الغنيمة والربح في العشاء والصبح
قال رسول الله ﷺ يقول: «من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله».
عن عبدالرحمن بن أبي عمرة قال: دخل عثمان بن عفان رضي الله عنه المسجد بعد صلاة المغرب، فقعَد وحْدَه، فقعدْت إليه، فقال: يا بن أخي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة، فكأنما صلى الليل كله» (أخرجه مسلم في المساجد (1 / 454).
عبدالرَّحمن بن أبي عَمْرة هو الأنصاري النجاريُّ، يقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صُحبة، روى له الستة.
شرع لنا الباري - سبحانه وتعالى - فريضة الصلاة ليزيدنا من فضله وليتمَّ علينا نعمته، فهي خير معين، وعماد الدين، والصلة المتواصِلة برب العالمين.
فإذا أقيمت هذه الشعيرة وأدّاها المسلمون كما ارتضاها الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم فقد أفلحوا الفلاح المُبين، وكانت عليهم فتحًا مبينًا وثباتًا ويقينًا، ولم يخافوا بعدها ظلمًا ولا هضمًا.
وإذا تركت وضُيِّعتْ وتهاون المسلمون في القيام بها على الوجهة الصحيحة فقد حقَّت فيهم آية المعاتبة والفضيحة؛ قال - جل وعلا -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] فهو الغي والضلال والذلَّة والهوان.
ضلال وغيٌّ للأمة في كل مجال، ولن يصلح لها حال حتى تعود وتتبع في كل الأحوال آية: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور: 36، 37]، العودة إلى رحاب المساجد منبع الأنوار ومرتَع الأبرار وربح التجار.
والحديث بيان لفضل صلاة الجماعة، وهي من سنن الهدى، ولإقامتها أذن الله في رفع البنيان للمساجد وشرع الأذان الذي من نداءاته: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، يُنادي كلَّ مسلم للصلاة في اليوم والليلة خمس مرات، فهي عنوان فلاحِه في العاجلة والآجلة.
وخص النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء والصبح بالذكر لوقوعهما في وقت يتطلب المجاهَدة والصبر وقد تضيع إحدى الصلوات بسبب لذة نوم أو سهرة مع قوم.
والحديث كذلك بيان لفضل قيام الليل الذي قد يفوت على المسلم بسبب تعب أو مرض أو تهيُّؤ لعمل أو سفر، وغيرها من المشاغل التي قد تحول بين العبد والقيام؛ قال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20]، فمِن رأفة الله بعباده أن يسَّر عليهم أمور دينهم، وسهَّل لهم الظفر بثواب بعض العبادات التي قد تَفوتهم لأسباب طارئة، ومن بينها قيام الليل الذي هو دأب الصالحين وقرة عين المُشتاقين، ومُستراح المَكروبين والمهمومين، فهداهم الله تعالى لسبيلٍ أيسرَ لنَيلِ ثواب قيام ليلة بكامِلها، وهو شهود صلاة العشاء والصُّبح مع الجماعة.
وكم ضيَّع هذا المتخلِّف عن شهود هاتين الفريضتين من ثواب وأجر!
ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذمَّ هؤلاء المتخلِّفين لغير عذرٍ وبيَّن أن لو كان الأمر متعلِّقًا بحظٍّ من حظوظ الدنيا لما تخلَّفوا عنه، جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لو يَعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مَرْماتينِ حسنتَينِ لشهدَ العِشاء».
عَرْقًا: العرق - بسكون الراء - قطعة لحم، المِرْماةُ: الظِّلْفُ، أو ما بين ظلفي الشاة من اللحم.
لطيفة: لو نادى منادٍ في الناس وقال: غدًا تُسلَّم مفاتيح سيارات وعمارات لكل مَن شهد صلاة الصبح في المسجد!
حينها يبدأ الزحام والخصام والتنافس من صلاة العشاء؛ بحيث يُمنع غلق المسجد طوال الليل وتبقى حشود الناس تعمر المسجد إلى صلاة الصبح ويصحب الأب معه بنيه وصاحبته وأخيه لعله يظفر بسيارة أو مسكن في عمارة!
سبحان الله! فما ظنكم برب العالمين؟! الله - جل وعلا - يُبشِّرنا بخير من ذلك: جنات فيها غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار.
إنه اليقين الذي كوَّن جيلاً من سلف الأمة كان تنافسهم في نيل الجنة كتنافسنا في نَيلِ الدُّنيا.
تزاحَموا في المساجد حين أيقنوا أن الله يبشِّرهم بتمام النور يوم البعث والنشور، فتركوا الدور وودَّعوا القصور، وأقبلوا على التجارة التي لن تَبور.
فأين نحن منهم يا أمة: حي على الصلاة حي على الفلاح؟!
الفوائد:
1- فضل صلاة الجماعة.
2- فضل صلاة العشاء والصُّبح مع الجماعة.
3- فضْل قيام الليل.
4- رحمة الله تعالى بأهل الأعذار.
5- الله يدعو للمغفرة والجنة بإذنه.
ظاهرة: إن ترْكَ كثير من الناس حضورَ صلاة العشاء وصلاة الصبح، لدليلٌ واضح على زهد الناس في الآخرة وإقبالهم على الدنيا الحلوة الخَضِرة التي تزيَّنت في أبهى صورها في آخر الزمان، بحيث يستطيع الكثير من الناس أن يتركوا حضور هاتين الفريضتين بسبب مباراة في كرة القدم، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وانظروا إلى ردة فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى قلَّة في صلاة العشاء والفجر، عن أبيِّ بن كعب، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، فلما قضى الصلاة رأى من أهل المسجد قلةً، فقال: «أشاهدٌ فلان»؟، قال: فقلنا: نعم، حتى عدّ ثلاثة نفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء الآخرة، ومن صلاة الفجْر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا»؛ (رواه أحمد).
فأهل النفاق في عهده صلى الله عليه وسلم هم من يتركون هذه الفرائض لثقلها عليهم وفراغ قلوبهم من اليقين والإيمان بثواب الدنيا والدين.
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لينتهينَّ رجال ممَّن حول المسجد لا يشهدون العشاء أو لأحرقنَّ عليهم بيوتهم - [أو حول بيوتهم] - بحزم الحطب»؛ (رواه أحمد).
فليَحذر كثير من الناس اليوم من تركهم صلاة الجماعة وليرقُبوا العذاب المتربِّص لكل من يتهاون أو يتكاسَل أو يستهزئ بهذه الشعيرة، والتي هي من سنن الهدى، وليعضَّ الحافظون لصلاة الجماعة عليها بنواجذِهم فهي دليل الفالحين، وسبيل نَيل مرْضاة رب العالمين في الأولين والآخرين.
قال الله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37، 38].
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أَتمِم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
______________________________________________________
الكاتب: عبدالله لعريط
- التصنيف: