وسائل على الدرب

منذ 2022-06-09

من وسائل الحق لدحر الباطل أن يُفْشِي أهل الحق على الملأ ظلم أهل الباطل وتجاوزهم وفجرهم حتى يحرك أهلُ الحقِّ النخْوةَ في نفوس العامة من الناس، فالناس في الأصل معادنهم طيبة ولكنها لا تخلو من طبقة رانٍ عليها تحتاج من يجليها.

ومن وسائل الحق لدحر الباطل أن يُفْشِي أهل الحق على الملأ ظلم أهل الباطل وتجاوزهم وفجرهم حتى يحرك أهلُ الحقِّ النخْوةَ في نفوس العامة من الناس، فالناس في الأصل معادنهم طيبة ولكنها لا تخلو من طبقة رانٍ عليها تحتاج من يجليها.

وهذا الران من أثرِ مكرِ الليلِ والنهار الذي يمارسه أهلُ الباطلِ فيقلبوا الحقائق لدى العامة فيصيرُ المعروف منكرًا ويُمْسِي المنكر معروفًا، قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [1]، فوجب مواجهة الباطل بالحقِّ حتى يبطل كيدَ هؤلاء وينقلبوا خاسرين {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ } ﴾[2].

 

والظلم ـ بنيَّ الحقِّ ـ ظلماتٌ بعضها فوق بعض، والفطرة السليمة تأباه حتى إنْ كانت على الكفر. وربما يكون الظلم جليًّا للعيان يحتاج إلى تنبيهٍ وإشارةٍ، ورُبَّما يكون خفيًّا يحتاجُ إلى إفشاء لسِرِّهِ أمام البشر.

 

ومن أمثلة الظلم الجلي ما كان من قريش في حصار الرسول صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه في شعب أبى طالب ثلاث سنين، هذا الظلم الذي جعل المسلمين يأكلون ورق الشجر فرأى بعض الكفار ذلك ـ من ذوي الأخلاق الحسنة والفطرة الطيبة كحكيم بن حزام رضي الله عنه وقت كفره وكان يحمل الطعام لخديجة أو كالمطعم بن عدي وغيره مِمَّنْ سَعَوْا في نقض صحيفةِ المقاطعة ـ فهبُّوا لنصرةِ المسلمين لَمَّا رأوْا من ظلم قريشٍ لهم.

 

وقد يكون الظلم جليَّا ولكن لا بأس من إفشائه وفضح الظالمين، ألم تقرأ حوار ابن الدغنة مع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لمَّا حاول الهجرة من مكة إلى الحبشةِ؟ أفشى أبوبكر ظلم قريش وعلم ابن الدغنة ذلك فآواه ونصره رغم أنه على دين قومه. وهنا لا يجوز للمرء أن يقول أنَّ من علامات الصبر ألَّا يكشف المرء عن ظلم الناس له، فهذا أدْعَى أن يتجاوز الظالمون مداهم فيظلِمُوا ويظلِمُوا دون رادعٍ من فطرةٍ سليمةٍ لدى أناسٍ ربما يكونوا من بني جلدتهم، فيخفف الله على أهل الحق ما هم فيه من بلاء.

 

ألم تقرأ قولَ الحكيمِ الخبير في وصفِ أهلِ الإيمان: {وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [3]، وهؤلاء ليس عليهم حرج فيما فعلوا من ردِّ السيئةِ بمثلها؛ {وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [4]. بل إنَّ فضيحة الظالمين بظلمهم أمام العامة حتى يُلْعَنُوا فيتوبوا ويعودوا إلى رشدهم وصيةٌ نبويةٌ من نبراس النبوة؛ ففي "الترغيب والترهيب"، للمنذري - وللحديث طرقٌ آخرى - أنَّهُ جاء رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يشكو جارَه، قال: «اطرَحْ متاعَك على طريقٍ» ، فطرحه فجعل النَّاسُ يمرُّون عليه ويلعنونه فجاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ لقيتُ من النَّاسِ. قال: «وما لقيتَ منهم» ؟ قال: يلعنونني، قال: «قد لعنك اللهُ قبل النَّاسِ». فقال: إنِّي لا أعودُ فجاء الَّذي شكاه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «ارفَعْ متاعَك فقد كُفِيتَ».

 

ولا ينبغى لأهل الحق المظلومين أنْ يتجاوزوا في كشف ظلمهم؛ {وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ} [5]. فلا يجوز – بل لا ينبغي – أن يكذبوا ويدلسوا حتى لا يكونوا ظالمين كسالفيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [6]، فإنْ كَفَّ الظالمون عن ظلمهم كفَّ المظلومون عن هتك سترهم بما تقتضيه الحاجة، ولكن حذار من نكوث أهل الباطل بوعودهم بعد حصول أهلَ الحقِّ على بعض حقوقهم - لمَّا رأوه من انصراف الناس عن متابعة ظلمهم - فهذا ديدنهم في كل وقتٍ وحينٍ، {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [7]، وكما قال عمر رضي الله عنه ـ إنْ صحَّ نسبتها إلى الفاروق ـ: لستُ بالخبِّ ولا الخبُّ يخدعني.

 

وجادل أهل الباطل بالحسنى ولكن لا تنسى أنَّ جُلَّ أهلِ الباطل لا يبرح عن باطلِهِ حتى يأتيه اليقين أي الموت، وإنْ جئت لهم بالحجةْ والبرهان مما لا يدع بابًا للباطل إلا أوْصَدهُ ولا يدعُ حجةً للباطلِ إلا فنَّدَها ودحضها، ولكن هذه مِنْ سننِ الله في خلقه. أَلَمْ تقرأ حال ترجمان القرآن عبدالله بن العباس ـ رضي الله عنهما ـ لمَّا ناقش الخوارج فأقام عليهم الحجة، ففاء مَنْ فاء إلى صوابهِ وبقيَ مَنْ بَقِيَ على ضلاله، فمَرَقُوا من الدين كمَا يمرُقُ السهمُ مِنْ الرمِيَّة على الرغم مِنْ عظيم قراءتهم للقرآنِ ولكنَّها لا تجاوز تراقيهم. وبرغم إقامة الحجة عليهم مِنْ حبرِ اﻷمَّةِ ما فاءوا بَلْ ظنُّوا في أنفسهم خيرًا، حتى قتلهم عليٌّ ـ رضى الله عنه ـ قتل عادٍ وثمود.

 

وهكذا، فاعلمْ بُنَيَ أنَّ حال أهل الضلالة لمَّا يروا الحقَّ بأُمِّ أعينهم ويُزَلْزِلُ البرهانُ هشَّ باطلهم أنْ يَشُكُّوا في واقعهم وحاضرهم، ويقولوا كما وصف الملك سبحانه وتعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} [8]. وما نبأ قوم فرعون عنك ببعيد، إذْ جاءهم موسى بالآياتِ المفصلاتِ فما كان منهم إلَّا أنْ قالوا سحرٌ مبينٌ، {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [9]. ولتعلم أنَّ طالبَ الحقِّ مع الحقِّ حيث كان، أمَّا أهلُ الباطلِ أهلُ كِبْرٍ وغَفْلَةٍ، ولذلك عوقبوا بطمسِ فطرتهم وفسادِ قلوبهم فهيَ كالأكواز المُجَخِّيَةِ، فلا سبيلَ هدى هم له تابعين ولا سبيل باطلٍ إلا وله مُبادِرِين {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [10]. وهذا ديدنُ أهلِ الباطلِ إذ يَدْفَعُوا حججَ الحقِّ الدامغة فضلّا أن ترنوا أبصارهم إليها في الأساس، ومن فسادِ عقولهم قالوا: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [11]، وعلى النقيض من هذا فدعاءُ أهلِ الحقِّ أنْ يوفَّقوا إلى سبيل الاستقامة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [12]، فشتَّان شتَّان، فبين الفريقين برزخٌ لا يبغيان {ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [13].

 

ولا ينبغي ﻷهلِ الحقِّ عِنْدَ مجادلةِ أهلِ الباطلِ أنْ ينساقوا في الدفاعِ عن أخطائهم، بل يجبُ عليهم أنْ يتجاوزوا أخطاءهم - التي لا مفرَّ منها كونهم بشرًا يصيبون ويخطئون - وأنْ يُقِرُّوا بها ثم ينتقلوا من وضع الدفاع إلى وضع الهجوم داحضين زيفَ الباطلِ بالحجةِ والبرهان. وهاتيك هذين المثالين لتعلم كيف تحاور وكيف تجادل أهلَ الزيغِ والبُطْلان.

انظر معي إلى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لمَّا انْتَهَكُوا اﻷشهرِ الحُرُمِ في سَرِيَّةِ نَخْلَة، فثارَ أهلُ الباطلِ من المشركين على تلك الجريمة الشنعاء - في زعمهم - ونَسَوْا ما جَنَتْ أيْدِيهِمْ مِنْ جرائم يَنْدَى لها الجبين، فأنزل سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [14]. فأقر سبحانه أنَّ القتالَ في الشهرِ الحرامِ كبير، ولكن هيهات هيهات أَنْ يُقارِنَ بين خطأٍ كهذا وبين الصدِّ عن سبيل الله والفتنة في الدين. بل تعالى معي غُلَيْمَ أهل الحقِّ وتأمل حِوارَ مُوسى الكليم مع فرعون اللئيم لمَّا أرادَ ـ أخزاه الله ـ أّنْ يُوَبِّخَ موسى عن قتلهِ القِبْطِي فَلَمْ يُجادِلُهُ الكليمُ عليه السلام، بل أقرَّ بفعلتهِ: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [15]، ثم انتقل عليه السلام لإقرار الحق الذي أُرْسِلَ بِهِ فقال: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [16]، ثم انتقل مهاجمًا فرعون وكاشفًا زيفَ دعواه الباطلة قائلًا: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [17]، ثُمَّ فَنَّدَ له ولِلْمَلإِ من حولهِ أدلةَ الحقِّ فإذا الباطلُ يَنْحَسِرُ، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [18].

 

واعلم ولدي الحبيب أنَّ كلًّا من أهل الحق وأهل الباطل يسعون لنصرة معتقدهم، غير أن أهل الباطل يستحل كل وسيلةٍ باطلةٍ عملًا بهذا المبدأ العجيب أنَّ الغايةَ تُبَرِّرُ الوسيلة وهذا لعمري في القياس بديعٌ. وفي هذا فإنَّ وسائلَ أهلِ الباطلِ قد تخيف أهل الحق لما يلبسونها من مسوحِ الرهبة والمكر والتدليس، فلا توْجسْ ولا تخفْ يا ولدي فإنَّك أنت الأعلى وهذا أمر الله لنبيه وكليمه بل يجب عليك أنْ تُلْقِي براهينك التي سوف تلقف إفك باطلهم فلا يفلح الله كيد المفسدين {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [19]. بل فاصبر ولا يكن في صدرك ضيق مما يمكرون {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [20].

 

 


[1] سورة الأعراف، آية 116.

[2] سورة الأعراف، الآيات 118-119.

[3] سورة الشورى، آية 39.

[4] سورة الشورى، آية 41.

[5] سورة الشورى، آية 40.

[6] سورة المائدة، آية 8.

[7] سورة الأعراف، آية 135.

[8] سورة الحجر، الآيات 14-15.

[9] سورة الأعراف، آية 132.

[10] سورة الأعراف، آية 146.

[11] سورة الأنفال، آية 32.

[12] سورة الفاتحة، آية 6.

[13] سورة محمد، آية 3.

[14] سورة البقرة، آية 217.

[15] سورة الشعراء، آية 20.

[16] سورة الشعراء، آية 21.

[17] سورة الشعراء، آية 22.

[18] سورة الإسراء’ آية 81.

[19] سورة طه، الآيات 67-69.

[20] سورة النحل آية 127.

___________________________________________________

الكاتب: د. أحمد أبو اليزيد

  • 2
  • 0
  • 938

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً