المحكمات في التعامل مع المخالف

منذ 2022-03-22

جاءتِ الشَّريعة الإسلامية بالدَّعوة إلى التمسُّك بالجماعة، وذم التفرق والاختلاف غير السائغ، وقد وردت نصوص كثيرة في الشرع تأمر بالاتفاق وتنبذ الافتراق...

تمهيد:

جاءتِ الشَّريعة الإسلامية بالدَّعوة إلى التمسُّك بالجماعة، وذم التفرق والاختلاف غير السائغ، وقد وردت نصوص كثيرة في الشرع تأمر بالاتفاق وتنبذ الافتراق منها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وغير ذلك من النصوص الشرعية التي تؤكد على قيمة الاجتماع على الحق وعدم الاختلاف فيه.

 

ومع ذلك فإنَّ الاختلاف أمرٌ كوني واقعٌ لا يملك الإنسان دفعه وإنما يملك التعامل معه بالمحكمات الشرعية حتى لا تكون هذه الخلافات مصدر ضعفٍ للأمة الإسلاميَّة وحضارتها، يقول ابن تيمية رحمه الله مبينًا وقوع الاختلاف حتمًا: ثم قد يتنازع هؤلاء في بعض المسائل، فإن هذا أمرٌ لابد منه في العالم، والنَّبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأنَّ هذا لابد من وقوعه[1]، ويؤكِّد ابن تيمية رحمه الله بأنَّ الوجود الإنساني لا يمكن أن يستمر إلا بوجود الاختلاف لأنَّه من لوازم البشرية، يقول: لا بدَّ أن تقع الذنوب من هذه الأمَّة ولا بد أن يختلفوا فإنَّ هذا من لوازم الطبع البشري، لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك، ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلًا على نقصها، بل هي أفضل الأمم، وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية[2].

 

ووقوع الاختلاف وحتميَّته لا يعني مدحه وطلبه، وإنما نبين ضرورة وقوعه حتى يعرف المسلم طريقة التعامل معه ومع المخالفين وفق مراد الله ورسوله حتى لا يكون هذا الاختلاف كوَّةً في جدار الجماعة المسلمة ينفذ منها ما يضرها ويسوؤها، وحتى لا نكون كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، فيعرف المسلم أن الاختلاف لا بد من وقوعه فيبعد نفسه وأهله ومن يستطيع عن الاختلاف المذموم، يقول ابن تيمية رحمه الله مبينًا علة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في أمته: وهذا المعنى محفوظٌ من النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها للأمة، وكان يحذر أمته لينجو من يشاء الله له السلامة[3].

 

فإذا عرف المسلم ذلك استطاع أن يتعامل مع الاختلاف بنُضج، واستطاع أن يتعامل مع الاختلاف والمخالفين وفق المحكمات الشرعية، ففي الشريعة محكمات عديدةٌ تتعلق بالتعامل مع الاختلاف والمخالفين، والتي متى ما تعاملنا بها مع المخالفين استطعنا أن نفعِّل مقاصد الشريعة الإسلامية وأن يكون تعاملنا هذ مصدر قوة وعزة للإسلام والمسلمين، ومن أهم هذه المحكمات التي تتعلق بالتعامل مع المخالفين ما يلي:

 

أولًا: العدل والإنصاف:

العدل والإنصاف محكمة من محكمات الدين الإسلامي، وهما أكثر ما يدل على إخلاص الإنسان، وإرادته الخير للمخالف، فالمسلم ليس همه أن ينتصر في الخلافات أو يرتفع شأنه ويظهر قوله، وإنما همه: الوصول إلى الحق.

 

والله سبحانه وتعالى قد دعى إلى العدل كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] وهو من المحكمات المطلقة في الدين، فالدين قائمٌ على العدل بين الناس، ويظهر هذا في التعامل مع المخالف في عدد من المظاهر من أهمها: عدم تقويل المخالف مالم يقله، وعد تحميل كلامه ما لا يحتمله، وعدم إلزامه بما لا يلتزمه، وعدم إنكار حسناته من أجل سيئاته، وفي هذا يقول الله سبحانه وتعالى في أمر محكم يبين طريقة التعامل مع المخالف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، فأمر الله بالعدل حتى مع المخالف الذي قد ينازع ويخالف ويظلم، فلا نبادل ظلمه بظلم، ولا جوره بجور.

 

وهذا الأمر المحكم في التَّعامل مع المخالف كان عليه الصحابة الكرام، يقول عبدالله بن رواحة لليهود: يا معشر اليهود، أنتم أبغض الخلق إلي، قتلتم أنبياء الله عز وجل، وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم على أن أحيف عليكم[4]، فلا يصح للإنسان أن يجور على أحد أو يظلمه حتى لو كان المخالف يتصف بالظلم والجور، والبغض للمخالف لأي سببٍ كان لا يدعو إلى ظلمه وعدم إنصافه، يقول ابن عبدالبر: المؤمن وإن أبغض في الله لا يحمله بغضه على ظلم من أبغضه[5].

 

 

كما أنَّه من العدل: أنَّ المحسن لا تسقط حسناته لمجرد اختلافنا معه، أو لخطئه في أمور، فإن الإنسان قد يكون محسنًا ومسيئًا في ذات الوقت، وما أحوجنا إلى تفعيل هذه المحكمة في التعامل، فإن من عرف أن الإنسان تكون له حسنات وسيئات دعاه ذلك إلى الإعذار؛ خاصة للعلماء، فالتعامل بالعدل يضيق الخلاف ويردم الهوَّة التي قد نصنعها بسبب الظلم والجور في تعاملاتنا، وفي بيان هذه الحقيقة يقول ابن تيمية رحمه الله: ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبَّه ووالاه وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أنَّ الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويذم، ويثاب ويُعاقب، ويُحب من وجه ويُبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم[6].

 

 

ومن العدل مع المخالف: التثبت قبل الإنكار، والتثبت صفة من صفات الموقنين من المؤمنين كما في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، يقول الطبري رحمه الله في هذه الآية: وخص الله بذلك القوم الذين يوقنون؛ لأنهم أهل التثبت في الأمور، والطالبون معرفة حقائق الأشياء على يقين وصحة[7].

 

وقد أمر الله بالتثبت فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فالتثبت مطلب شرعي خاصة عند التعامل مع المخالفين أو الحكم عليهم وهو عين العدل والإنصاف.

 

ثانيًا: إحسان الظن:

من أهمِّ المحكمات الشرعية لحفظ الجماعة وصونها عن الافتراق والاختلاف: حسن الظن بالآخرين؛ خاصة بمن نختلف معهم، فإنَّ حسن الظن هو الذي يحفظ الإنسان من التبديع أو التفسيق أو الجور على المخالف بغير حق، وقد أمرت الشريعة باجتناب كثيرٍ من الظن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، فإحسان الظن بالمخالف مما يقلل الفجوة بين المتخالفين، ولذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «إياكم والظَّن فإن الظن أكذب الحديث» [8]، ربطَ ذلك بالألفة والمودَّة؛ حيث قال في آخر الحديث:  «وكونوا عباد الله إخوانًا» [9]، فدلَّ على أن سوء الظَّن يؤدِّي إلى قطع هذه الأخوَّة بين المسلمين.

 

وقد كان الصحابة الكرام يُعملون هذه المحكمة في تعاملهم مع الناس وكذا السلف الصالح ممن تبعوهم بإحسان، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولا تظننَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملًا[10]، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من علم من أخيه مروءة جميلة، فلا يسمعن فيه مقالات الرجال، ومن حسنت علانيته فنحن لسريرته أرجى[11]، وقال سعيد بن المسيب: كتب إلي بعضُ إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمةٍ خرجت من امرئ مسلم شرًّا وأنت تجد له في الخير محملًا[12].

 

وهذا عند التعامل مع الناس عمومًا وعند التعامل مع المخالفين بالخصوص، خاصة من نعلم أنه في الأصل يريد الخير لكنه زلَّ في مسألة، أو من كان عالِمًا لم يخالف في الأصول والمنهج وإنما في بعض المسائل الفرعية، أو من كان له كلام في كتبه خالفه في موضع واحد بما يُفهم منه فهمًا سيئًا، كل هؤلاء ينبغي أن نقدم حسن الظن بهم على الظن السيء، وأن نحمل كلامهم على ما أرادوه لا على ما يلزم من كلامهم من اللوازم الباطلة إلا في حالات وبضوابط معلومة.

 

ثالثًا: اللين والرفق مع المخالف:

الدعوة إلى الله إن كان برفقٍ ولينٍ أدى إلى قبول المخالف للحق والإذعان له أو الاستماع إليه، والرفق من محكمات الشريعة كما في قوله عليه الصلاة والسلام: فإنَّ الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه[13]، وينبغي التعامل به مع المخالف نظرًا لكون تعاملنا معه إنما هو لإرادة الخير له وليس لمجرد الخلاف والشقاق، فإن هذا منهي عنه في الشرع.

 

وقد كان السلف الصالح على هذا الخلق العظيم وعلى هذه المحكمة من محكمات الدين عند تعاملهم مع الناس عامة والمخالفين خاصة، فعملوا بهذه المحكمة عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كيف ينبغي أن يأمر؟ قال: يأمر بالرِّفق والخضوع، ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد ينتصر لنفسه[14]، وقال أيضًا: الناسُ محتاجون إلى مداراةٍ ورفقٍ في الأمر بالمعروف بلا غِلظةٍ، إلا رجل معلن بالفسق فلا حُرمَةَ له، قال: وكان أصحابُ ابن مسعود إذا مرُّوا بقومٍ يرون منهم ما يكرهون يقولون: مهلًا رحمكم الله، مهلاً رحمكم الله [15]، وقال سفيان الثوري رحمه الله: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيقٌ بما يأمر رفيقٌ بما ينهى، عدلٌ بما يأمر عدلٌ بما ينهى، عالمٌ بما يأمر عالمٌ بما ينهى[16].

 

ومن ثمرات الرفق مع المخالف:

1/ قبوله للحق، وإذعانه له.

2/ عدم عناده ومجادلته إن عرف الحق، وكم من إنسان قد نفر عن الحق فعاند أو جادل لأن من دعاه أو حاوره كان فظًّا، ولذا قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما تعامل بالرفق مع مخالفيه، فهذا عليه الصلاة والسلام بعد أن طُرد وأوذي جاءه ملك الجبال يقول: يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا» [17].

 

بل أمر الله موسى وهارون عليهما السلام أن يعملا بالرفق واللين مع من تجبر على الله وأراد أن يلبس رداء الألوهية أمام الناس وهو فرعون، فقال الله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، بل هذا الداعية إلى الله ومن يقرب الناس إلى الحق ويسوقهم إليه أمره الله بالحسنى فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

 

رابعًا: إرادة الخير له:

مهما كان خلافنا مع الآخر، فإنه يجب علينا أن نريد الخير له، وأن نرده إلى الحق، ولذلك حاول النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث وعشرين سنة يدعو إلى الله بشتى الطرق حتى يوجه الناس إلى جادة الطريق، وإلى السبيل المرضي عنه، ورغم شدة عداوة البعض للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يدعوهم، ويبين لهم الحق، ويروي قلوبهم بقراءة القرآن عليهم، كل هذا حتى يردهم إلى الحق ردًّا جميلًا؛ لأن هدفه عليه الصلاة والسلام ليس الدعوة إلى آرائه الشخصية وإنما إلى كلام الله ووحيه، وعلى هذا ينبغي أن يكون المسلمون كلهم.

 

خامسًا: اعتبار درجة الخلاف:

ممَّا ينبغي مراعاته عند التعامل مع المخالفين أن نراعي درجة الخلاف بيننا وبينهم، فالخلاف في القطعيات وأصول الدين ليس كالخلاف في فروعه، والخلاف في الفروع التي عليها أدلة ظاهرة ليس كالخلاف في المسائل الاجتهادية التي تتنازعها الأدلة أو ليس فيها دليل صريح، بل التعامل مع المخالف الكافر ليس كالتعامل مع المخالف المسلم، فالأول هناك ضوابط في الشرع في التعامل معه والآخر له ضوابط أخرى.

 

فالمسلم لا ينبغي له أن يجعل كل مخالفيه على درجة واحدة في التعامل معهم، فالمخالف في القطعيات ينكر عليه، ويبيِّن له خطأه، وقد يغلظ عليه، ويتشدد معه، خاصة إذا كان مخالفًا ببدعة ظهر وشاعت وكان رأسًا فيها أو داعيًا إليها، فما مرَّ بنا ذكره من اللين والرفق لا شك أنه محكمة من محكمات الدين في موضعه، أما في غير موضعه فتستحسن أمور أخرى، وكل ذلك يظهر لمن راعى درجة الخلاف.

 

أما المخالف في المسائل الاجتهادية، فإن هذا يتباحث معه علميًّا ولا يصح التشديد عليه، ولا تغليظ الكلام فيه، بل مما شاع عند العلماء أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، يقول ابن تيمية رحمه الله: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه إذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلَّد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين[18].

 

وقال ابن مفلح: ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهدًا فيه[19]، فالأمر دائر في هذه المسائل بين أن يجتهد فيها الإنسان إن كان أهلًا أو يقلد أحد المجتهدين.

 

ولا شك أن من ثمرات ذلك: تأليفُ القلوب وجمعها، وكل تعامل مع المخالف يقرب إلى الحق ويجعله مع الجماعة لا منابذا لها فهو مأمور به ما لم يخالف الشرع، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفهمون هذا المغزى جيدًا ويراعونه، ومن ذلك ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: صلى عثمان بمنًى أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين - زاد عن حفص - ومع عثمان صدرًا من إمارته ثم أتَمَّها - زاد من ها هنا عن أبي معاوية - ثم تفرَّقت بكم الطرق، فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين؛ قال الأعمش: فحدثني معاوية بن قرة عن أشياخه أن عبد الله صلى أربعًا، قال: فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعًا، قال: الخلاف شر[20].

 

فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يرى غير هذا الرأي لكن مع ذلك يصلي معهم خوفًا من الخلاف وطلبًا لحفظ جماعة المسلمين، وهذا مما يجب على المسلمين عمومًا والدعاة خصوصا أن يفقهوه، فإنَّ تأليف القلوب نعمة عظيمةٌ من الله، فلا ينبغي تنفير قلوب المسلمين من أجل خلافاتٍ بسيطة في المستحبات والمكروهات.

 

ولا يعني هذا أن كل المسائل الخلافية لا إنكار فيها، بل هذا خطأ يستغله البعض في تمرير مشاريع مخالفة للروح الإسلامي ولشريعته، كما يتخذه البعض حجة في الأخذ بأي قولٍ يشاؤه أو يهواه، وهذا مجانب للصواب، بل عدم الإنكار يكون في المسائل الاجتهادية التي لا دليل فيها أو لها أدلة عامة ليست صريحة ونحو ذلك، وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله: فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع، فيقال: لم تمنع والمسألة مختلف فيها؟ فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرَّد كونها مختلفًا فيها، لا لدليلٍ يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطأ على الشريعة[21].

ويقول ابن تيمية رحمه الله: وقولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإنَّ الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القول بالحكم أو العمل، أمَّا الأول فإذا كان القول يخالف سنةً أو إجماعًا قديمًا وجب إنكاره وفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنَّه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد؛ وهم عامة السلف والفقهاء، وأمَّا العمل فإذا كان على خلاف سنةٍ أو إجماعٍ وجب إنكاره أيضًا بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء، وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنَّةٌ ولا إجماعٌ وللاجتهاد فيها مساغ لا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا[22].

 

وأخيرًا:

من راعى المحكمات في الدين عند تعامله مع المخالفين فقد حقق واحدًا من أعظم مقاصد الشريعة وهو: الاجتماع وعدم التفرق، وحبب الناس إلى الخير والحق، وكان تعامله مع المخالفين باعتبار قدر المسائل التي خالفوا فيها، ولا ش أنَّ هذا يقلِّل كثيرًا من الخلافات الموجودة، أو يقلل من آثارها.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين

 

________________________________________________________

المراجع:

1- الآداب الشرعية والمنح المرعية، لمحمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الراميني ثم الصالحي الحنبلي، الناشر: عالم الكتب.

2- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، لمحمد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، الناشر: المكتب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الثانية 1405 هـ - 1985م.

3- اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي. المحقق: ناصر عبد الكريم العقل، الناشر: دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، الطبعة: السابعة، 1419هـ - 1999م.

4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخَلَّال البغدادي الحنبلي، تحقيق: الدكتور يحيى مراد، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1424 هـ - 2003 م.

5- تفسير الطبري (جامع البيان في تأويل القرآن)، لمحمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م.

6- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري. تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي، محمد عبد الكبير البكري، الناشر: وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، عام النشر: 1387 هـ.

7- جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، تحقيق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، 1424 هـ - 2004 م.

8- سنن أبي داود، لأبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني؛ المحقق: شعَيب الأرنؤوط - محَمَّد كامِل قره بللي، الناشر: دار الرسالة العالمية، الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م.

9- شرح صحيح البخاري، لابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد - السعودية، الرياض، الطبعة: الثانية، 1423هـ - 2003م.

10- شعب الإيمان، لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، حققه وراجع نصوصه وخرج أحاديثه: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، أشرف على تحقيقه وتخريج أحاديثه: مختار أحمد الندوي، صاحب الدار السلفية ببومباي – الهند، الناشر: مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، الطبعة: الأولى، 1423هـ - 2003م.

11- صحيح البخاري (الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه)، لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

12- صحيح مسلم (المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لمسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت

13- مسند الإمام أحمد بن حنبل، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م.

14- الفتاوى الكبرى لابن تيمية لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، الناشر: دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1408هـ - 1987م.

15- الفرق بين النصيحة والتعيير، لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، علق عليه وخرج أحاديثه: علي حسن علي عبد الحميد، الناشر: دار عمار، عمان، الطبعة: الثانية، 1409 هـ - 1988 م.

16- مجموع الفتاوى، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/ 1995م.

17- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: محمد رشاد سالم، الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1406 هـ - 1986 م.

18- الموافقات، لإبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، الناشر: دار ابن عفان، الطبعة: الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

 


[1] مجموع الفتاوى (20/ 167).

[2] مجموع الفتاوى (4/ 150- 151).

[3] اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ص: 134).

[4] أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (14953)، وقال عنه شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم. وقال عنه الألباني في إرواء الغليل (3/ 281): وهذا سند صحيح على شرط مسلم.

[5] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 140).

[6] منهاج السنة (4/ 271).

[7] تفسير الطبري (2/ 557).

[8] أخرجه البخاري برقم (5143) ومسلم برقم (2563).

[9] الحديث السابق نفسه.

[10] نقلا عن ابن رجب الحنبلي في كتابه: الفرق بين النصيحة والتعيير (ص: 7).

[11] شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 261).

[12] شعب الإيمان (10/ 560).

[13] أخرجه مسلم برقم (2594).

[14] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص: 28).

[15] جامع العلوم والحكم (3/ 963).

[16] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال (ص: 28).

[17] أخرجه البخاري برقم (3231) ومسلم برقم (1795).

[18] مجموع الفتاوى (20/ 207).

[19] الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 166).

[20] سنن أبي داود برقم (1960).

[21] الموافقات (5/ 93).

[22] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 96).

إبراهيم محمد صديق ( الأراكاني )

باحت شرعي وداعية من أراكان

  • 0
  • 0
  • 2,150

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً