه ولا يسميه باسمه ولا يشهر به ولا يكشف للناس عيبه، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح فقط فقال (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ، ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا).
نعم القدوة رسول الله، نعم المعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
علم أصحابه ألا يتتبع بعضهم عيوب بعض ، علمهم ألا يكشف بعضهم ستر بعض ، علمهم أن يستر بعضهم على بعض ..
قال أبو بكر "لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلاَّ ثوبي، لأحببتُ أن أستره به"
وحين سمع عمر ذاك الرَّجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام "إني عالجت امرأةً فأصبت منها دون أن أمسَّها" بادره عمر بقوله "لقد سترك الله، لو سترت على نفسك".
أيها الإخوة الكرام:
إن الباطل ليموت ذكره بعدم الخوض فيه ، وإن المعصية لتهاب ما لم تفضح ، فإذا فضحت ألفت ، وإن المستور عرضة للندم والتوبة والغفران ..
قال النبي عليه الصلاة والسلام « ( ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)»
هذا عن جواب السؤال الأول :
الستر هو : ألا تتجسس, هو ألا تكشف الأستار , هو ألا تتبع العيوب، ألا تنشر الزلات، أن لا تتكتم عن العثرات، رجاء أن يتوب الناس منها ويقلعوا عنها ..
والذي يستر عليه هو المؤمن العفيف حتى لا يفضح، حتى لا يسقط من عيون الناس وحتى لا يكون في زلاته وعثراته قدوة لغيره . ..
ونرجوا من وراء الستر (ألا تشيع الفواحش ) و( ألا تؤلف الرذائل ) و (ألا يتهم أهل الإيمان ) ثم إننا نرجوا من وراء الستر الأجر من الله تعالى قال النبي عليه الصلاة والسلام ( من رأي عورة فسترها كان كمن أحيا موؤدة ).
أما جواب السؤال الثاني:
وهو من ذا الذي لا نستره ؟؟
فهو الفاسق المجاهر بفسقه، الظلوم الغشوم ، الداعي إلى الفجور والعصيان فهذا الذي لا يستر عليه، هذا الذي يفضح أمره قال الله تعالى {﴿ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ }
وقال الحسن البصري «( أَتَرغبونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ ! اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ كَي يَعْرِفَهُ النَّاسُ وَيَحْذَرَهُ النَّاسُ )» .
ولماذا لا نستره؟
لا نستره وقاية للناس من شره، وحماية للعقول والأعراض من أذاه {﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَوْا۟ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَٰسِـِٔينَ، فَجَعَلْنَٰهَا نَكَٰلًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾}
وهل نأثم بكشف أستار المفسدين المجرمين ؟
في كلمة واحدة ( لا نأثم )..
الدليل: قول الله تعالى {﴿ وَلَا تَرْكَنُوٓا۟ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ ﴾ }
الدليل الثاني: حديث  «من رأي منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»
دليل آخر: أن من مأثور الحكم أن الساكت عن الحق شيطان أخرس .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، إنَّه سبحانه قريب مجيب.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة الكرام: بقي لنا في ختام الحديث المختصر عن (الستر) كقيمة عظيمة من قيم الإسلام العظيم .. بقي لنا أن نقول:
إن أرقى وأبقى صور الستر أن تستر على نفسك ..
فليس من البطولة أن تفضح نفسك، ليس من الشجاعة أن تغلق أبواب السماء في وجه نفسك، وليس من إنصاف النفس أن توردها موارد الهلكة حين تجاهر بذنبك.
قال النبي عليه الصلاة والسلام « كُلُّ أُمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرِينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وقدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عليه، فَيَقُولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذا وكَذا، وقدْ باتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عنْه »
قد يكون لك هفوة ، وكل بني آدم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، قد يكون لك زلة ، قد تكون ضعيفا في زاوية من زوايا حياتك ..
الإسلام يقول لك : لا تفضح نفسك ، بل استر على نفسك ، ولا تستسلم ، ولا تتمادي في جهلك ، قاوم نفسك ، جاهدها ، واستعن بالله تعالى عليها وقد صح
أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلم قام بعد أنْ رجَم ماعز الأسْلَميَّ فقال: اجتنِبوا هذه القاذوراتِ التي نهى اللهُ تعالى عنها ، فمن ألَمَّ بشيءٍ منها فلْيستَتِرْ بسِترِ اللهِ ، و لْيَتُبْ إلى اللهِ ، فإنه من يُبدِ لنا صفحتَه ، نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا جميعا من الزلل وأن ينجينا برحمته من سوء العمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.

  • 8
  • 0
  • 2,754

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً