كرامة الشهداء في سبيل الله تعالى

منذ 2022-03-07

ثم إن الشهيد من أهل الجنة ، وقد رأى مقعده منها يوم جاد بروحه في سبيل الله ، يدخلها بصحبة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ..

أيها الإخوة الكرام : كل شيء في هذه الحياة الدنيا درجات ، العلم درجات ، الصحة درجات ، الوجاهة درجات ، فصاحة اللسان درجات قال الحكيم العليم سبحانه  { نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ

الأرزاق بين الناس على درجات ، وأحساب الناس وأنسابهم على درجات {نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

حتى ما وقر في القلوب من الإحسان والإخلاص والإيمان على درجات ، وأحوال الناس قربا من الله تعالى أيضاً على درجات..

{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَٰتٍ ۚ

أرفع الناس درجة ، وأشرف الناس منزلة هم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء والصالحون ..

أخذ الله عز وجل العهد على نفسه أن يباركهم وأن يظهر للناس شرفهم ورفعتهم  { وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ

أما الأنبياء : فيظهر الله على أيديهم المعجزات .. والمعجزة أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد نبي تصديقاً له في دعوى النبوة وتأييدا له ومصحوبا بالتحدي ..

كالنار التي جعلت بردا وسلاما على ابراهيم عليه السلام ، والعصا التي قلبت حية تسعى بين يدي موسي عليه السلام ، وكالقمر الذي انشق نصفين تصديقاً للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ..

وأما الصديقون والشهداء والصالحون فيظهر الله شرفهم وبركتهم بالكرامات.. والكرامة أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد صالح من الصالحين أو يجريها الله تعالى على يد صالحة من الصالحات إظهارا للفضل والشرف وعلو الدرجة عند الله تعالى ..

قال الله تعالى في شأن مريم {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  كان يرى طعام الصيف يأتيها في الشتاء ، وطعام الشتاء يأتيها في الصيف وهذه كرامة ظاهرة لمريم عليها السلام ..

وقال في شأن فتية الكهف قال الله تعالى {وَلَبِثُوا۟ فِى كَهْفِهِمْ ثَلَٰثَ مِا۟ئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُوا۟ تِسْعًا } لبثوا في الكهف نياما لم تفارقهم أرواحهم ولم تتيبس أجسادهم ثلاثة مائة سنين وازدادوا تسع سنين وهذه أيضاً كرامة لهم

وقد ثبتت كرامات لأبي بكر منها ( تكثير طعام ضيوفه ) ، وكرامات لعمر رضي الله عنه منها ( نداؤه .. يا سارية الجبل الجبل )، وكرامات للعباس رضي الله عنه منها ( الاستسقاء بدعواته ) وكرامات لسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مع الأسد الذي لم يتعرض له)

وإذا كنا اليوم نتحدث عن منزلة الشهداء فأود أن أقف بكم على كرامة جعلها الله تعالى لشهيد من الشهداء إكراما له وتشريفا له ..

إنه عاصم بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه ..

عاصم بن ثابت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد بدرا ثم شهد أحداً مع رسول الله وأبلى فيها بلاء حسناً

لما كان يوم أحد خرجت العقائل من نساء قريش ليحرضن الرجال على القتال وكان في جملة من خرجن ( سلافة بنت سعد ومعها زوجها طلحة وأولادها الثلاثة ( مسافع وجلاس وكلاب ) ولما التقى الجمعان عند (أحد ) وكان من أمرها ما كان ، فلما وضعت الحرب أوزارها قامت نساء قريش مزغردات وأخذن يقطعن آذان الشهداء من المسلمين وأنوفهم ..

لكن سلافة بنت سعد كان لها شأن آخر غير شأن أترابها من نساء قريش ..

وقفت تنتظر عودة زوجها وأولادها لتكتمل فرحتها .. لكن طال انتظارها ولم يرجع أحد ..

فجعلت تمشي بين القتلى تبحث عن زوجها وأولادها ، فإذا بها تمر وزوجها مدرج بدماءه فجعلت تسعي في ساحة القتال كالمذعورة تبحث عن أولادها ( مسافع وجلاس وكلاب ) فإذا بهم ممددين على سفوح أحد ولم يكن بأحدهم رمق إلا بجلاس فأكبت عليه فجعلت رأسه في حجرها وجعلت تمسح الدم عن وجهه وفمه وقد جف الدمع من عينيها من هول ما رأت ، فأقبلت عليه وهى تقول من صرعك يا بني ؟

فهم أن يجيبها لكن حشرجة الموت منعته ، فألحت عليه من صرعك يا بني ؟

قال صرعني عاصم بن ثابت وصرع أخواي مسافعا وكلابا .. ثم فارق الحياة ..

جن جنون سلافة بنت سعد وجعلت تقسم باللات والعزى ألا تهدأ لها لوعة إلا إذا ثأرت لها قريش من عاصم بن ثابت وأعطتها قحف رأسه لتشرب فيه الخمر ..

ثم نذرت لمن يأسره أو يقتله ويأتيها برأسه أن تعطيه ما شاء من مال ..

فشاع خبر نذرها في قريش وتمني كل شاب لو ظفر بعاصم بن ثابت ..

وعاد المسلمون إلى المدينة بعد أحد وجعلوا يتذاكرون المعركة وما كان فيها فيترحمون على الأبطال الذين استشهدوا أمثال مصعب وحمزة وعبد الله بن حرام ويتفاخرون بالبواسل الذين صبروا وجالدوا حتى أتى حديثهم على عاصم بن ثابت وعجبوا كيف اتفق له أن يردي ثلاثة إخوة من بيت واحد في جملة من أرداهم فقال قائل منهم وهل في ذلك من عجب ؟

أفلا تذكرون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألنا قبيل بدر كيف تقاتلون ؟

فقام له عاصم بن ثابت وأخذ قوسه وقال إذا كان القوم قريبا مني مائة ذراع كان الرمي بالسهام فإذا دنوا حتى تنالهم الرماح كانت المداعسة حتى تتقصف الرماح فإذا تقصفت الرماح وضعناها وأخذنا السيوف وكانت المجالدة ..

فقال عليه الصلاة والسلام هكذا الحرب !! من قاتل فليقاتل كما يقاتل عاصم ..

لم يمض غير قليل على أحد ويبعث رسول بعثا يكون له ( عينا ) في بضعة نفر أمر عليهم عاصم بن ثابت..

فانطلقوا حتى كانوا بين ( عسفان ومكة ) ذكروا لحي من ( هذيل) يقال لهم ( بنو لحيان ) فتبعوهم بقريب من مائة رجل واقتفوا آثارهم حتى أدركوهم فارتقى عاصم وصحبه ربوة من الأرض ..

فقال بنو لحيان لو نزلتم وسلمتم لنا فلكم علينا ألا نقتل منكم أحدا ولكم على ذلك عهد الله وميثاقه والله ما نريد إلا أن نصيب بكم من قريشا حاجة ..

أما عاصم فقال أما أنا فوالله لا أقبل من مشرك عهدا ولا عقداً ثم استل سيفه وجرده وقال اللهم أخبر عنا رسولك اللهم احم لحمي وعظمي فلا تظفر بهما عدوا أبداً..

وكان قد نذر ألا يمسه مشرك ما دام حيا ، ولا يمس مشركا ،

ثم نزل وصحبه يجالدون بني لحيان بسيوفهم حتى قتل هو وأصحابه شهداء في سبيل الله ..

ولما أرادت بنو لحيان أن يأخذوا رأس عاصم فيبيعوه على الموتورين من قريش الذين نذروا أن يشربوا الخمر في قحف رأسه فوجئوا بجنود لا قبل لهم بها ..

أسراب من النحل والدبر والزنابير أحاطت به من كل جانب ، كلما اقتربوا من عاصم يريدون رأسه طارت النحل والدبر والزنابير في وجوههم فلدغتهم في أعينهم وجباههم وكل موضع منهم ..

فقال بنو لحيان دعوه الى الليل فإن النحل يهدأ بالليل ..

فلما كان الغروب أتت السماء بماء منهمر وسال الوادي فحمل السيل عاصما فذهب به إلى حيث لا يعلمون ..

وهذه كرامة عظيمة لعاصم بن ثابت الشهيد في سبيل الله حفظ الله فحفظه الله ، ونصر الله فنصره الله ..

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح أحوالنا وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها ..

الخطبة الثانية..

بقي لنا في ختام الحديث عن كرامة الشهداء عند الله تعالى .. بقي لنا أن نقول:

إن إكرام الله تعالى الشهداء في سبيله ليس فقط في دار الدنيا بغفران الذنوب وستر العيوب ورضا علام الغيوب، وليس فقط في دار البرزخ حين يرى الشهيد مقعده من الجنة ، بل تمتد كرامة الشهداء لتشمل دار الدنيا ودار البرزخ والدار الآخرة ..

يحشر الشهداء يوم القيامة وقد أمنوا من الفزع الأكبر ، وعلى رأس الواحد منهم تاج الوقار الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها ..

الشهداء في سبيل الله تعالى يحشرون يوم القيامة على ما ماتوا عليه .. جروحهم لم تزل تنزف اللون لون الدم والريح ريح المسك ..

وإذا كان رب العالمين سبحانه وتعالى يأذن للأنبياء بالشفاعة فإنه سبحانه يأذن الشهداء أيضاً أن يشفعوا فيشفع كل شهيد في سبعين من أهل بيته ، وهذا معناه أن من قدم في سبيل الله شهيدا فإنما قدم شفيعا مرضية شفاعته ..

ثم إن الشهيد من أهل الجنة ، وقد رأى مقعده منها يوم جاد بروحه في سبيل الله ، يدخلها بصحبة الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ..

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعافينا في الدنيا والآخرة وأن يحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير ..

محمد سيد حسين عبد الواحد

إمام وخطيب ومدرس أول.

  • 6
  • 0
  • 6,416

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً