الغرف المغلقة عن البيت المفتوحة للعالم

منذ 2022-01-25

لا يخالطون الأشرارَ في الخارج، ولا يُكثرون التحوامَ مع الأصحاب، لكنَّ عقولَهم وقلوبَهم هناكَ مع مجاهيلِ الشرقِ والغرب؛ حيث أخلاطُ هذا العالمِ مِمَّن لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، بل لا دينهُم دِينُنا ولا أخلاقُهم أخلاقُنا ولا عاداتُهم عاداتُنا.

عباد الله، ها هوَ ابني وابنتي أعلمُ أنهم في المنزلِ أغلبَ وقتِهم، فلا يخالطون الأشرارَ في الخارج، ولا يُكثرون التحوامَ مع الأصحاب، قُصارى همِّهم أن يجلبوا الأكلَ من موصّل الطلباتِ عند الباب، نعم لقد نجحتُ في جعلهم قريبين بأجسادهم مني فقد قدَّمتُ لهم أحدثَ الأجهزةِ التواصليةِ والترفيهية، ووفَّرتُ لهم أسرعَ اتصالٍ بالشبكة، وهيَّأتُ غُرَفَهُم بكافةِ سبلِ الراحةِ والترفيه؛ لتكونَ كهوفًا يأوون إليها معظمَ وقتهم.

 

إني لأبٌ مثاليٌّ إذ أتخذُ هذا الأسلوب!

أوَّاه أيها الأبُ الذي هذا صنيعُك أو قريبٌ من ذلك، بل آهٍ وآهٍ وآهٍ إذ تضيِّعُ من تعولُ؛ ليكونَ فَرَطًا لهذا الفضاءِ بالغِ الاتساعِ سهلِ العبورِ شديدِ الظلمة، يهتبلُ ابنَك وابنتَك ذلك العالمُ الافتراضي المجهولُ المسمومُ المحمومُ في مستنقعِه المنتنِ وقاعِه العميقِ وشَرَكِهِ الشائك.

 

صحيحٌ أنهم أمامَ أعينكم بأجسادهم، لكنَّ عقولَهم وقلوبَهم هناكَ مع مجاهيلِ الشرقِ والغرب؛ حيث أخلاطُ هذا العالمِ مِمَّن لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، بل لا دينهُم دِينُنا ولا أخلاقُهم أخلاقُنا ولا عاداتُهم عاداتُنا.

 

أبناؤنا وبناتُنا يعيشون معنا لكنهم يتعايشونَ هناك مع أولئك القوم، يقضون معهم أكثرَ وقتهم، يسمعون أغانيهم ويشاهدون أفلامَهم ويتأملون طباعَهم، يرون ذلك بأجملِ صورةٍ وأبدعِ وصف، فتعجبُهم تِلْكُمُ الأخلاق، وتجذِبُهم ذيكَ العادات، بل وأخطرُ من هذا أن يتقبَّلوا إلحادَهم وشذوذَهم وفسقَهم.

 

ثم لا تسلْ بعد ذلك أيُّ حالٍ آلَ إليه أبناؤُنا وبناتُنا، أيُّ أخلاقٍ وعاداتٍ، بل أي عقيدةٍ وديانة.

 

عبادَ الله، لئن كان من أعظمِ مقاصدِ الهجرةِ ألا ينشأَ الجيلُ الصاعدُ بين ظهرانيّ الكافرين، يعتادون على كفرِهم ويأخذون من طبائِعهم ويتأثرون بفسادِ أخلاقِهم، فكيف إذن وقد تحققت تلكم الأفعالُ عبرَ الأجهزةِ الإلكترونية؟! وقد سألتِ الملائكةُ من لم يهاجر في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97].

 

ومعنى هذا السؤال: ما الذي تميّزتم به عن المشركين؟ ما الذي اختلفتم فيه عنهم؟
وإن أبناءَنا لمسؤولون: (فيمَ كنتم) وإن آباءَهم وأمهاتِهم لمسؤولون: أين كنتم؟! فحيروا جوابًا أو لا تعرِّضوا أنفسَكم وأبناءَكم لهذا السؤال.

 

ثم ماذا يا عبادَ الله؟ هذه بضاعةُ القومِ رُدَّت إلينا، ولئن راجتِ هذا البضاعةُ المنتنةُ إذًا نشأَ جيلٌ مَسْخٌ فاقدٌ لهُويتِه مضيِّعٌ لدينِه منسلخٌ عن أخلاقه، يتقبَّل العلاقاتِ الجنسيةَ المحرمة، ويحتفلُ بالأعيادِ الكفريةِ المنحرفة، ويمارس ما أوغل فيه الغرب والشرق من الضلال والفساد

 

وما يؤذن بالخطر ظهورُ بوادرِ هذا التأثرِ للعلنِ في العالمِ الافتراضي والواقعي، ولو فتَّشنا عن الأسباب، لوجدنا ضعفَ الرقابة أحدَ أهمها، ضعفَ الرقابةِ مع انفجارٍ هائلٍ للتقنيةِ والاتصال، وتواصلٍ مهولٍ منزوعِ الحدود ِوالفروقات مع كافة أقطار العالم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يعول ».

هل الحلُ أن نذوبَ مع هذا العالم، ونرضى بأن نكون تابعين لا متفرِّدين ومتبوعين؟

هذا والله ما لم نُخلقْ لأجله، بل إننا بكوننا مسلمين لنا الأصالة والحقُّ المطلقُ في التشريع والتربية.

{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} [فصلت: 42].

 

إذًا لعلَّ الحلَّ أن نقطعَ الاتصال والتواصلَ مع العالم الآخر المختلف عنا ونمنعَ أبناءَنا وبناتنا من هذه الأجهزة؟

 

وهذا مما يستحيلُ تطبيقه، وهو كذلك علاجٌ خاطئٌ للمشكلة؛ إذ لم نخلقْ لننعزلَ عن العالم، وليس المنع المطلقُ للأجهزة عن الأبناء والبنات حلًّا فعَّالا، بل ربِّما تكون له ردة فعلٍ أسوء وأخطر.

 

هل حرنا جوابًا وأعيانا الحل؟ كلا! لكل مشكلة علاج، والعلاج يا عباد الله بالتوعية والترشيد والمراقبة، فالتوعية تكون بغرس العقيدة الصحيحة والأخلاق الحميدة والتحذير من الشر وأهله.

 

والترشيد يكون بالاستخدام المعتدل للأجهزة وإشغال الأبناءِ والبناتِ بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وكثرة الخُلطة لهم.

 

أما المراقبةُ فلا تعني التجسس، بل إن التجسسَ محرَّمٌ كما قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12].

 

ولكنَّ المراقبةَ هي معرفةُ اهتمامِ الأبناءِ والبنات، وما يتابعون ومن يصاحبون.

 

يكون ذلك كلُّه مع استصحابِ النصيحةِ حينًا، والتغافلِ حينًا.

 

يكون ذلك بكثرةِ الخُلطة، وجعلِ المعايشةِ الواقعيةِ هي السمتُ الغالبُ على أهل المنزل، وكذلك خلطةُ الآخرين والتواصلُ الحقيقيُ معهم.

 

وأعظمُ من هذا وذاك كثرةُ الدعاءِ لهم بالصلاحِ والهداية.

 

إنَّ التغيُّر المستمرَّ - يا عباد الله - في حالِ العالم والمجتمعاتِ يفرضُ على الآباءِ والأمهات ضبطَ مسايرةِ كلِّ جديد بالأصول الشرعية الأصيلة، وهذا التحدي من الابتلاء الذي يبتلينا الله به، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].

 

اللهم أصلِحْ لنا ديننا الذي هو عِصمة أمرنا، وأصلِحْ لنا دُنيانا التي فيها معاشنُا، وأصلِح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.

_________________________________________
الكاتب: عبدالكريم الخنيفر

  • 4
  • 1
  • 881

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً