الحُجَّتِيَّة في مواجهة الخمينية
لم يكن هذا الدعم من قبل الشاه مقتصراً على الحجتية وحدهم، بل كان في الوقت نفسه موجَّهاً للبهائية، طلباً للتوازن بين تلك القوى، «ومن وجهة نظر السيد بروش، فإن الشاه جعل قوى الحجتية وقوى البهائية في كفتي الميزان لاحتوائهما معاً»
امتدت الحركة البابية إلى أرجاء واسعة من إيران والعراق، حتى انتهى الأمر بإعدام الباب على يد الشاه الفارسي ناصر الدين شاه؛ فنتج عنه تطرُّفٌ لجناح انشق عن الحركة عُرف فيما بعد بالبهائية، وقد أثَّرت هذه الحركة في حدوث رد عنيف في الأوساط الشيعية، وكان أقوى ردٍّ عليها هو قيام حركة الحجتية[1].
التعريف:
تسمى بالجمعية الخيرية الحجتية المهدية (أنجمن خيرية حجتية مهدوية)، أو جمعية مناهضة البهائية، تأسست في أعقاب ثورة مصدق سنة 1953م على يد محمود ذاكر تولائي زاده المعروف باسم محمود حلبي، الذي كان يُظهِر تفانيه في محبة الإمام الغائب عند الشيعة، وكان يتخذ من مدينة مشهد مقراً له، وسميت بالحجتية نسبة إلى الحجة بن الحسن، وهو أحد الأسماء الرمزية للمهدي المنتظر لدى الشيعة[2].
قيل: إن الغرض من تأسيس تنظيم الحجتية، أن صديقاً وزميلاً للحلبي يدعى عباس علوي انجذب للبهائية، فرأى الحلبي في عالم الرؤيا الإمام المهدي وهو الملقب بصاحب الزمان لدى الشيعة، يأمره بتشكيل مجموعة لمكافحة البهائية[3].
درس الحلبي بمدينة مشهد على يد الميرزا مهدي الأصفهاني، فلاحظ الحلبي أن بعضاً من طلبة العلم آنذاك تأثَّر بالمعتقد البهائي فانبرى لمناقشتهم ومجادلتهم، وكان له حديث يومي في إذاعة مشهد ثم انتقل إلى طهران مواصلاً الدعوة ضد البهائية، فأكسبه ذلك تأييداً ودعماً مادياً من قبل علماء الشيعة، كما حظي الحلبي وجمعيته بدعم من الشاه[4].
ومما قيل عن مكانة هذا التيار لدى الشاه: حصول بعض المعارضين على بطاقة عضوية الحجتية، حتى يكونوا في مأمن من السافاك، فقال محسن بهشتي: «ولأن هذا التيار كان يعمل تحت الغطاء الأمني لنظام الشاه، ولأن أفكاره كانت موضع قبول النظام، فإن بعض المعارضين للنظام كانوا يحصلون على بطاقات عضوية هذا التيار، حتى يتم تصنيفهم لدى السافاك على أنهم حجتية»[5].
لم يكن هذا الدعم من قبل الشاه مقتصراً على الحجتية وحدهم، بل كان في الوقت نفسه موجَّهاً للبهائية، طلباً للتوازن بين تلك القوى، «ومن وجهة نظر السيد بروش، فإن الشاه جعل قوى الحجتية وقوى البهائية في كفتي الميزان لاحتوائهما معاً»[6].
يوضح هذا ما ذهب إليه زاهداني حينما قال: «وبعد الانقلاب العسكري في صيف 1953م، أسست دكتاتورية أشد بطشاً مما كانت عليه، في عهد رضا شاه بدعم خارجي، ويبرز هنا الدور الأمريكي من خلال الإدارة الأمريكية، وذراعها في الشرق الأوسط المتمثل بإسرائيل بوضح، وفي هذه السنوات تضاعفت وتيرة نفوذ البهائيين في مفاصل الدولة والحكم، واعتبارهم عناصر يمكن الوثوق بهم»[7].
اصطدمت الحجتية بجهتين أساسيتين:
الأولى: الحركة البابية، ومن بعدها البهائية التي أعلنت أن علي بن محمد الشيرازي المعروف بالباب هو المهدي المنتظر، فتوجهت جهود الحجتية لمحاربة البهائية التي انتشرت في إيران انتشاراً لافتاً.
الثانية: أنصار فكرة ولاية الفقيه؛ التي تتلخص في أن الفقيه الجامع للشرائط في عصر غيبة المهدي ينوب عنه في قيادة الأمة، ويمارس دوره لحين خروجه؛ إذ كان الخميني يرى أنه لا يجوز أن يظل الشيعة في مرحلة انتظار لا تُعرَف مُدتها، ولذلك كان يَعُدُّ الحجتية عائقاً في مشروعه للسيطرة على الحكم في إيران[8].
استمدت الحركة الحجتية فكرة وجودها من عقيدة الإمام الغائب عند الشيعة الذي تنفي ظهوره في القرن الماضي، ولذلك فإنها تنفي المهدوية عن الباب الشيرازي، وتدعو إلى انتظار ظهور المهدي في المستقبل، ولذا فقد تولت الحركة مهمة الإعداد لاستقبال الإمام الثاني عشر، لأنهم يعدُّون أنفسهم جنوداً له.
وتبعاً لذلك فهم لا يرون جواز العمل السياسي والعسكري، ضد الأنظمة الجائرة قبل ظهور الإمام الغائب، قاصرين أعمالهم على الفعاليات الثقافية والتربية الروحية، فكان عملهم منصبّاً على حفظ الطاقات البشرية والتهيؤ والاستعداد لانتظار الإمام الغائب، ومما يذكر عنهم في هذا الباب أنهم يعمدون إلى إطفاء الأضواء في منازلهم ليلاً لكي يدخلها الإمام الغائب[9].
نقاط الاختلاف بين الحجتية والثورة الخمينية:
ظهرت حركة إسلامية نورية في إيران كانت مزامنة للحركة الحجتية، وكانت تدعو إلى الكفاح المسلح ضد نظام الشاه، وتدعى حركة نواب صفوي الذي أعدم سنة 1956م، ثم تلتها قيام الثورة الخمينية سنة 1979م وكانت تحمل شعارات ومبادئ تخالف مبادئ الحركة الحجتية، ويمكن إجمال نقاط الخلاف بما يلي:
كانت توجهات الحجتية لحفظ الإمكانات والقوى حتى ظهور الإمام الغائب، وصدور أمره في الجهاد باعتباره القائد العام لجميع القوى. في حين توجهات الثورة الخمينية تركز على دور الخميني باعتباره القائد العام لجميع القوى في البلاد.
كان أتباع الحجتية يطلقون لقب الإمام على الإمام الغائب فقط، ويلقِّبون الخميني بنائب الإمام، معللين ذلك بأن لقب الإمام لا ينطبق إلا على المعصوم. وفي المقابل طرحت الثورة الإيرانية شعاراً مقابلاً لفكرة الحجتية، وهو أنه لا يمكن أن تكون محباً للمهدي، إذا لم تكن محباً للخميني.
رأت الحجتية أن العدو الحقيقي لهم هي الشيوعية وأن الماركسية وارثة البهائية، في الوقت الذي كانت توجهات الثورة الإيرانية تناصب العداء ظاهراً لأمريكا انطلاقاً من كونها الشيطان الأكبر.
كان الحلبي معادياً للفلسفة مبغضاً للفلاسفة، معتقداً بأن الفكر اليوناني يناقض الأديان السماوية، لذا فإنه كان يدعو للالتزام بأفكار الفقهاء ورواة الأخبار المحدِّثين، وعلى النقيض من ذلك سلك قائد الثورة الإيرانية مسلكاً معظِّماً للفلسفة أثمر كتابة عدة مؤلفات[10].
العلاقة بين الخميني والحجتية:
قاومت الحجتيةُ البهائيةَ في صفوف الجيش الإيراني وفي أوساط المثقفين كما كانت تحارب الشيوعية، ولكنها لم تتكن تتعرض بالنقد لنظام الشاه، لأنها لم تكن تعتقد بجواز العمل الثوري بالنيابة عن الإمام المهدي، الذي كانت تدعوه وتنتظره للقيام بذلك، وفي المقابل كان الخميني مؤمناً بولاية الفقيه وداعياً إلى الثورة، وإقامة الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة نيابة عن المهدي[11].
لقد كان للخميني موقفان هما طرفا نقيض، ففي أول الأمر دعم الحجتية وأثنى عليها وعلى مؤسسها، اتضح ذلك من خلال رسالة له من بعض أتباعه يستفتونه بشأن الحلبي، «وحسبما تقول وثيقة منشورة في كتاب (صحيفة الإمام، جـ2، ص: 282 - 283) أن مجموعة من مقلدي الإمام الخميني استفتوه وطلبوا منه إعطاء الإجازة لتسليم الحلبي الحقوق الشرعية (أموال الخمس والزكاة):
سماحة آية الله العظمى السيد الحاج روح الله الخميني دام ظله العالي، السلام عليكم. ربما يتذكر سماحتكم أن مجموعة من المتدينين قاموا منذ عدة سنوات وتحت قيادة حجة الإسلام السيد الحاج الشيخ محمود حلبي، بتنظيم جلسات منتظمة لمكافحة البهائية ذات الأهداف الزائفة، وتم خلال تلك الجلسات طرح موضوعات تثقيفية، تعرِّف الحاضرين بالمقام السامي لحضرة ولي العصر - أرواحنا وأرواح العالمين له الفداء - وقد توسعت تلك الجلسات مؤخراً، لتشمل طهران وأصفهان ومشهد وشيراز وسائر المراكز المهمة، مما أدى خلال هذه المدة، ونتيجة الرعاية الخاصة لحضرة بقية الله الأعظم إمام الزمان - صلوات الله وسلامه عليه - إلى هداية ما يقرب من 500 شخص من أعضاء الفرقة البهائية الضالة، إلى صراط التوحيد المستقيم وعودتهم إلى الديانة الإسلامية المقدسة، وإنقاذ عدد آخر من الذين كانوا على وشك السقوط في أحضان هذه الفرقة الضالة.
عليه نرجو من سماحتكم أولاً: إبداء رأيكم المبارك فيما يتعلق بهذه المجموعة، وثانياً: كيف يكون التعاون مع تلك الثلة وتقوية نشاطها؟ ثالثاً: هل يمكن في حالة اللزوم إنفاق الحقوق الشرعية في هذا السبيل؟
يرجى إبداء رأيكم بشكل صريح والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأجابهم الإمام الخميني بما يلي: باسمه تعالى على الفرض المشار إليه، فإن ما قام به هؤلاء النفر يقع موقع التقدير ورضا الله تعالى، كما أن التعاون والتنسيق معهم سيكون موقع رضا ولي العصر (عجل الله فرجه)، كذلك فإن المؤمنين مجازون بإعطائهم الحقوق الشرعية من قبيل الزكوات وغيرها، وفي حالة الضرورة فإنهم مجازون بإعطائهم ثلث السهم المبارك للإمام (عليه السلام).
وطبيعي يجب أن يكون ذلك تحت نظارة وإشراف أشخاص متدينين، وإذا أمكن لحضرة المستطاب حجة الإسلام السيد حلبي - دامت بركاته - أن يكون مشرفاً على إعطاء الحقوق الشرعية، أسأل الله تعالى لهم التوفيق.
٥ شهر شعبان المعظم ١٣٩٠هـ، روح الله الموسوي الخميني»[12].
ثم يتغير هذا الموقف من التأييد والتزكية وإعطاء الوكالة، إلى شن حملات موجَّهة ضد الحجتية ومنابذتهم العداء إبَّان وجوده في النجف، فأصبح يكره الحلبي والحجتية؛ وذلك لأنهم من وجهة نظره يقومون بدور سلبي من خلال خدمة نظام الشاه، ويرى فيهم حجر عثرة أمام مشروعه الثوري، ومخدراً للطاقات المؤمنة.
يمكن معرفة حقيقة العلاقة بين الخميني والحجتية، بما ذكره موسوي بجنوردي وهو رئيس مركز دراسات الخميني، حينما سرد القصة التالية: «جاء أحد رؤساء هذه الجمعية (وهو الآن ليس على قيد الحياة) كان قد جاء إلى النجف أثناء فترة نفي الإمام فيها، وكان يطلب لقاءه، لكن الإمام لم يسمح له باللقاء»[13].
يوضح هذا الموقف للحجتية من نظام الحميني ما ذكرته فاطمة الصمادي من أنه «كان أحد مبادئ الحجتية، أن الجمعية لا تتدخل في الشؤون السياسية بأي شكل من الأشكال، كما أنها لا تتحمل أي مسؤولية عن نشاطات سياسية، يقوم بها الأشخاص المشاركون، والواجب الوحيد للمؤمن الشيعي، هو الانتظار والصلاة للإمام الغائب، ولذلك فإن أي مسعى لإقامة حكومة دينية غير مشروع دينياً، وذلك هو تفسير أن الحجتية كجمعية لم تشارك في الثورة»[14].
قرأ أحد الباحثين موقف الخميني هذا من الحجتية، ويرى أنه كان موقفاً براغماتياً، فقال: «وقد يكون هناك عامل مهم، وهو أن نظرية الخميني السياسية لم تكن قد اكتملت بصورتها النهائية وقتئذٍ، فقد مرَّ الرجل بمراحل متعددة، حتى وصل إلى الولاية المطلقة بقراءتها النهائية، وقد يكون الخميني تعامل معها من باب فقه الأولويات، بمعنى أنه نظر إليها ككيان أقل خطراً وضرراً من البهائية، فعمل على توظيفها سياسياً واستخدامها لدحر خصومه، فلما تلاشى أو تهاوى المد البهائي انقلب عليها الخميني»[15].
ترجم الخميني موقفه العدائي ضد الحجتية، حينما «أقدم لاحقاً على إلغاء التوكيل الذي أصدره من قبلُ. ففي عام 1971م كتب الإمام الخميني رسالة جوابية إلى السيد كرامي، الذي استفتى سماحته عن رأيه فيما يتعلق بتجمُّع الحجتية ومؤسسها، يقول: فيما يخص الشخص الذي كتبتم تسألون عنه، فإن جلساته على ما يبدو مضرة، وأنا ومنذ أن علمت بذلك لم أدعمه، وإن شاء الله لن أقوم بذلك مستقبلاً»[16].
لم يتغير هذا الموقف العدائي من الحجتية؛ إذ بعد تسلُّم الخميني مقاليد الحكم في إيران سنة 1979م، جاء الحلبي إليه مهنئاً عادّاً انتصار الثورة، تمهيداً لخروج المهدي ومقدمة له، ووضع جميع كوادر حركته في خدمة الخميني، فقبل الخميني منه ذلك ولكن اشترط عليه أن يحل تنظيمه[17].
ومن هنا فقد أعلنت الحجتية تأييدهم المطلق للثورة الإسلامية، والانخراط في أنشطتها بما في ذلك الحرب العراقية - الإيرانية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ إذ أعطت الجمعية الولاء للخميني باعتباره مرشداً أعلى للجمهورية الإسلامية، كما قامت بتغيير بعض بنود لائحتها التأسيسية، ليكون متاحاً لها ولأعضائها رسميّاً المشاركة في الشأن السياسي[18].
ولكن مال أحد الباحثين إلى أن التقية كانت حاضرة في هذا التغيير الذي قامت به الحجتية، وأنه كان خطاباً براغماتياً، ولم يكن تحولاً إستراتيجياً، فقال: «لكن المدقق في الميثاق الجديد، لا يُعَدُّ إقراراً بولاية الفقيه كقراءة وحيدة للنظرية السياسية الشيعية، ولا يجد تلك الحماسة التي تعبِّر عن سريان الفكرة في أحشاء الجماعة، فالتقية واضحة جداً في هذا الخطاب البراغماتي، ومن ثَمَّ فهذا التحول على الأرجح ليس تحولاً إستراتيجياً على مستوى المبادئ والتنظير... كل ما في الأمر - كما هو واضح من هذا الميثاق - أنها حاولت الانحناء لموجة الثورة ولهيبها الذي كان يأكل الأخضر واليابس»[19].
إذن استعمل محمود حلبي التقية في التعامل مع المستجدات السياسية، ولهذا كان الحجتية يتميزون بإطلاق شعار: (إلهي إلهي احفظ لنا الخميني حتى ظهور المهدي)، الذي كانوا يهتفون به عقب كل صلاة وفي المحافل العامة، كما كانوا يُولُون عناية فائقة بإحياء ذكرى ولادة المهدي في منتصف شعبان من كل عام، وكانوا يصرون على تسمية الخميني بنائب المهدي ويرفضون إطلاق لقب الإمام عليه؛ لأنه من اختصاص الإمام المهدي[20].
آثر الحجتيون تأجيل خلافاتهم مع نظام الخميني، برغم إيمانهم بأن نظام ولاية الفقيه اغتصب ولاية المهدي، وأسهم في تأخير ظهوره؛ إذ إنهم يرون أن كل دولة تظهر قبل المهدي، هي دولة طاغوت غير شرعية[21].
«وهذا يعني أن التحول الذي طرأ على الحلبي ورفاقه من الخميني وثورته، هو تحول تكتيكي وانحناء للموجة العالية التي رافقت الثورة الإسلامية، من حملة اعتقالات واغتيالات لكلِّ من رفض رؤية الخميني، كما حصل مع آية الله شريعتمداري أستاذ الخميني ومحمد مهدي الشيرازي وحسين منتظري وغيرهم، ويؤكد هذه الفكرة أن الجماعة بعد وفاة الحلبي عندما أعادت ترتيب صفوفها، صرحت بعدم إيمانها بولاية الفقيه وعدم امتلاكها لأي مشروع سياسي»[22].
يقول وسام سعادة توجيهاً لهذا الموقف من الحجتية، وأنه هو ما دفعهم إلى الانخراط في الثورة الخميني: «اعتبر الحجتيون أن من واجبهم الانخراط في الثورة الإسلامية، لمنع اليسار من أخذ هذه الثورة إلى اتجاه يذكِّر بحكومة مصدق، فتحولوا إلى يمين لهذه الثورة، لكنهم تصادموا مع الإمام الخميني أيضاً»[23].
طور الانشقاق والعمل السري:
لم يكن موقف الحجتية واحداً، فلقد كان هناك رأي معارض لما قام به الحلبي، يرفض هذا التنازل وعدُّوه خيانة للمبادئ التي قامت عليها الجماعة[24]، فنجد «أن جناحاً آخر من الحجتية رفض قيام الجمهورية الإسلامية، واعتبرها عقبة أمام ظهور الإمام المهدي، ويقال: إن غودرزي قائد منظمة (الفرقان) التي اغتالت الجنرال قرني، والمفكر الإيراني الثوري الشيخ مرتضى مطهري، والشيخ باهنر، وحاولت اغتيال الشيخ رفسنجاني في الأيام الأولى من الثورة، كان ينتمي إلى الحجتية وعبَّر عن موقفها الرافض لقيام الجمهورية الإسلامية»[25].
وفي عام 1998م أُعلن عن اعتقال مجموعة من عناصر الحرس الثوري وممن شارك في الحرب العراقية الإيرانية، وكانت تهمتهم تشكيل تنظيم سري عُرف باسم (المهدويون) بزعامة محمد الميلاني، قد يكون امتداداً للجناح العنيف المنشق عن الحجتية، وهذا التنظيم لا يؤمن بولاية الفقيه، ولم يقبل بحل التنظيم ولم يرضَ بمساومة الحلبي للخميني[26].
كما تجدر الإشارة إلى أن رشيد بلوح يذكر أن هناك من اتهم اسفنديار رحيم مشائي بتزعم تيار سري شبيه بالحجتية يسمى طريق الحقيقة، وهو تنظيم ولد من رحم الحجتية، وصفه بعض الدارسين بأنه جماعة منحرفة، كما نقل تحذير شقيق الرئيس الإيراني داوود أحمدي نجاد من خطورة تنظيم الحقيقة، لأنه سيزلزل البلاد ويؤدي إلى الفتنة[27].
رأى أحد الباحثين أن هذا لا يعدُّ اختلافاً في مواقف الحجتية وتعدد أجنحتها، ولكنه كان ضمن العمل السري لهذه الفرقة؛ إذ نقل الموسوي وجهات نظر عدد من الباحثين في أن فرقة الحجتية اضطرت في بدايات الثورة وتحت ضغط الخميني، إلى الإعلان عن حل نفسها صورياً وعزل بعض عناصرها الذين كانوا أعضاء في الحكومة المؤقتة، ولكن تبيَّن فيما بعد أنها لم تحل نفسها، ولم تعزل عناصرها الذين كانوا في حكومة بازركان، فقد كان أتباع الحلبي من العناصر المهمة التي ساهمت بتعزيز أركان النظام الإيراني الجديد، وعلى رأسهم الجنرال قرني رئيس الأركان الأول في عهد الثورة، والدكتور علي أكبر ولايتي وزير الخارجية الأسبق، والدكتور برورش وزير التربية الأسبق، والوزراء سيد حسن سجادي وسيد حسين افتخار زاده سبزواري، بل عمدت إلى إعادة تنظيم نفسها، وأنشأت لها منظمات بأسماء مختلفة مثل مؤسسة الغدير التي يرأسها أبو القاسم خزعلي، ومؤسسة نشر أفكار الخميني التي يرأسها مصباح يزدي.
وتجدر الإشارة إلى أن رئيس مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي، هو أحد عناصر هذه الفرقة، كان له دور بارز في دعم الفرقة، عبر سعيه إلى تحويل المجلس إلى مؤسسة تابعة لفرقة الحجتية.
كما يعتقد كثير من الباحثين بأن الاغتيالات التي شهدتها إيران طوال العقود الثلاثة الماضية، كان للجماعات المرتبطة بالحجتية دور كبير فيها، إذ عمدت إلى تشكيل مجامع سرية مسلحة بأسماء مختلفة، من بينها جماعة الفرقان بقيادة أكبر غودرزي تلميذ ميلاني، وكان مما قامت به سلسلةُ اغتيالات لقيادات الثورة الإيرانية.
ثم تلا ذلك تصفية الأب الروحي للجماعة آية الله ميلاني داخل سجنه من قبل الحجتية، قبل أن تتمكن السلطات الإيرانية من إجراء التحقيق معه، خشية إفشاء أسرار ارتباط جماعة الفرقان بالحجتية.
كما تمكنت الحجتية من اختراق منظمة مجاهدي خلق، وهي منظمة معارضة شنت سلسلة من الاغتيالات لمسؤولين وقادة كبار في النظام الإيراني، وهو ما أسهم في إزاحة كثير من الوجوه المخالفة لتيار الحجتية، وأفسحت المجال أمام عناصر تابعة لها، لتتبوأ مناصب عُليا في السلطة.
استطاع الحجتية ضم علماء يدينون بالولاء لها وينتمون إليها، ووضعهم تحت تصرف مرشد الثورة علي خامنئي، ليقوم بتعيينهم في مناصب عليا في كثير من المؤسسات، ويؤكد هذه المكانة لها عند خامنئي، أنها قامت بضم ثلاثة من أبناء خامنئي تحت عباءتها وجعلتهم تابعين لها[28].
الخلاف مع الخميني مجدداً:
لم يدم تأجيل خلافات الحجتية مع الخميني طويلاً، ففي مطلع الثمانينات الميلادية من القرن الماضي ظن الحلبي أنه يمكنه السجال مع الخميني شخصياً؛ إذ يرى إنه أعلى منه منزلة، لا بعلمه وشعبيته؛ وإنما لأن الإمام المهدي يأتيه في الأحلام.
«وعلى الفور هاجم الخميني زعيم الثورة في خطبة عيد الفطر سنة 1984م، التنظيمَ باعتباره جماعة منحرفة، قائلاً: إنها جماعة مشروعها إشاعة الفساد حتى يظهر المهدي، ولكن لماذا يأتي المهدي؟ هو يأتي حتى تزول المعاصي، ونحن نرتكبها حتى يأتي؟ احذفوا هذه الانحرافات... إذا كنتم وطنيين، احذفوا هذه الفئوية من أجل بلدكم... واكبوا التيار ولا تسيروا خلافه فإنه يكسر أعضاءكم»[29].
ومنذ ذلك الحين أوقف تنظيم الحجتية نشاطه العلني وبدأ بالعمل السري، فقال التنظيم في خطاب له: «رغم أن خطاب السيد الخميني ليس موجهاً لنا، فقد قررنا وقف النشاط بأوامر من الشيخ محمود حلبي، حفاظاً على الوحدة والانسجام الوطني، وحفظ المصالح القومية، ولقطع الطريق على أجهزة الدعاية الأجنبية»[30].
لم يكن الخميني مرتاحاً لتيار الحجتية فعبَّر عن ذلك برسالة قصيرة، وجَّهها إلى مجلس صيانة الدستور ضمَّنها جملة هامة جداً، قال فيها: «احذروا هؤلاء الحجتية فإنهم إن تمكنوا من التسلط فإنهم سوف يهدمون كل شيء»، وذلك عندما دبَّت الخلافات بين مجلس صيانة الدستور الذي يهيمن عليه الحجتية وبين الحكومة حول تفسير القوانين الحكومية[31].
من وجهة نظري فإن موقف الخميني منهم غير مستغرب؛ إذ اتهموا بتنفيذ أعمال تفجير واغتيالات واسعة، في صفوف السياسيين وعلماء الدين، كما قاموا بالنشاط في مناطق أهل السنة في إيران مثل بلوشستان وغيرها، فكانوا يوزعون الكتب والمنشورات التي تتضمن الإساءة للصحابة، وهو ما أدى إلى غضبٍ واستياءٍ كبيرين لدى أهل السنة هناك، كما قاموا بتصفيات جسدية لبعض رموز أهل السنة في العراق، وقد اتُّهم التنظيم بالقيام بهجوم ضد أعضاء من طائفة نعمة الله الصوفية، تسبب في إصابة عشرات منهم من بينهم نساء وأطفال، فهؤلاء الحجتية يقومون باغتيال كل من يرونه يعترض سبيل عودة المهدي الغائب[32].
يروي القزويني موقف الخميني من الحجتية بطريقة مختلفة نوعاً مَّا؛ إذ يرى أن الخميني قد حذَّر أفراد الحجتية بشكل غير مباشر من العمل ضد توجهات الثورة الإيرانية في خطاب ألقاه سنة 1403هـ فقال: «لا تتحركوا خلاف حركة هذا الموج - يعني به تيار الحجتية - وإلا ستتكسر أيديكم وأرجلكم».
وبعد أن تحقق مسؤولو الحجتية من أن خطاب الخميني كان موجهاً لهم أصدر الحلبي بياناً جاء فيه: «في هذه الحالة الوظيفة الشرعية ليست إدامة النشاطات، وجميع الجلسات والبرامج يجب أن تعطل»، فاقتصر نشاط الحجتية على إقامة المجالس الخاصة بالمناسبات الدينية ومجالس الذكر والدعاء.
وإزاء هذا التوجه من قبل الحجتية فقد قامت السلطة الإيرانية، بعدة قرارات صارمة تجاه الحجتية منها:
- منع الحلبي من ممارسة أي نشاط علني مثل إلقاء الخطب.
- محاصرة مراكز الحجتية خصوصاً في مساجد خراسان وطهران، ومنع أفرادها من التجمعات الدينية.
- إيقاف جميع المنشورات والمؤلفات التي تصدر عن الحجتية وتقييدها، وهو ما أثَّر في عزلتها عن الواقع الاجتماعي والسياسي العلني.
أدت كل تلك القرارات إضافة إلى كبر السن والتقدم في العمر، إلى اعتزال محمود حلبي عن ممارسة الخطابة والتبليغ وأصبح جليس داره[33].
ذكر أحد الباحثين أن تنظيم الحجتية سلك طريقتين لزيادة عدد المنتمين إليه؛ إذ اجتذب أعداداً غفيرة من الشباب، عبر دعوته لفوضى إشاعة الفاحشة تمهيداً لظهور المهدي المنتظر لدى الشيعة، فكانت الشهوات عنصر جذب مكَّنهم من الشباب، كما استطاعوا ضم شخصيات ذات وزن سياسي كبير إلى تنظيمهم، فهم أشبه ما يكونون بجمعية ماسونية تعمل في السر على اصطياد النخب والمثقفين والكفاءات، وتتغلغل من خلالهم إلى مؤسسات الدولة الحساسة، وفي المقابل يقدم الحجتية لهؤلاء فرصاً تجارية واقتصادية وسياسية كبيرة، وَفْق مبدأ تبادل المنافع[34].
ولكن الدعوة إلى نشر الظلم وإشاعة الفساد والفوضى وانتشار الفواحش باعتبارها وسيلة لظهور المهدي، لم توافق عليها الجماعة بل قامت بنفيها، ففي حوار مع أحد علماء الشيعة وهو حميد رضا غريب، ذكر أنهم يقولون: «نحن لم نقل بنشر الفساد تمهيداً لظهور الإمام المهدي»[35]، كما قام زعيم الحجتية بعد وفاة الحلبي وهو افتخار زاده، بإصدار نفي قاطع عن سعي الجماعة لنشر الفوضى والفساد[36].
علَّق محمد الصياد على نفي الجماعة لهذا المبدأ الذي اشتهر عنهم، فقال: «ويبدو أن هذا الأمر كان مشتهراً عنهم، بغض النظر عمَّا إذا كان هذا فعلاً عقيدة من عقائدهم أو عقيدة لبعض أجنحتهم، لكن الراجح أن أجنحة عنيفة منهم اعتقدوا هذا في فترة من الفترات، وربما اعتنق هذه الفكرة الجناح الذي انشق احتجاجاً على حلِّ الحلبي للتنظيم، فخلط بعض الباحثين بين الجناح العنيف المنشق والجماعة الأم المنحلة»[37].
ومما يؤكد كلام الصياد، ما ذكره محسن بهشتي سرشت عن الحجتية، فقال: «وكان لهم قبل الثورة تشكيلات منسجمة، وتمارس نشاطاتها بكل حرية، وكانوا يرحبون بفساد النظام علناً في فصول الدراسة وقاعة الجامعات، ويعدُّونه مقدمة لظهور إمام الزمان»[38].
يتبع في العدد القادم (عودة الحجتية للنشاط العلني).
[1] انظر: الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net بتاريخ 1/7/1443هـ
[2] انظر: التيارات السياسية في إيران، فاطمة الصمادي، (ص296)، المرجعية الدينية، جودت قزويني، (ص328).
[3] انظر: البهائية في إيران، سعيد زاهداني، (ص293)، الحجتية: الاتصال بالمهدي في المنام والتناقض مع ولاية الفقيه، وسام سعادة، على الرابط https://raseef22.net/article/95488 بتاريخ 1/7/1443هـ.
[4] انظر: التيارات السياسية في إيران، فاطمة الصمادي، (ص296)، المرجعية الدينية، جودت قزويني، (ص 328).
[5] يجب أن نأخذ تحذير خاتمي بجدية، محسن بهشتي سرشت، مجلة مختارات إيرانية، العدد 68، السنة السادسة، شهر مارس، عام 2006م.
[6] البهائية في إيران، سعيد زاهداني، (ص294).
[7] البهائية في إيران، سعيد زاهداني، (339 - 340).
[8] انظر: الحجتية، موقع فيصل نور، على الرابط: https://www.fnoor.com ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[9] انظر: المرجعية الدينية، جودت قزويني، (328 - 329)، الحجتية تنظيم خامنئي السري الذي يحكم إيران، إسراء حبيب، إيران بوست، العدد الثاني، شهر نوفمبر سنة 2017م.
[10] انظر: المرجعية الدينية، جودت قزويني، (329 - 330).
[11] انظر: الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[12] الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[13] الخميني عارض مشاركة الحجتيين في الحكومة الإسلامية، موسوي بجنوردي، مجلة مختارات إيرانية، العدد 68، السنة السادسة، شهر مارس، عام 2006م.
[14] التيارات السياسية في إيران، فاطمة الصمادي، (296 - 297).
[15] فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص108).
[16] الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: httpshttps://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[17] انظر: الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[18] انظر: في انتظار المهدي: الحجتية يرفضون قيام أي دولة قبل ظهور المهدي المنتظر، محمد العتر، على الرابط: https://www.sasapost.com/hojjatieh، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[19] فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص116).
[20] انظر: فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص115)، الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[21] انظر: الحجتية تنظيم خامنئي السري الذي يحكم إيران، إسراء حبيب، إيران بوست، العدد الثاني، شهر نوفمبر سنة 2017م.
[22] فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص114).
[23] الحجتية: الاتصال بالمهدي في المنام والتناقض مع ولاية الفقيه، وسام سعادة، على الرابط: https://raseef2.net/article/95488 ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[24] انظر: فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص115).
[25] الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[26] انظر: الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[27] انظر: المهدوية في إيران المعاصرة، رشيد بلوح، (16 - 23).
[28] انظر: فقه الانتظار، محمد الصياد، (116- 118). المرشد الإيراني علي خامنئي في مرَّبع تنظيم الحجتية، صباح الموسوي، على الرابط: www.albayan.co.uk الشيعة من الحجتية إلى الخمينية، أحمد الكاتب، على الرابط: https://ahmadalkatib.net الحجتية من البهائية إلى الوهابية، جعفر رجب، جريدة الرأي، على الرابط: https://www.alraimedia.com/article/130228 ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[29] الحجتية تنظيم خامنئي السري الذي يحكم إيران، إسراء حبيب، إيران بوست، العدد الثاني، شهر نوفمبر سنة 2017م.
[30] انظر: الحجتية تنظيم خامنئي السري الذي يحكم إيران، إسراء حبيب، إيران بوست، العدد الثاني، شهر نوفمبر سنة 2017م.
[31] انظر: المرشد الإيراني علي خامنئي في مرَّبع تنظيم الحجتية، صباح الموسوي، على
الرابط:www.albayan.co.uk ، بتاريخ 1/7/1443هـ.
[32] انظر: الحجتية تنظيم خامنئي السري الذي يحكم إيران، إسراء حبيب، إيران بوست، العدد الثاني، شهر نوفمبر سنة 2017م.
[33] انظر: المرجعية الدينية، جودت قزويني، (331 - 332).
[34] انظر: الحجتية تنظيم خامنئي السري الذي يحكم إيران، إسراء حبيب، إيران بوست، العدد الثاني، شهر نوفمبر سنة 2017م.
[35] انظر: فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص125).
[36] انظر: فقه الانتظار، محمد الصياد، (125 - 126).
[37] فقه الانتظار، محمد الصياد، (ص125).
[38] يجب أن نأخذ تحذير خاتمي بجدية، محسن بهشتي سرشت، مجلة مختارات إيرانية، العدد 68، السنة السادسة، شهر مارس، عام 2006م.
- التصنيف:
- المصدر: