ثلاثية الإنجاز

منذ 2022-01-27

كل باحثٍ عن الحق، وكل طالبٍ للخير يستلهم كلمة تهديه، أو تجربة تقصّر عليه مسافات طويلة في البحث والتحرّي، ويتطلع إلى إنجاز مهمته، والوصول إلى هدفه.

كل باحثٍ عن الحق، وكل طالبٍ للخير يستلهم كلمة تهديه، أو تجربة تقصّر عليه مسافات طويلة في البحث والتحرّي، ويتطلع إلى إنجاز مهمته، والوصول إلى هدفه.

 

وفي كلام أسلافنا من العلماء المخلصين، والأفذاذ المجتهدين ما ينير لنا الطريق، ويضع أيدينا على مكامن التوفيق، وما يستحق أن نسميه (ثلاثية الإنجاز).

 

فمن ذلك ما قاله القاضي أبو بكر بن العربي مادحًا عمل الإمام الترمذي (صاحب الجامع) ومثنيا عليه... فيقول: " وفيه – أي: جامع الترمذي - أربعة عشر علمًا.. وكل علمٍ من هذه العلوم أصلٌ في بابه، وفرد في نصابه...ثم قال:

"وهذا شيء لا يعمُّه إلا العلمُ الغزير، والتوفيقُ الكثير، والفراغُ والتدبير".ا. هـ.

 

فهذه ثلاثية إنجاز الأعمال الجليلة والكبيرة تضمنها هذا السطر المبارك من كلام الإمام ابن العربي رحمة الله عليه..

1- العلم الغزير.

2- التوفيق الكثير.

3- الفراغ والتدبير.

 

فأما أولها فـــ(العلم الغزير)،فيستقي منه الباحث أو العالم مادة بحثه، ويغترف منه أصول كتابه.

 

وسبيل ذلك أن يقرأ كل ما يتعلق بموضوع بحثه، ويجمع مفرداته، ويكوّن فصوله وأبوابه، ويتحصل على الدرر والفوائد، فيبحث ويجتهد، ويعرض ويناقش، وينظر هنا وهناك جامعًا وحاصرًا، ومرتبًا ومهذبًا ومستنتجًا؛ حتى يستوي بحثه على سوقه.

 

وكلما كان إلمامه بما يبحث فيه، وما يكتب عنه أكثر، كانت إفادته أعظم وأغزر.

 

ولذا قيّد الإمام العلم بكونه غزيرا؛ لأن هذا هو الذي ينفع ويثمر.

 

وما لم تكن للباحث أو المؤلف قاعدةٌ متينة من العلم الذي يكتب فيه لم يُفِد. فمن يكتفي بظواهر المسائل ولا يسبر أغوارها، ولا يحرّر مُشكلها، ولا يبين غوامضها؛ يأتي عمله خِداج لا يسمن ولا يغني من جوع.

 

وأصحاب العلم الضحل الذين يكتبون من أجل الكتابة لا من أجل الإفادة، فتراهم يتحصلون على شيءٍ من العلم فيطيرون به، فلا يجمعون أقوال أهل العلم في المسألة الواحدة، ولا يلمّون بأطرافها، فيكتبون دون تحقيق أو تمحيص، أو مراجعة وتدقيق فتخرج أعمالهم مبتسرة لم يكتمل نموها، فتشوّه وجه العلم، وتكدّ قرائح طلابه، وتضيع أوقاتهم في مهاترات ومناقشات.

 

وأما ثانيها فـــ(التوفيق الكثير): فالتسديد والإعانة من الله عز وجل، والتيسير والتوفيق، والإرشاد إلى المطلوب بفضل الله ومنّته. وهذا ما لا يستغني باحثٌ عنه، ولا بدّ لطالب الحقّ منه.

 

وإنما يتأتى ذلك للباحث بكثرة دعائه، وعظيم رجائه، وإخلاص نيته، ونقاء طويته، وتجريد قصده، ورغبته في نفع الإسلام والمسلمين بل والبشرية جمعاء.

 

وإذا حالف التوفيق العبد في سيره فُتحت له المغاليق، وانقادت له صعابها، وذلت له شواردها؛ و{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

 

وفي هذا الأمر الثاني ملمحٌ دقيق: ألا وهو أنه لابدّ لطالب الحق والباحث عنه أن يتبرأ من الحول والطول، وأن يحذر من الغرور والعجب؛ فتلك الآفات تُردي صاحبها؛ فيكون سعيه يبابا، وعمله خرابا، فينقلب اجتهاده على نفسه، ويكون حتفه بيده. وصدق الذي قال:

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى   ***   فأولُ ما يجني عليه اجتهادُه 

 

وأما ثالثها فـ(الفراغ والتدبير):

والمراد به أن يتفرغ طالب العلم للعلم، وأن يكون هو شغله الأول، وهمّه الأكبر، فذلك دأبه، وتلك مهمته، فلا يعطي الباحث وطالب العلم فضول وقته للعلم، بل يتفرغ لعمله قدر طاقته ووسعه.

 

وسبيله إلى ذلك أن ينظم وقته، وأن يرتب أولوياته، وأن يصب جلّ اهتمامه بأمر واحد حتى ينتهي منه، ولا يشتت نفسه وفكره بين أكثر من موضوع.

 

ثم عليه بعد ذلك أن ينظّم ويبوب، ويُجمل ويفصّل، ويقدم ويؤخر، ويشرح ويهذّب، حتى يصل بعمله إلى المستوى المطلوب، والهدف المرغوب.

 

وقديما قالوا: من سار على الدرب وصل.

 

وفقنا الله لما فيه رضاه.

_______________________________________________

الكاتب: د. محمد عبدالله الفقي

  • 4
  • 0
  • 817

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً