إذا شَتَموا الرسول فلا أمانَ لشاتمه

منذ 2022-06-07

المقصود مما تقدم بيانه أن باستطاعتنا ووسعنا القيام بأكثر مما نقوم به دون التقليل من أهمية شيء منه، وإن بعض البيانات الرسمية وغيرها على قصورها عن مرتبة حق مقام النبوة إلا أنها مطلوبة

إنَّ حالة الخَوَر الإيماني الذي تعاني منها الأمة تجاه المجترئين على ثوابتها ومقدساتها لَيبلغ ذروته حين يتعلق الأمر بجناب النبوة الكريم، فإذا بالمرء يحار في وصف حالة الانهيار الإيماني الذي تعاني منه الأمة اليوم وقد رمانا الناس عن قوسٍ واحدة وهم مطمئنون إلى أن ساكناً لن يتحرك، وأن عرقاً للأمة السادرة في هجر دينها وكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم لن ينبض، وأنها إن تحرك فيها شيء تنتصر به لنبيها صلى الله عليه وسلم فلن يجاوز ذلك بعض البيانات الهزيلة التي يصيح بعضها خوفاً على مشاريع التعايش ودمج الأديان أكثر مما يستدعيه الانتصار الحقيقي لمقام سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن بعض المناوشات الإلكترونية على وسائط تواصل يتحكم بها أعداء الأمة الذين يستبيحون مقام النبوة ويستهزئون بأتباع النبي العظيم صلوات ربي وسلامه عليه الذي ينتسبون إليه ويتنصرون له. أقول هذا وصفاً لواقع التقصير بالنسبة لما يستدعيه جسامة الخطب ونسبةً لما يستوجبه حق مقام النبوة على الأمة المحمدية، وإلا فلا نشك في غليان الدماء في عروق المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً مع استعصاء الحيلة وانقطاع الوسيلة بادي الرأي، والحق أنه لم يشف الغليل مما اطلعت عليه رداً على جريمة المجرمين الهندوس المتطرفين في حكومة الهند الحالية أتلفها الله سوى بيان مفتي سلطنة عمان الشيخ أحمد بن حمد الخليلي سدده الله حيث ذيل بيانه بحكم الله في هؤلاء المجرمين قائلاً:

فيا غارة الله اغضبي وخيوله   اركبي ومواضيه انعمي بورود

ومُنِّي على الأعداء منك بزورةٍ          تريحهم من كفرهم بلحود[1]

قلت: غير أنها راحة في الظاهر، نسأل الله العظيم أن يملأ لحودهم ناراً إلى يوم القيامة. والشاهد أنه بمثل هذا التصريح والبيان الصريح تقوم الحجة ويحصل العذر لمن لم يبلغ من تلك الإراحة استطاعةً باليد، والسر في المسألة أن الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تماثل الانتصار لغير شخصه الكريم ممن قد يُساء إليه، وأن عواقب الاجتراء على مقام النبوة لا يمكن أن تماثل عواقب الاجتراء على غيره من المقامات، والأصل في ذلك قوله تعالى:  {لا تجعوا دُعاءَ الرسول بَينكم كَدُعاء بعضِكم بعضاً} [2]؛ قال ابن جُزي رحمه الله في التسهيل:" في معناها ثلاثة أقوال:

الأول: أن الدعاء هنا يراد به دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليجتمعوا إليه في أمرٍ جامع أو في قتالٍ وشبه ذلك، فالمعنى: أن إجابتكم له إذا دعاكم واجبةٌ عليكم، بخلاف إذا دعا بعضكم بعضاً، فهو كقوله تعالى:  {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم} [3]،  ويقوي هذا القول مناسبته لما قبله من الاستئذان والأمر الجامع،

والقول الثاني: أن المعنى لا تَدْعُوا الرسولَ عليه الصلاة والسلام باسمه كما يدعو بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا: يا رسول الله! أو يا نبي الله!  تعظيماً له ودعاءً بأشرف أسمائه،

وقيل: المعنى لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض، أي: دعاؤه عليكم مجاب فاحذروه، ولفظ الآية بعيد من هذا المعنى، على أن المعنى صحيح"[4] ،

قلت: والجامع بين هذه الأقوال كلها – وهو موضع الشاهد – أن ما يتعلق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم ليس كما يتعلق بغيره، سواء أكان من جهة التعظيم والتوقير، أو كان من جهة موجبات أقواله وأفعاله من حيث لزومها لأتباعه، أو كان من جهة آثار أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم أجلُّ وأقدر من تعظيم من سواه من الخلق، وحبه صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل من حب من سواه من الخلق، وعواقب ترك الاستجابة لأمره ومخالفة نهيه ليست كعواقب ترك الاستجابة لأمر غيره ومخالفة نهي غيره من الخلق، وعواقب سبه وشتمه وقذفه بأبي هو وأمي صلوات الله وصلامه عليه ليست كعواقب ما شابه ذلك تجاه غيره من الخلق،  وشواهد هذا في القرآن والسنة كثيرة وعليه إجماع العلماء من هذه الأمة. وعلى هذا الأصل يتبين أن ما يترتب على شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون كما يترتب على شتم من سواه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ولست بصدد استعراض المسألة فقهياً فإن قتل شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أكان قبل شتمه مسلماً أو ذمياً أو كافراً مستأمناً أو حربياً حكم ذلك كله قتله وإهدار دمه على تفصيلٍ مبسوطٍ في مظانه[5]، ولكن المقصود أن الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم لا بد من أن يحقق حداً أدنى تبرأ به الذمة إن شاء الله:

أولاً: اعتقاد تميز مقام النبوة بما تقدمت الإشارة إليه من تميزه عن مقامات سائر الخلائق، وعلامة مخالفة ذلك أن ترى انتصار الناس لأنفسهم أعظم من انتصارهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك في علاقات الدول أن ترى حكومة دولة إسلامية تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع دولةٍ أخرى لأي سبب دنيوي وهي لا تقطعها لسبب شتم مقام النبوة، فلا تكفي البيانات مع القدرة على أكثر من ذلك كقطع العلاقات كلياً، وقد ثبت بالفعل من تصرفات هذه الحكومات في مواقف أخرى ما هو ممكن بالقوة لها لكنها تتقاعس عنه في هذا المقام.  وإن أقل الواجب من حكومات الدول الإسلامية أن تجعل في بنود اتفاقياتها الدولية ومبادئ السلم والحرب اعتبار شتم مقام النبوة إعلان حرب يرد عليه بكل ما ترد به الدول على من يعلن الحرب عليها، ولا عذر لحكومة دولة مسلمة في ترك ذلك هي تتبجح ليل نهار بجاهزيتها العسكرية وأمنها السيادي وعزتها الوطنية وتنفق في سبيل ذلك وتفعل ما لا تنفق ولا تفعل انتصاراً لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواب الأمة الإسلامية تجاه هذه الحكمات الهزيلة خذلانها بقدر ما خذلت مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا انتصرت له صلى الله عليه وسلم بما يستحق كان ولاؤنا لها في الله أكمل على ما يجب.

ثانياً: اعتقاد كل مسلم إهدر دم كل من سولت نفسه القبيحة وزين له قرينه الشيطاني التطاول على مقام النبوة، وأن دمه هدر كيفما تُمكِّن منه، لا سيما من أعلن بهذا السب بحيث لم يحتج إلى إقامة بينة أو دليل آخر. وإن من تمام ذلك الاعتقاد الكف عن اتهام من يتمكن من ذلك بالتطرف والغلو والانفعالية، فإن هذا الفعل هو المطلوب بعينه لمن تمكن منه، وأقل مظاهر هذا الاعتقاد لغير المتمكن هو التبرؤ من كل أمن وأمان يحاط به هؤلاء المجرمون المتطاولون على مقام أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم ، فإن كان قبل السب مسلماً فقد ارتد، وأن أعلن توبة فهو زنديق، وإن كان ذمياً فقد بطل عقد ذمته، وإن كان كافراً مستأمنا فقد بطل أمانه بمجرد السب، وإن كان كافراً محارباً فقد زاد سبه لمقام النبوة دمه استحلالاً وأجج في الصدور منها بإهراقها شفاءً.

ثالثاً: اعتقاد أن هذا الخَوَر الإيماني الذي تعانيه الأمة هو أثر من آثار تعطيل الحكم بشرع الله تعالى، وتعطيل سنته صلى الله عليه وسلم، والسكوت عمن تطاول بالطعن على حجية هذه السنة وأخذ يجعلها عضين، وتعطيل جهاد المنافقين والكافرين بالبيان والسنان، فإن الذل من مظاهر تعطيل الشريعة والجهاد، ولعمر الحق لا ذل أشد من أن يجترأ على مقام النبوة مجرم تافه فلا يتمخض عن ذلك منا سوى بعض التغيُّظ لذلك، حتى إذا جاء حكم الله تعالى في بيان عقوبة هذا المجرم المتطاول على مقام الرسول تلمظنا وتلكأنا واعتذرنا عن ذلك، ألا إني أُشهد الله أن هذا ما ندين به لله تعالى تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسأل الله تعالى الثبات والتوفيق للعمل مع العلم، غير أنك إذا اعتقدت ذلك وأعلنته فقد حققت ثلثي الإنكار، ويبقى التغيير باليد بحسب القدرة والظرف المواتي، وعلامة طلب ذلك صدق الإعداد له بالعودة إلى تحكيم شريعته صلى الله عليه وسلم، واعقتاد حكم شاتمه، وتوطين النفس عليه، والسكوت عن الإنكار على من تمكن من إقامته، فتنبه لهذا كله.

ختاماً، فإن المقصود مما تقدم بيانه أن باستطاعتنا ووسعنا القيام بأكثر مما نقوم به دون التقليل من أهمية شيء منه، وإن بعض البيانات الرسمية وغيرها على قصورها عن مرتبة حق مقام النبوة إلا أنها مطلوبة، فهي من اللازم غير الكافي، ونسأل الله أن يبارك في قليلها ويمهد بمجموعها لنقلةٍ حقيقية لهذه الأمة من واقع الذل والخَوَر إلى واقع العزة الإيمانية التي تؤدي جزءاً مما علينا تجاه النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، وإلى ذلك الحين فليشهد العالم أنه إذا شتموا الرسول فلا أمان لأحد...

وسيم فتح الله

8 ذي القعدة 1443 هجرية

7 حزيران 2022 ميلادية

 

[1]  من بيان الشيخ سدده الله على موقعه الشخصي أحمد بن حمد الخليلي (@AhmedHAlKhalili) / Twitter

[3]  سورة الأنفال 24

[4] النسهيل لعلوم التنزيل – ابن جزي – ص 578

[5]  وانظر كتاب الشفا للقاضي عياض، والصارم المسلول لابن تيمية رحمهما الله وقد فصلت في أدلة هذا الحكم ورد الشبه عليه في كتاب :"إسعاف المؤمنين بنصرة خاتم المرسلين" فليرجع إلى ذلك غير مأمور

  • 2
  • 0
  • 1,590

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً