ما نفقد من الحسنات بالتأخر عن الصلوات

منذ 2022-04-18

أيها المصلي المتأخر عن صلاة الجماعة، أتدري ما الذي فقدتَ بتأخُّرك عن الصلاة؟ لو أنك فقدت مالًا ومتاعًا من متاع الدنيا الزائل، لكنت تحسرت على ذلك، وتألَّمت لفواته وضياعه، لكنك فقدت والله أغلى مما في الدنيا كلها، فقدت ما يتحسر المرء على فِقدانه حين يرجع إلى ربه

الحمد لله، هو أهلُ للحمد والثناء، له العظمةُ والقوة والكبرياء، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء الذين كانوا يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، أما بعد:

فلقد أمَر الله تعالى عباده المؤمنين بالمسارعة إلى الخير، فقال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وأثنى على المسارعين، وذكَر أنهم من أهل الخشية؛ فهي الباعث لهم على هذه المسارعة إلى الطاعة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]، همُّهم ما يقرِّبهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذابه، فكل خير سمعوا به، أو سنحت لهم الفرصة إليه، انتهزوه وبادروه؛ (تفسير السعدي).

 

وأما التكاسلُ والتقاعس عن الطاعة عمومًا، فدأب المنافقين، فأَربأُ بك - أيها المؤمن الفطن - أن تتصف بصفاتهم القبيحة، فالله يقول عنهم: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، فَثَبَّطَ عَزَائِمَهُمْ وَهِمَمَهُمْ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ، وَأَمَرَ قُلُوبَهُمْ أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا: أَنْ تَقْعُدَ مَعَ الْقَاعِدِينَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ السَّعْيِ إِلَى مَحَابِّهِ؛ (مدارج السالكين).

 

وفي شأن الصلاة خاصة ذكر الله من صفات المنافقين تكاسُلهم عنها: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142]، {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، وفي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا»؛ (رواه مسلم).

 

وأما المؤمن فمسابقٌ إلى الطاعات، مسارعٌ في الخيرات، يدفعه شوقه إلى لقاء مولاه دفعًا، قد استحضر ثواب الطاعة، وأمل أن يكون من أهلها، ولسان حاله وفعاله: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].

 

إن أمر الصلاة عظيم، وفضلها كبير، ومَنْ كان معظمًا للصلاة سارع مشتاقًا إليها، محبًّا لها، ولسان حاله قول عدي بن حاتم: ما جاء وقت الصلاة إلا وأنا إليها بالأشواق، يبكِّر إلى المساجد للقاء مولاه؛ كي يحظى بالأجور العظيمة، وهذا كان دأب سلفنا الصالح، قال سعيد بن المسيَّب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد، وقال ربيعة بن يزيد: ما أذن المؤذن لصلاة الظهر منذ أربعين سنة إلا وأنا في المسجد إلا أن أكون مريضًا أو مسافرًا، وقال سفيان بن عيينة: لا تكن مثلَ عبد السوء لا يأتي حتى يُدعى، ائتِ الصلاة قبل النداء.

 

وحرصُ السلف الصالح على التبكير إلى المساجد لأداء الصلاة نابعٌ من تعظيمهم لها، فلا شيء من أمور الدنيا وملذاتها يُمكن أن يعدِلها عندهم مهما غلت قيمته، قال ميمون بن مهران: لَفضلُ هذه الصلاة أحبُّ إليَّ من ولاية العراق.

 

تلك منزلة الصلاة عند الصالحين من سلف هذه الأمة، فما منزلتها في قلوبنا؟ هل هي معظمة في قلوبنا كما ينبغي أن تُعظَّم؟ أم أنَّ حال كثيرٍ منا ينطبق عليه قول المولى –سبحانه -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، فالمساجد عند إقامة الصلاة في زماننا خالية من المصلين إلا قليلًا، تقام الصلاة ويصطف مع الإمام صفٌّ أو صفان، وربما لا يكتمل صف واحد في بعض المساجد، فإذا سلَّم الإمام وأقبل على المصلين بوجهه رأى صفوفًا من المتأخرين يقومون لإكمال ما فاتَهم منها مع الجماعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

وللأسف فإن هذا المنظر يتكرر مع كل صلاة، والملاحظ أن الذين يتأخرون هم أنفسهم مَن يتأخرون كلَّ مرة، أي: إنهم تلك الوجوه التي تأخرت عن الصلاة التي قبلها، يكونون دومًا هم آخر الناس لحاقًا بالصلاة، وأولهم انصرافًا من المسجد، متأخرين عنها مسابقين للانصراف منها، لقد اعتادوا التأخر عن صلاة الجماعة، وعن التبكير إلى المساجد، وأصبح لهم ذلك عادة يواظبون عليها، غير مبالين بما يفوتهم من الأجر العظيم، والثواب الجزيل؛ إما جهلًا بذلك، وإما تقصيرًا وتفطيرًا، وكسلًا وإهمالًا.

 

أيها المصلي المتأخر عن صلاة الجماعة، أتدري ما الذي فقدتَ بتأخُّرك عن الصلاة؟ لو أنك فقدت مالًا ومتاعًا من متاع الدنيا الزائل، لكنت تحسرت على ذلك، وتألَّمت لفواته وضياعه، لكنك فقدت والله أغلى مما في الدنيا كلها، فقدت ما يتحسر المرء على فِقدانه حين يرجع إلى ربه، فيرى من سبقه من إخوانه بالدرجات العلا، والنعيم المقيم، لقد فقدت ما يكون عليه مدار الحساب والفوز والخسارة، فقدت الحسنات الكبيرة، والأجور العظيمة، والدرجات الرفيعة، ولا أراك لذلك تهتم، ولا لخسارتك تغتم، وأنت يوم القيامة معرَّضٌ للحسرة والندم، وهذا والله من ضعف الإيمان، وغشيان الران، وعظيم الغفلة، وتبلُّد الإحساس بعِظَمِ الفقد والخسارة!

 

وأخشى عليك أن تعظُم مصيبتك، وتستمر بليَّتُك، إلى أن تأتيك منيتُك، وأنت في هذا الحال لا تشعر بما تفقد من الحسنات العظيمة، وتلك الحسنات المفقودة هي غاية أمنية الموتى، تأمل ما جاء عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرٍ دُفِنَ حَدِيثًا، فَقَالَ: «رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ مِمَّا تَحْقِرُونَ وَتَنْفِلُونَ، يَزِيدُهُمَا هَذَا فِي عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ بَقِيَّةِ دُنْيَاكُمْ»؛ (صححه الألباني).

 

يا فاقد الحسنات بتأخرك عن الصلوات، أصغِ إليَّ بقلبك؛ لتعلم ما فقدت من الأجور حين تأخرت عن إدراك الجماعة مع الإمام من أول تكبيرة الإحرام، إذ بتفريطك بهذه التكبيرة حُرمت خيرًا كثيرًا، فقد ورد من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى لِلَّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى، كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ»؛ (رواه الترمذي)، وجاء عن مجاهد قال: سمعت رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا، قال لابنه: أدركت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: أدركت التكبيرة الأولى؟ قال: لا، قال: لَمَا فاتك منها خير من مائة ناقة كلها سود العين؛ (مصنف عبد الرزاق)، وقد شدَّد السلف النكير على من دأبه تضييع تكبيرة الإحرام مع إمامه حتى إبراهيم التيمي: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه؛ يعني: أنه لا خير فيه.

 

ومما تفقد من الحسنات أجرُ انتظارك للصلاة حتى تقام، فدخولك إلى المسجد قبل الإقامة ومكثك فيه، كله أجرٌ وحسنات، قال عليه الصلاة والسلام: «لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَ الصَّلاَةُ»؛ (متفق عليه)، وفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَضْلَ مُنْتَظَرِ الصَّلَاةِ كَفَضْلِ الْمُصَلِّي؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ... لَمْ يُرِدْ به أن ينتظر الصلاة قائم، وَلَا أَنَّهُ رَاكِعٌ وَسَاجِدٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ فَضْلَ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بِالْقَصْدِ إِلَى ذَلِكَ وَبِالنِّيَّةِ فِيهِ؛ (ابن عبد البر/ التمهيد)، فتلك الدقائق تكتب لك صلاة متواصلة، إنها لنعمة عظيمة إذا بقيت في المسجد منتظرًا للصلاة مدة طويلة، فإن هذا الوقت كله يحسب لك به أجر الصلاة.

 

وهناك أمرٌ آخر يفقده المتأخر عن صلاة الجماعة، ألا وهو دعاء الملائكة له بالرحمة والمغفرة، وكم نحن محتاجون لهذا الدعاء، قال عليه الصلاة والسلام: «الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَادَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، تَقُولُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ، مَا لَمْ يُحْدِثْ»؛ (متفق عليه).

 

وكلما طال انتظارُك للصلاة عظُم أجرك، وازداد من الحسنات رصيدك، حتى تنال أجرَ المجاهد المرابط في سبيل الله، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجاتِ» ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَى إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»؛ (رواه مسلم).

 

فيا لها من أجورٍ، كيف يفرِّط الواحد فيها؟! وهي سهلة المنال لمن وفقه الله لذلك، ومن عزم على إدراك ما فاته منها باستغلال ما بقي من عمره، ومن صدق مع الله، يسَّر الله أمره، وصرف عنه الشواغل والصوارف، والسعيد من استغل الفرص الثمينة، وعرف كيف يحصد الحسنات، كما يجمع أصحاب الدنيا الأموال، ويضاعفون الثروات.

 

يا عبد الله، عندما تجلس في المسجد تحصُد هذه الحسنات الكثيرة، والغنائم العظيمة الكبيرة، هناك حسناتٌ أخرى تضمها إلى جنب تلك الحسنات، فإذا اشتغلت بالعبادة تكسب حسنات تلك العبادة مع حسنات انتظار الصلاة، فإذا قرأت القرآن، وأشغلت لسانك بذكر الرحمن، وصليت على النبي عليه الصلاة والسلام تضاعف أجرك، فعن ابْن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» (رواه الترمذي)، فإن لم تجد وقتًا للجلوس لقراءة القرآن والذكر في المسجد، أتراك ستجده في البيت أو العمل أو وأنت جالس مع الأصدقاء في جلسات القيل والقال، وحديث الدنيا وأسمار الليالي؟!

 

ومما تفقد بتأخرك عن الصلوات: تفريطك بموطن من مواطن إجابة الدعاء، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدُّعَاءُ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ»؛ (رواه الترمذي وأبو داود، وصححه الألباني)، فادعُ الله في دقائق الانتظار الغالية تلك بما أحببت من خيري الدنيا والآخرة، وما من أحدٍ منا إلا وهو محتاج لربه، مفتقر إليه في شأنه كله، وهذا موطن من مواطن إجابة الدعاء، فلنحيي فيه هذه العبادة العظيمة.

 

ومما تفقد من الحسنات بتأخرك عن الصلوات، فِقدانُك أجر السنن الرواتب؛ لأن من لم يحرص على الصلاة المكتوبة لن يحرص على الصلاة المسنونة، ومن لحق الإمام وهو في الصلاة فوَّت على نفسه السنة القبلية لهذه الصلاة، وضاعت عليه حسنات تلك الصلاة المستحبة، فسنة الفجر مثلًا يُخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: «رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»؛ (رواه مسلم)، ومن اعتاد دخول المسجد بعد إقامة الصلاة فاته ذلك الثواب الكبير، وهذا ينطبق على جميع الصلوات، وإنك لن تجد متأخرًا عن الصلاة إلا وقد ضيَّع السنن الرواتب ولا بد.

 

ومن تكاسل عن هذه السنن فقد فوَّت على نفسه ما ثبت من فضلٍ عليها، فعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً كُلَّ يَوْمٍ تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»؛ (رواه مسلم)، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: مَا تَرَكْتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ عَنْبَسَةُ: مَا تَرَكْتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ عَمْرُو: مَا تَرَكْتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ النُّعْمَانُ: وَأَنَا مَا أَكَادُ أَنْ أَدَعُهُنَّ بَعْدُ، وهَؤلاءهم رواة هذا الحديث، فانظر إلى حرصهم ألا يفوتهم هذا الخير، وقسه بزماننا تعرف كثرة المفرِّطين في الحسنات، وقد ورد تفصيل هذه الصلوات المسنونات في رواية الترمذي والنسائي: «أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ»؛ (صحيح الترغيب).

 

ومما نفقد من الحسنات بسبب التأخر عن الصلوات، فِقدان أجر إدراك الصف الأول، وأصحاب الصف الأول هم أصحاب التميز من المصلين، قال صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَفِّ الأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا»؛ (متفق عليه)، وقوله: يستهموا؛ أي: يضربوا قرعة بينهم، وقال أيضًا: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِّ الأَوَّلِ»؛ (رواه النسائي وصححه الألباني).

 

أيها الأحبة، رغم أن إدراك الصف الأول متيسر في وقتنا هذا بكل سهولة، وليس كما كان من سنواتٍ خلت، فقد كان الصف الأول مكتظًّا بكبار السن، يسارعون إليه حين يسمعون نداء الصلاة، فلا تجد لك متسعًا حتى لو دخلت المسجد قُبيل الإقامة بدقائق، لكنَّ كثيرًا من أصحاب المسارعة إلى ذلك الصف قد رحلوا إلى الدار الآخرة، ولم يخلفهم من يقتدي بهم في المسابقة إلى الجماعات، فأصبحت المساجد خالية حتى عند إقامة الصلاة، وربما لا يكتمل الصف الأول إلا في الركعة الثانية، فهل من مشمِّرٍ لهذه الأجور العظيمة؟!

 

أيها المؤمنون، في يوم الجمعة يتأخر كثير من المسلمين عن الخطبة واستماع الخير، فيأتي أحدهم وقد صعد الخطيب المنبر، ويأتي آخرون في ختام الخطبة الثانية، ومنهم من يأتي وقد قامت الصلاة، وللأسف فإن هذا المشهد يتكرر كل جمعة، ومن نفس الأشخاص فقد اعتادوا على ذلك، وأصبح الأمر عندهم طبيعيًا، لا يشعرون بعظم ما يفقدون من الخير، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

 

ألا يعلم هؤلاء أن المتأخر يوم الجمعة يحرم من كتابة اسمه في صحف الملائكة؟! فما أعظم هذا الخسران! ففي الحديث المتفق عليه: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ الْمَلَائِكَةُ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ وَجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» ، وصحف الملائكة: هي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة؛ (فتح الباري)، ويا سبحان الله، كيف يرضى أقوامٌ ألا تذكر أسماؤهم في تلك الصحف المخصصة للمبكرين إلى المسجد؟!

 

أيها المؤمنون، ألا ترون الطوابير الصباحية في المدارس تبدأ وقد ازدحم الطلاب في الساحات؟! ألا ترون الموظفين يحرصون على عدم التأخر عن دوام العمل، ويسارعون في تسجيل أسمائهم في حافظة الدوام؟! وأما المهنيون وأصحاب الأعمال الحرة والتجارة، فإنهم يبكرون إلى أعمالهم دون تأخير، ومن تأخَّر نالته الملامة، وقد علم أنه كلما بكَّر في عمله بورك له في رزقه، فهلًا نسعى إلى طلب آخرتنا مسارعتنا إلى طلب دنيانا على الأقل!

 

عباد الله، لقد حثنا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على التبكير إلى الصلاة، فقال مرغِّبًا المؤمنين ومشوِّقًا لهم: وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، الاستباق التبكير، بِأَن يسْبق غَيره فِي الْحُضُور إِلَى الصَّلَاة؛ (عمدة القاري)، وبمقابل ذلك فإن التأخر عن الطاعة بشكل عام وعن الصلاة خاصة، أمرٌ جدُّ خطير، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَقَدَّمُوا فَأْتَمُّوا بِي، وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ اللَّهُ»؛ (رواه مسلم)؛ قال النووي: أَيْ عَنْ الصُّفُوف الْأُوَل، حَتَّى يُؤَخِّرهُمْ اللَّه تَعَالَى عَنْ رَحْمَته، أَوْ عَظِيم فَضْله، وَرَفْع الْمَنْزِلَة، وَعَنْ الْعِلْم وَنَحْو ذَلِكَ، قال الشوكاني: وفيه الحث على الكون في الصف الأول، والتنفير عن التأخر عنه؛ (نيل الأوطار)، قال الشيخ ابن عثيمين في معنى الحديث: وعلى هذا فيخشى على الإنسان إذا عوَّد نفسه التأخر في العبادة أن يبتلى بأن يؤخره الله عز وجل في جميع مواطن الخير؛ (فتاوى ابن عثيمين).

 

ومن هنا نُدرك لِمَ كان سلفنا الصالح أشدَّ الناس حرصًا على التبكير إلى المساجد، وحُزن أحدهم على فوات شيئًا من هذه الحسنات عليه إن تأخر عن الجماعة، ذلك أن أمور الدنيا ممكن أن تعوَّض، ولو ذهب شيء منها لم تكن مشكلة، فإنها زائلة فانية بالكلية، أما فقدُ هذه الحسنات فهو الخسارة الحقيقية التي لا يعوِّضها شيء، قال حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزَّاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين عندهم أهون من مصيبة الدنيا.

 

فالبدار البدارَ أيها الأحبة، فهذه أجورٌ عظيمة نفرِّط فيها، وبالإمكان أن نملأ بها ميزان حسناتنا، ولكن غلبت علينا الغفلة، وقيَّدنا عنها الكسل، وألهتنا عنها الشواغل والملهيات، نتأخر عن صلاة الجماعة بسبب مشاهدة برنامج تلفزيوني، أو جلسة دنيوية، أو لهوٍ ولعبٍ لا نفع فيه، ونفقد هذه الحسنات التي لن تعوَّض؛ لأن اليوم الذي ذهب لن يرجع، وقد ذهب حاملًا ما عملت كثيرًا كان أم قليلًا.

 

فلنتقِ الله في فوات هذه الغنائم، ولا أظن عاقلًا يقرأ هذه الأجور العظيمة المترتبة على التكبير إلى الصلاة، ثم يُصر على التأخر ويكون من أهل الفقد والخسارة، والله المستعان.

  • 4
  • 0
  • 3,902

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً