تِلْكَ الرُّسُلُ
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
قال تعالى في سورة البقرة:
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }
{{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ}} قال الأخفش : أي كلّمه الله، يعني موسى ومحمدا -صلى الله عليهما وسلم- حين كان قاب قوسين أو أدنى {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} منهم محمدا -صلى الله عليه وسلم- كقوله تعالى: {{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}} [الإسراء:79] إذ فضله بعموم رسالته وبختم النبوات بنبوته، وبتفضيل أمته، وبإدخاله الجنة في حياته قبل مماته وبتكليمه مناجاته مع ما خصه من الشفاعة يوم القيامة.
ومنهم إبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: {{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}} [النساء:125]، وقوله: {{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} } [البقرة:124]
وقال تعالى: {{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} } [النساء:163] «روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ فَقَالَ لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ وَقَالَ تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَالَ أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي فَقَالَ لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ فَذَكَرَهُ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: (لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)»
فالمنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينات.
وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات.
فإذا كان التفضيل قد أنبأ به رب الجميع، ومن إليه التفضيل، فليس من قدر الناس أن يتصدوا لوضع الرسل في مراتبهم، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله، والنهي عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا.
{{وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}} المعجزات الدالة على صدق عيسى في نبوته ورسالته، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص { {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}} جبريل عليه السلام كان يقف دائماً إلى جانب عيسى يسدده ويقويه إلى أن رفعه الله تعالى إليه. فإن الروح هنا بمعنى الملك الخاص. والقدس: الخلوص والنزاهة.
وروح القدس هو جبريل .. قال تعالى: {{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}} [النحل:102] وفي الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها) وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: (اهجمهم ومعك روح القدس).
وإنما وصف عيسى بن مريم بهذين مع أن سائر الرسل أيدوا بالبينات وبروح القدس، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته، وللرد على النصارى الذين غلوا فيه فادعوا ألوهيته، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه للتنبيه على أن ابن الإنسان لا يكون إلا هالك، وعلى أن مريم أمة الله تعالى لا صاحبة، لأن العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنما تكنى، فيقولون ربة البيت، والأهل، ونحو ذلك، ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل، أو أسماء الإماء.
ولما ذكر الحقّ تعالى أحوال الرسل، وتفاوتهم في العناية، ذكر أحوال أممهم وتفاوتهم في الهداية، فقال:
{{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} }
فلما بعثتُ الرسلَ، وفضَّلتُ بعضَهم على بعض، اختلفت أممهم من بعدهم فاقتتلوا، وكل ذلك بإرادتي ومشيئتي، {{ولو شاء الله}} هداية أممهم {{ما اقتتل الذين من بعدهم}} أي من بعد الرسل {مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} المعجزات الواضحات في تحقيق رسالتهم وصحة نبوتهم {{ولكن اختلفوا}} بغياً وحسداً؛ {{فمنهم من آمن}} بتوفيقه لاتباع دين الأنبياء {{ومنهم من كفر}} بمخالفتهم، فكان من الأشقياء، {{ولو شاء الله}} جَمْعهم على الهدى {{ما اقتتلوا}} لكن حكمته اقتضت وجود الاختلاف؛ ليظهر سر اسمه المنتقم والقهار واسمه الكريم والحليم {{ولكن الله يفعل ما يريد} } فيوفّق من يشاء عدلاً ويخذل مَنْ يشاء عدلاً، كما قال الله تعالى {{لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} } [ الأنبيَاء: 23 ] .
وفي الآية دليل على أن الحوادث كلها بيد الله خيرها وشرها، وأن أفعال العباد كلها بقدرته تعالى، لا تأثير لشيء من الكائنات فيها.
والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب، والتحسير على امتناعه، وانتفائه المفاد بـ {لو}
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيرا متواترا بقوله: في خطبة حجة الوداع: (فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) يحذرهم ما يقع من حروب الردة وحروب الخوارج بدعوى التكفير، وهذه الوصية من دلائل النبوة العظيمة.
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصالة القول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل، فهم ملومون من هذه الجهة، ومشيرة إلى أن الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصر في العواقب قبل ذلك الإبان، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة، ولذلك قال: {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}} فأعاد {{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}} تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله: {{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}} ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أن في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادا الاهتداء، وأن في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكمل من هذا الخلق كما خلق الملائكة. فالله يخلق ما يشاء ولكنه يكمل كل الخلق بالإرشاد والهدى، وهم يفرطون في ذلك.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: