(20) وسيلة لتعزيز الأمن الفكري لدى الأطفال

منذ 2022-01-20

فما زالت الأحداث تفاجئنا بين الفينة والأخرى بشبابٍ تخلَّوا عن صفاء عقيدتهم، وحنين بلادهم، وتنكروا لأهليهم، وهم لا يزالون في عمر الزهور، وأكثر من يتحدث عن هذه الأزمة الفكرية فإنّه يربطها بعمر الشباب...

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فما زالت الأحداث تفاجئنا بين الفينة والأخرى بشبابٍ تخلَّوا عن صفاء عقيدتهم، وحنين بلادهم، وتنكروا لأهليهم، وهم لا يزالون في عمر الزهور، وأكثر من يتحدث عن هذه الأزمة الفكرية فإنّه يربطها بعمر الشباب، ولا يأتي بذكر للطفولة وأثرها في تكوين هذه الأزمة! وهو يتعلل في ذلك كلِّه بأنّه لم تظهر على هؤلاء الشباب قبل مشاركتهم في الحوادث الإرهابية أيُّ علامة من علامات الانحراف، فيبرِّء فترة الطفولة من هذه الفواجع!

والذي يظهر لي _ والله أعلم _ أنّ زمن الطفولة ليس هو المسؤول الأوّل ـ لا ريب ـ عن انحراف الشاب، ولكنه أيضًا ليس مبرّءًا منه!!

وثمة أمور تجعل الطفل أكثر أمنًا في فكره وأبعد عن بيئة الأفكار المنحرفة حينما يكبر، جعلتها في عشرين وسيلة، وهذا بيانها:

1- الإنصات إلى الطفل أثناء التعبير عن مشاعره الإيجابية أو السلبية، والإنصات يعني: الاستماع الجيد، والانتباه، والتفاعل، والسؤال والجواب، والاستفسار، وغير ذلك؛ فإنّه إذا عُدم ذلك من مربيه نشأ على الفكر الأُحادي الذي لا يقبل النقاش، ولا يستسيغ الحوار، وإذا تعوّد على استقبال الأوامر فحسب، فإنّه يحجب عن عقله مهارة التفكير، وهنا يكون أبعد ما يكون عن الحقيقة وسبل الوصول إليها، فيغدو محلاً لتلقي الأفكار فحسب، والتعامل معها على أنّها مُسَلَّمات لا يتقدم عنها ولا يتأخر، وبذلك يصبح جاهزًا للخلايا الإرهابية التي تحرِصُ على مثل هذه النوعية من الشباب.

2- تقبّل الطفل تقبلاً تامًّا؛ في أسلوبه، ولونه، وشكله، ونفسيته، لنصل بهذا التقبّل إلى مرحلة الأمان؛ بحيث يسهل الأخذ بيده نحو السلوك الأفضل، والفكر الصحيح، وحتى لو تعرّض إلى أي موقفٍ، أو صادف أي فكرة، أو سمع أو شاهد أي أمرٍ مُسْتَغربٍ على فكرِه وبيئته وخُلُقه، فإنه يهرعُ بكل طمأنينة إلى حضن مربيه، فيعرض عليه أمره، ويستفسر منه، ولو تعرّض لفخٍ من فخاخ أهل الفكر المنحرف، أو أهل الفساد من أصحاب المخدرات أو غيرهم، فإنَّ تقبّلَ مربيه له، وشعورَه بالأمن بين يديه سيجعله أسرع في لجوئه إليه، لإنقاذه من براثنهم، وانتشاله من خنادقهم.

3- التحفيز اللفظيّ والمعنويّ؛ مما يقوي الارتباط النفسي بمربيه، فيحرص على اللقاء به، والمنافسة في إرضائه بالتفوق وعرض إجابته عليه، وتوضيح أفكاره بين يديه، بخلاف إذا ما وجد أمامه جدارًا صلبًا، لا يسمع منه كلمة تشجيع، ولا يرى منه ابتسامة رضا، فهنا تنمو لديه العوازل الفكرية، التي تحول دونه وعرضها على من يُؤمَن من علمه وفكره.

4- التعامل بالرحمة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم :{ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} } [107: الأنبياء]، فالرحمة خُلُقٌ إذا تخلَّق به المربي أنتج لنا طفلاً رحيمًا ودودًا، فإن الرحمة والرأفة هنا تتأكدان؛ حتى لا ينشأ الطفل على أنّ علاج الأخطاء لا يكون إلا بالقسوة والعنف! وأنّ الأمور لا تصلح إلا بهذا! فإذا كبر تعامل مع أي أمرٍ ـ يراه هو أنّه خطأ ـ بالعنف والغلظة؛ لأنّهما السبيلان الأوحدان إلى الرجوع إلى الصواب كما تربى عليه!!

5- الألفة القلبية والبدنية التي يتزيّن بها أهل البيت، وتُبْهِجُ قلبَ الطفل، وإليه تهفو نفسه؛ حيث اجتماع جميع أفراد الأسرة على موائد الطعام، أو القهوة، أو مشاهدة ما يفيد في التلفاز مثلاً، أو جلسات السَّمر مع العِلْم والثقافة والفنون النافعة، أو التشاور في أمور الأسرة، أو نحو ذلك، مما يجعل الأفكار السليمة تنمو في عقل الطفل نموًا تكامليًّا، لا إفراط فيه ولا تفريط، وبهذه الألفة تعاف نفسه الرغبة في الوحدة والانعزال والانطواء، أو الجنوح إلى رفقة السوء، التي هي مستنقع موبوء بالانحراف والتوجهات المشبوهة، أو الأنس بالألعاب الإلكترونية (البلايستيشن)، أو برامج التواصل الحديثة، أو (اليوتيوب)؛ حيث يجد الطفل فيها الميادين المفتوحة!! والسرعة في الاستجابة للدخول اليها، وتنوّع أساليبها، وإبهار ألوانها، وأسوأ من ذلك: التفاعل مع أشخاص لا يُعرف لهم دين، ولا هوية، ولا فكر، ولا وطن!! كل هذا يحدث من غير حسيب ولا رقيب! ولذا كان لزامًا على المربي ـ حينما يمنح طفله جهازًا إلكترونيًا يحتوي على برامج التواصل ـ أن يشاركه في استخدامه، واللعب معه، ووضع ما ينفعه ويفيده، ولا يجعله فريسة لألعابٍ لا نهاية لها، أو تواصلٍ لا خير فيه، تقوّض فيه صحته وتقضي على عقله.

6- عناية المربي بالحديث عن النِعَم التي تحفُّ بهم، من: الهداية بالإسلام، والوطن الغالي، وما فيهما من: الاستقرار والطمأنينة، والمطعم والمشرب والملبس، والتعلم والمساجد والمتنزهات والمستشفيات، وخدمة المقدسات، وتربيته على الشكر على ذلك كله، مما يجعله أكثر شعورًا بهذه النعمة، وأشد تأملاً لها، فيشكر الله عليها، ويذكر أهل الفضل فيها ـ بعد الله تعالى ـ بخير، فيحب الله، ويحب نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويحب ولاة أمره ومن ينوبونهم، ويجِلُّ العلماءَ وأهلَ الفضل، ويسعى في الخير لكل الناس، أما الغفلة عن استذكار هذه النِعَم، فإنَّه يورث للطفل الجحود، فتراه لا يقدر نعمة، ولا يذكر لأحد فضلاً، ولا يعبأ بفوات خير، وهنا صور يسيرة هي من أجمل الفرص في تنمية الأمن الفكري لدى الطفل، ومنها: الاستفادة من زيارة أسواق (التموينات) التي تمتلأ بالخيرات، والمدارس التي تُوَزّعُ فيها الكتب بأجمل الطبعات مجانًا، والمستشفيات التي تستقبل المرضى بكل عناية ورعاية من دون مقابل، والمساجد التي تعمر بالصلوات والأذكار والمحاضرات، والطبعات المميزة للمصحف الشريف، والجمعيات الخيرية التي تساعد الفقراء والمساكين، وغيرها مما أكرم الله تعالى هذه البلاد من النعم والخيرات، مما يدعوه إلى تعزيز الانتماء إلى دينه ووطنه، ويكون بعدها أحرص على الحفاظ عليها، والدفاع عن مقدراتها.

7- أن يُكثِر المربي الحديث عن سمات الإسلام الأخلاقية التي يسهل على الطفل إدراكها، مثل (الحب)، و(العطف)، و(التسامح)، و(القناعة)، وبعض السلوكات الإنسانية اليومية التي تنمي لديه روح الصلة بالمعروف بكل مَنْ حوله؛ مثل: (السلام والمصافحة)، و(الابتسامة)، و(المساعدة)، و(الحفاظ على ممتلكاته الخاصة والمنزلية والمدرسية والمرافق العامة كالحدائق وغيرها)، فالطفل الذي ينشأ على مثل هذا تجده أكثر عطاء لدينه ومجتمعه؛ لأنه نشأ على الإيجابية، فيشبَّ عليها بإذن الله تعالى، ويستهجن في المستقبل كل تصرفٍ سلبي سواء أكان في حقه أو في حق غيره ولو كان من الجمادات النافعة! أمّا مَنْ نشأ على الكراهية أو الاستعلاء على الآخرين، أو لم يؤدب على استحقار أو ظُلم مَنْ يختلف معه، أو تحطيمِ ما حوله حتى في حالة الغضب!! بحجة: (أن هذا طبعه!!، أو معه حق!!) فلا غرابة بعد ذلك أن نجده أكثر تشربًا لأفكار المفسدين والخارجين على قواعد الشريعة ومصالح بلاده.

8- مساعدة الطفل على اختيار أصدقائه؛ بحيث يكونون من بيئاتٍ صالحة متوازنة، لم تُعْرَف بالجنوح ولا التطرف بطرفيه؛ وما ذاك إلا لأنّ الصديق له أثر في تغيير القناعات لا يقل عن تأثير الوالدين، ولست مبالغًا في ذلك! لا سيما الأصدقاء (الإلكترونيون) وهم أقرب إلى الأشباح في استعمالهم الأساليب الشيطانية التي تجعلهم أكثر نفوذًا من الأصدقاء البشر، وخصوصًا حينما يجد لديهم ما يحقق بعض نزواته وغرائزه، أو يجد لديهم شيئًا من الخداع المتلبس بثوب التقدير والتعزيز، فاختيار الصديق الصالح يعزز لنا تنشئة الطفل على الصلاح وحب الطيبين والجادين والمفلحين.

9- أن يتعرّف الطفل على أولياء أمره، من خلال مشاهدة صورهم، أو أخبار إنجازاتهم، ويسمع حينها الدعوات الصادقات، على إثر ذكر أسمائهم، (حفظهم الله)، (وفقهم الله)، (أطال الله أعمارهم على طاعته)، (نفع الله بهم الإسلام والمسلمين)، (اللهم انصر بهم دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين)، وغيرها من الدعوات التي تشعر الطفل بمحبة أهله لحكامهم، ومحبة الخير ونصرة الدين على أيديهم، ويوصل إليه رسالة عقدية تتجذر في نفسه بأن المرء لا يحيا من دون بيعة شرعيّة في عنقه، وهنا لا تراه بعد ذلك يكون في دور المبايع فقط، بل المنافح والمدافع عن النيل منهم، أو الاستنقاص من شخصياتهم، فضلاً عن التفكير في الخروج عليهم.

10- إطْلاعُ الطفلِ على بعض واقع الإرهاب السيِّء بطريقة تناسب عمره واستيعابه، مع البعد عن الإزعاج النفسي، ولا أقصد أن يُرى الطفل مشاهد بشعة من أثر حوادث التفجير التي يصنعها الإرهابيون، ولكن يمكن أن يختار له ما يناسب عمره، ويقال له: إنّ هذا لا يصنعه إلا من لا يحب أهله ولا دينه ولا وطنه.

11- إشغال الطفل بكل ما ينمي إيمانه، وقدراته العقلية، والصحية، والاجتماعية، والنفسية، والعلميّة، بما يناسبه من دون مشقة عليه، أو تحميله ما لا يطيق، وبعد ذلك يأتي المتابعة لكل هذه الجوانب، فكل تقدُّمٍ فيها هو ابتعاد حقيقي عن الفكر المنحرف في المستقبل، وأي إخفاق فيها فإنه يُعد مؤشرًا إلى الاقتراب من الانحراف، وهذه هي الرعاية التي نصّ عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته» ) (رواه البخاري) .

12- على الوالدين ألا يتأخرا في علاج أي فكرة منحرفة تعلق بذهن الولد، ربما التقطها من صديق مباشر أو صديق إلكتروني، أو من أي طريق آخر، فتأخر العلاج يعني صعوبة التخلّص من الفكرة المنحرفة، ويكون ذلك بالاتصال على الهواتف الاستشارية في الجمعيات الأسرية، أو الاستشارة بالمقابلة المباشرة مع أحد المختصين، أو بحضور الدورات التدريبية المعتمدة التي تُعنى بهذا الشأن.

13- وحتى لا نلقي بالمسؤولية على المربي المباشر، فإنَّ مؤسسات المجتمع ذات الاهتمام بشأن الطفل يلزمها أن تتحمّل مسؤولياتها تجاه الطفل، ويمكن أن نقترح هنا أمورًا مجتمعية تُأَسِسُ لفكرِ طفلٍ سليم، ومن ذلك: إنشاء مركزٍ فكريٍ متخصصٍ للدراسات والبحوث الأمنية المعنية بالطفل، تتناول كل الجوانب المتعلقة بالأمن الفكري للطفل، ومن خلاله تثقّف الأسرة بمؤشرات الأفكار المنحرفة؛ ليتم اكتشافها في حينها ليسهل علاجها قبل تمكنها من شخصية الفرد.

14- عناية المدرسة والمسجد بتعزيز الانتماء إلى الدين ثم الوطن، والبيعة لولي الأمر، وتقديم ذلك بوسائل جاذبة ومؤثرة، وتتسم ـ من حيث الوقت ـ بالديمومة، وبأثواب جميلة ومتنوعة.

15- إطلاق قناة فضائية للطفل؛ تُقدم برامج فكرية مدروسة، تجمع بين المتعة والبناء، والجذب والتأثير، بشرط أن تكون منافسة على مستوى قنوات الأطفال العالمية الأخرى.

16- إصدار مجلات وكتب ثرية بالمعلومات المصوّرة، والألعاب الورقية الكتابية، توجه عقل الطفل نحو الانتماء إلى دينه ووطنه، وتبغض له إزهاق الأرواح أو تدمير الممتلكات، ويفعّل فيها دور المراسلة، ليشعر الطفل فيها بروح التواصل المتسم بالتقدير والاحترام.

17- لا مانع أن ننتج بعض الألعاب الإلكترونية ذات القيم الرفيعة، والأهداف النبيلة، التي تحفزه نحو العطاء والبناء، وتوسّع جانب الخيال الإيجابي والمتعدي في نفعه إلى الآخرين، كتقمصه دور المعلِّم، أو الطبيب، أو المهندس، أو الطيار، أو الجندي، أو المزارع، أو النجّار، أو غير ذلك من المهن النافعة البنَّاءة.

18- إيجاد حملات توعوية طفولية واسعة النطاق، تشترك فيها كل مناطق الوطن العزيز، تحمل شعارًا وطنيًا نبيلاً، تعزز من الجانب الوقائي، عبر معارض وحفلات وزيارات، تبين دور الخدمات الوطنية التي تقدم لهم في دورهم، وفي الدوائر الحكومية والخاصة، والمرافق العامة، وكيف يقدرونها ويحافظون عليها.

19- إيجاد الدورات التدريبية والدبلومات المعتمدة التي تؤهل المستشارين المتخصصين في الأمن الفكري لدى الطفل، ومن ثمَّ تفعيل دورهم بإيجاد البيئات الاستشارية المجهزة علميًّا وتقنيًا؛ لتلقي الاستشارات الواردة من الآباء والأمهات والأوصياء، ومن الأطفال أنفسهم، يكشفون من خلالها الشبه التي ربما تعلق في أذهانهم، أو يجيبون عن تساؤلات تنقدح في عقولهم.

20- وأخيرًا: لابد من إيجاد دراسات خاصة على واقع الشباب المنحرف فكريًا؛ ليربط المختصون بين أثر نشأتهم وواقعهم، ويمكن أيضًا أن يلتقي هؤلاء العلماء بأُسَرِ المغرر بهم، ليكشفوا عن أسرار طفولة هؤلاء الشباب، وهل لبعض الأساليب والمواقف فيها أثر على انحرافهم، ويكون ذلك في قيد الخصوصية والأمانة العلميّة.

هذه أفكار وضعتها بين يدي المربي الكريم، علّها تجد منه اهتمامًا فيهذبها، ويضيف إليها، فالأمر يهمُّ الجميع، فيجب أن يشارك فيه كل من له بصيرة فيه، عسى أن يوفقنا الله تعالى في الأخذ بنواصي فلذات الأكباد نحو الهدى والرشاد، وأن يهدينا ويهدي أولادنا لكل ما فيه خير لديننا وبلادنا وأمتنا، وأن يحفظ ولاة أمرنا ويحفظنا وإياهم من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، إنّه جواد كريم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

____________________________________________________
الكاتب: 
أ.د/فيصل بن سعود الحليبي

  • 2
  • 0
  • 2,504

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً