المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي - رياضة النفس (2)
ويخوف من السرقة, وأكل الحرام, ومن الخيانة, والكذب, والفحش, وكل ما يغلب على الصبيان.
علامات حسن الخلق:
اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه, فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما ظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة, فلابد من إيضاح علامة حسن الخلق, فإن حسن الخلق هو الإيمان, وقد ذكر الله صفات المؤمنين في كتابه, وهي بجملتها حسن الخلق, فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} [ المؤمنون:1_2] إلى قوله { أولئك هم الوارثون} [المؤمنون:10] وقال عز وجل: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين } [التوبة:112] وقال عز وجل: { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال:2-3_4] وقال تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [الفرقان: 63] إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حاله, فليعرض نفسه على هذه الآيات, فوجود جميع الصفات علامة حسن الخلق, وفقد جميعها علامة سوء الخلق, ووجود بعضها دون بعض, يدل على البعض دون البعض, فليشتغل بتحصيل ما فقده, وحفظ ما وجده.
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بصفات كثيرة, وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق, فقال عليه الصلاة والسلام: ( « المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه» ) وقال: ( «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فليكرم ضيفه» )
وقال: ( «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر, فليكرم جاره» ) وقال: ( « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » ) وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق, فقال صلى الله عليه وسلم: ( «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً » ) وقال: ( «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» ) وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء, قليل الأذى, كثير الصلاح, صدوق اللسان, قليل الكلام, كثير العمل, قليل الزلل, قليل الفضول, براً, وصولاً, صبوراً, شكوراً, رضياً, حليماً, رفيقاً, عفيفاً شفيقاً, لا لعاناً, ولا ساباً, ولا نماماً, ولا مغتاباً, ولا عجولاً, ولا حقوداً, ولا بخيلاً, ولا حسوداً, بشاشاً, هشاشاً, يحب في الله, ويبغض في الله, ويرضى في الله, ويبغض في الله, فهذا هو حسن الخلق.
رياضة الصبيان وتأديبهم وتحسين أخلاقهم:
الصبي أمانة عند والديه, وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة, خالية من كل نقش وصورة, وهو قابل لكل ما نقش, ومائل إلى كل ما يمال به إليه, فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة, وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب وإن عود الشر وأهمل شقي وهلك, وكان الوزر في رقبة القيم عليه, والوالي له.
ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فلأن يصونه عن نار الآخرة أولى, وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق, ويحفظه من قرناء السوء, ولا يعوده التنعم, ولا يجبب إليه الزينة والرفاهية, فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك.
والصبي...إذا كان يستحى, ويترك بعض الأفعال, حتى يرى بعض الأفعال قبيحاً, فهذه بشارة تدل على اعتدال الأخلاق, وصفاء القلب, ومبشر بكمال العقل عند البلوغ.
وأول ما يغلب عليه من الصفات: شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه, وأن يقول: بسم الله عند أخذه, وأن يأكل مما يليه, وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره, وأن لا يحدق النظر إلى من يأكل, وأن لا يسرع في الأكل.
ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية, ولبس الثياب الفاخرة.
والصبي إذا أهمل في ابتداء نشوه خرج في الأغلب ردئ الأخلاق, كذاباً, حسوداً, سروقاً, نماماً, لحوحاً, ذا فضول, وضحك, وكيد, ومجانة, وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب, ثم يشغل في المكتب, فيتعلم القرآن, وأحاديث الأخبار, وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين, ويُحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله, ويُحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع, فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد.
ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه, ويجازي عليه بما يفرح به, ويمدح بين أظهر الناس, فإن خالف في ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه, ولا يهتك ستره...ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه, فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة, فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سراً, ويعظم الأمر فيه, ويقال: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا, ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح, ويسقط وقع الكلام من قلبه, وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً, والأم تخوفه بالأب, وتزجره عن القبائح.
ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه, ويمنع أن يأخذ من الصبيان شيئاً بدا له, وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء.
وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب, بحيث لا يتعب في اللعب, فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه, ويبطل ذكاءه, وينغص عليه العيش, حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً.
وينبغي أن يعلم طاعة والديه, ومعلمه, ومؤدبه, ومن هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبي, وأن يترك اللعب بين أيديهم.
ومهما بلغ سن التميز, فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة, ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان, ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب, ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع.
ويخوف من السرقة, وأكل الحرام, ومن الخيانة, والكذب, والفحش, وكل ما يغلب على الصبيان.
فإذا وقع نشوءه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور, فيذكر له أن الأطعمة أدوية, وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل, وأن الدنيا كلها لا بقاء لها, وأن الموت يقطع نعيمها, وأنها دار ممر لا دار مقر, وأن الآخرة دار مقر لا دار ممر, وأن الموت منتظر في كل ساعة, وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة, حتى تعظم درجته عند الله تعالى, ويتسع نعيمه في الجنان, فإذا كان النشو صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراً ناجعاً, يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر.
وإن وقع النشوء بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس, والتزين والتفاخر, نبا قلبه عن قبول الحق
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: