فوائد متنوعة من بعض مصنفات الحافظ ابن رجب-2
ولما توفي ابن له, أكب عليه وقبله وهو في أكفانه, وقال: يا بني, استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه, الربُ خير لك مني.
[رسالة: الفرق بين النصيحة والتعيير]
** سأل على بن المبارك الكرخي (ت487هـ) رجلاً: إذا مشيت مع من تعظمه أين تمشي منه؟ فقال: لا أدري, قال: عن يمينه, تقيمه مقام الإمام في الصلاة, وتخلي له الجانب الأيسر, فإذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر.
** ذكر يحيى بن عبدالوهاب بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني (ت511هـ) بسنده إلى أبي حامد الخلقاني أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في القصائد؟ فقال: في مثل ماذا؟ قلتُ: مثل ما تقول
إذا مـا قـال لي ربـــــــــــــــــي أما استحيت تعصيني
وتُخفى الذنوب عن غيري وبالعـصـــــــــــيان تأنيني؟
قال: فرد الباب, وجعل يقول:
إذا مـا قـال لي ربــــــــــــــــي أما استحيت تعصيني
وتُخفى الذنوب عن غيري وبالعـصيــــــــــان تأنيني؟
فخرجتُ وتركته.
** قال أبو الوفاء ابن عقيل: إني لا يحل لي أن أُضيع ساعة من عمري, حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة, وبصري عن مطالعة, أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح, فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدهُ وأنا ابن عشرين سنة.
ولما توفي ابن له, أكب عليه وقبله وهو في أكفانه, وقال: يا بني, استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه, الربُ خير لك مني.
وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت لفراق المحبوبين.
** قال الحافظ أبو موسى ابن الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد المقدسي (ت600), مرض والدي رحمه الله مرضاً شديداً, منعه من القيام والكلام, واشتد به مدة ستة عشر يوماً, وكنت كثيراً ما أسأله: ما تشتهي؟ فيقول: أشتهي الجنة. أشتهي رحمة الله تعالى, ما بقي إلا الموت, اشتهي النظر إلى وجه الله تعالى.
فقلت: توصني بوصية, فقال: لا تضيعوا هذا العلم الذي تعبنا عليه_ يعني الحديث _ يا بني: أوصيك بتقوى الله, والمحافظة على طاعته. فقلت: ما أنت عني راض؟ فقال: بلى والله, أنا عنك راض وعن إخوتك
** قال إبراهيم بن عبدالواحد المقدسي(ت614هـ) لرجل: أكثر من قراءة القرآن, ولا تتركه فإنه يتيسر لك الذي تطلبه على قدر ما تقرأ, قال الرجل: فرأيت ذلك وجربته كثيراً, فكنت إذا قرأت كثيراً تيسر لي من سماع الحديث وكتابته الكثير, وإذا لم أقرأ لم يتيسر لي.* قال القاضي سليمان بن حمزة بن قدامة المقدسي رحمه الله (ت715هـ): لم أصل الفريضة قط منفرداً إلا مرتين, وكأني لم أصلهما قط.
[كتاب: الذيل على طبقات الحنابلة]
قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ *أُولَـٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133-136]
ومعنى قوله: {ذَكَرُوا اللَّـهَ } أي: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه, وما توعد به على المعصية من العقاب, فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار.
[سيرة عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز]
يأبى اللهُ العصمة لكتابٍ غير كتابه والمُنصفُ من اغتَفَرَ قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابه
[تقرير القواعد وتحرير الفوائد]
في قوله تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] دلت هذه الآية على إثبات الخشية للعلماء بالاتفاق وعلى نفيها عن غيرهم على أصح القولين, وعلى نفي العلم عن غير أهل الخشية أيضاً.
عن مجاهد والشعبي: العالم من خاف الله.
وعن ابن مسعود قال: كفي بخشية الله علماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً.
وذكر ابن أبي الدنيا عن عطاءٍ الخراساني في هذه الآية: العلماء بالله الذين يخافونه
وعن يحي بن جعدة عن علي قال: يا حملة العلم, اعملوا به, فإنما العالم من عمل بما علم فوافق علمه عمله, وسيكون أقوام يحملون العلم ولا يجاوز تراقيهم, يخالف علمهم عملهم, وتخالف سريرتهم علانيتهم, يجلسون حِلقاً فيُباهي بعضهم بعضاً, حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه, أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يكون الرجلُ عالماً حتى لا يحسد من فوقه ولا يحقر من دونه, ولا يبتغي بعلمه ثمناً.
قال الحسن: إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا, الراغب في الآخرة, البصير بدينه, المداوم على عبادة ربه.
وعن الربيع بن أنس عن بعض أصحابه قال: علامة العالم: خشية الله عز وجل.
وسئل سعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة ؟ قال: أتقاهم لربه.
وسئل الإمام أحمد عن معروف, وقيل له: هل كان معه علم ؟ فقال: كان معه أصل العلم خشية الله عز وجل.
** ومما يبين أن العلم يوجب الخشية وأن فقده يستلزم فقد الخشية وجوه:
إحداها: أن العلم بالله تعالى وما له من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت والعزة وغير ذلك يوجب خشيته, وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية, وبهذا فسر الآية ابن عباس, فقال: يريد إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وجلالي وسلطاني.
ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية» وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)
والمقصود أن العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله من قدرِهِ, وخلقِهِ, والتفكير في عجائب آياته المسموعة المتلوة, وآياته المشاهدة المرئية من عجائب مصنوعاته, وحِكمِ مبتدعاته ونحو ذلك مما يوجب خشيته وإجلاله, ويمنع من ارتكاب نهيه, والتفريط في أوامره, هو أصل العلم النافع, ولهذا قال طائفة من السلف عمر بن عبدالعزيز وسفيان بن عيينة: أعجب الأشياء قلب عرف ربه ثم عصاه.
وقال بشر بن الحارث: لو يفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله.
الوجه الثاني: أن العلم بتفاصيل أمر الله ونهيه, والتصديق الجازم بذلك, وما يترتب عليه من الوعد والوعيد والثواب والعقاب, مع تيقن مراقبة الله واطلاعه ومشاهدته ومقته لعاصيه وحضور الكرام الكاتبين, كل هذا يوجب الخشية, وفعل المأمور وترك المحظور, وإنما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور, والغفلة من أضداد العلم, والغفلة والشهوة أصل الشر,.. والشهوة وحدها لا تستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل.
فالمؤمن يحتاج دائماً كل وقت إلى تجديد إيمانه وتقوية يقينه, وطلب الزيادة في معارفه, والحذر من أسباب الشك والريب والشبهة.
الوجه الثالث: أن تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه, وتصور حقيقة المحبوب توجب طلبه فإذا لم يهرب من هذا, ولم يطلب هذا, دلَّ على أن تصوره لذلك ليس تاماً.
الوجه الرابع: أن كثيراً من الذنوب قد يكون سبب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه, وبغض الله له, وتفاصيل الوعيد عليه, وإن كان عالماً بأصل تحريمه وقبحه, لكنه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح, فجهله بذلك هو الذي جرأهُ عليه, وأوقعه فيه, ولو كان عالماً بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العلم تركه خشية من عقابه.
الخامس: أن كل ما علم علماً تاماً جازماً بأن فعل شيئاً يضره ضرراً راجحاً لم يفعله, فإن هذا خاصة العاقل, فإن نفسه تنصرف عما يعلم رجحان ضرره بالطبع, فإن الله جعل في النفس حباً لما ينفعها وبغضاً لما يضرها, فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرها ضرراً راجحاً, ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل.
فالزاني والسارق ونحوهما لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم...لم يقدموا على ذلك, فإذا علم هذا فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل...فالفاعل للذنب لو جزم بأنه حصل له به الضرر الراجح لم يفعله, لكنه يزينُ له ما فيه من اللذة التي يظن أنها مصلحة, ولا يجزم بوقوع عقوبته, بل يرجو العفو بحسنات أو توبة أو بعفو الله, وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفس, ولو كان له علم كامل لعرف به رجحان ضرر السيئة, فأوجب له ذلك الخشية المانعة له من مواقعتها. ونبين هذا بـ
الوجه السادس: وهو أن لذات الذنوب لا نسبة لها إلى ما فيها من الآلام والمفاسد البتة فإن لذاتها سريعة الانقضاء, وعقوباتها والآمها أضعاف ذلك, ولهذا قيل: " إن الصبر على المعاصي أهون من الصبر على عذاب الله " وقيل: " رب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً " ومؤثر لذة الذنوب كمؤثر لذة الطعام المسموم الذي فيه من السموم ما يمرض أو يقتل, ومن هاهنا يعلم أنه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهل بحقيقة عواقبها...ورجاؤه التخلص من شرها بتوبةٍ أو عفوٍ أو غير ذلك...وقد لا يتمكن من التوبة, فإن من وقع في ذنب تجرأ عليه عمره, وهان عليه خوض الذنوب وعَسُرَ عليه الخلاص منها, ولهذا قيل:" من عقوبة الذنب: الذنب بعده.
وإذا قُدِّرَ أنه تاب منه فقد لا يتمكن من التوبة النصوح الخالصة التي تمحو أثره بالكلية, وإن قدر أنه تمكن من ذلك, فلا يقاوم اللذة الحاصلة بالمعصية ما في التوبة النصوح المشتملة على الندم والحزن والخوف والبكاء وتجشم الأعمال الصالحة, من الألم والمشقة, ولهذا قال الحسن: "ترك الذنب أيسر من طلب التوبة" ويكفى المذنب ما فاته في حال اشتغاله بالذنوب من الأعمال الصالحة التي كان يمكنه تحصيل الدرجات بها. وإن قُدِّر أنه عفي عنه من غير توبة فإن كان ذلك بسبب أمر مكفر عنه كالمصائب الدنيوية, وفتنة القبر, وأهوال البرزخ, وأهوال الموقف, ونحو ذلك, فلا يستريب عاقل أن ما في هذه الأمور من الآلام والشدائد أضعاف أضعاف ما حصل في المعصية من اللذة. وإن عُفي عنه بغير سبب من هذه الأسباب المكفرة ونحوها فإنه لا بد أن يلحقه عقوبات كثيرة منها: ما فاته من ثواب المحسنين, فإن الله تعالى وإن عفا عن المذنب فلا يجعله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات, ومنها: ما يلحقه من الخجل والحياء من الله عز وجل عند عرضه عليه وتقريره بأعماله.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: