خواطر حول الإجازة الصيفية

منذ 2022-06-14

إن الإسلام لا يمنع أهله وأتباعه من الترويح عن أنفسهم وإدخال السرور على أهليهم وذويهم، بشرط أن يكون هذا منضبطًا بضوابط الشريعة، منطويًا تحت أصولها وعدم الخروج عنها.

في مثل هذه الأيام من كل عام يتجاذب الناس أطراف الحديث عن أمر مهم هو في الحقيقة أهل للحديث عنه، وكثرة المطارحات عنه، بل ينبغي أن يطرح عبر المنابر والأندية ووسائل الإعلام لتصحيح الفهم حوله وضبط التصور نحوه، ذلكم - يا عباد الله - هو موضوع العطلة الصيفية لأبنائنا الدارسين، والتي يلازمها في كثير من الأحيان الإجازات السنوية للآباء العاملين، والتي أصبحت جزءًا من الصبغة الواقعية للحياة السنوية لا يمكن تجاهلها، خصوصًا وأنها تقضى عند معظم الناس وفي معظم أحيانها في غوغائية ارتجالية، ينقصها الهدف السليم، وتفتقر إلى الضوابط الشرعية، ونحن نحاول أن نتناول هذا الموضوع من خلال خواطر هي في الحقيقة حقائق ونصائح:

الحاجة إلى الراحة والاستجمام:
إن حاجة الجسم إلى الراحة بعد الكد، وإلى الهدوء بعد الضجيج، وإلى نوع استرخاء واستجمام بعد عام من الشد العصبي والضغط النفسي، والجهد البدني؛ هو من الأمور المسلّمة التي لا ينكرها إلا مكابر أو جاهل. والإسلام في حقيقته لم يفرض على الناس أن يكون كلُّ كَلامهم ذكرًا، ولا كلُّ شرودهم فكرًا، ولا كل أوقاتهم صلاة وعبادة؛ بل جعل للنفس شيئًا من الترويح والإراحة المنضبطين بشرعة الإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحنظلة: «ساعة وساعة». وقال على فيما ذكره عنه الإمام ابن عبد البر: أجـمُّوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تمل كما تمل الأبدان.


وقال ابن الجوزي: لقد رأيت الإنسان قد حمل من التكاليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حمل مداراة النفس وتكليفها الصبر عمَّا تحب وعما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس.
وبهذا يؤخذ مفهوم عام حول تخلل جدِّ المرء واجتهاده شيء من الراحة والسكون والاستجمام.


والخلاصة: 

الناس ومفهوم العطلة:
كثيرون هؤلاء الذين ينظرون إلى الإجازة على أنها عطالة وبطالة، ويرتبط مفهوم العطلة عندهم ارتباطًا وثيقًا لا يكاد ينفك بأنها النوم، واللهو، وحضور الأفراح والأعراس، والخروج إلى أي مكان مع الأصحاب، وانقلاب الليل إلى نهار والعكس، فليلهم نهار ونهارهم ليل، حالهم كحال القائل:
يا ليل هل لك من صباح.......أم هل لنجمك من براح
ضــل الصـباح طـريقــه.......والليل ضـل عن الصباح


فنهارهم نوم وخمول، وليلهم طرب وطبول، وضجيج وطنين، أو تسكع في الأسواق وأماكن التجمعات، أو سعي وراء الفاتنات المفتونات، أو مطالعة لما تبثه وسائل الإعلام والفضائيات أو شبكات الإنترنت الغازية من صور الإغراء والافتتان، ومشاهد تئد الفضيلة وتبرز الرذيلة، وبث مكثف لما ينقض عرى الأخلاق عروة عروة، فهي برامج مطلقة لا تحكمها رقابة الواعين، ولا ضمائر ذوي الغيرة والدين، فتجتث جذور الإيمان وأصول المكارم ومحاسن الأخلاق إلى جانب لصوصية الفكر والثقافة والتراث والعقيدة والتي هي أكبر من كل ما سبق.


وبهذا الفهم الخاطئ لمعنى الإجازة تتحول العطلة إلى مأدبات شيطانية، وصفحات سوداوية في سجل العام الحافل بالعمل، وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، وهو عين ما حذر منه ربنا تعالى بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}[النحل:92].

إن مفهوم الإجازة وإن كان في حقيقته فترة توقفٍ للطلاب عن الذهاب إلى دور الدراسة، وتوقف البعض عن عملهم الوظيفي؛ لكنه لا ينبغي أبدًا أن يحملك على أن تستشعر معه أنك في فترة توقف عن العبودية لله رب العالمين؛ فإنه وصف لا ينفك عنك في صيف ولا شتاء، ولا عطلة ولا دراسة، ولا عمل ولا إجازة؛ بل أنت عبد لله في كل زمان وفي كل مكان، وهذا سر وجودك ووسام عزك، وتاج شرفك، وأكسيد حياتك، وسبيل سعادتك، فينبغي لك ألاَّ تغفل عنه طرفة عين.

إن أمارة المسلم الحق بقاؤه ثابتًا على مبادئه، وفيًا لدينه وعقيدته، معتزًا بثوابته لا يحده عن القيام برسالته زمان دون زمان، ولا يحول بينه وبين عبوديته لربه مكان دون مكان، بل هو حيث حل وارتحل؛ فالعبودية شعاره، وطاعته لله دثاره، محياه لله، ومماته لله، وأعماله كلها لمولاه، شعاره الذي لا يفارقه {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام:162، 163].

الفراغ نعمة:
لئن كان الإنسان يحصل في الإجازة شيئًا من الفراغ فليعلم أن هذا من نعم الله عليه، فكم ممن يتمنى الوقت فلا يجده لضيق رزق أو كثرة شغل، أو سعى على أهل وعيال، فاشكر الله على هذه النعمة. واعلم أن الوقت مادة الحياة ووعاء العمر، وهو رأس مالك الذي تتاجر فيه مع الله، وتحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، وبقدر ما يفوت من هذا الوقت في غير طاعة وقربة لله تعالى، بقدر ما يفوت من سعادة الدارين.
قالت رابعة لسفيان: إنما أنت أيام، كلما مضى يومٌ مضى بعضُك.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها.......وكل يوم مضى يدني من الأجل

يسر المرءَ ما ذهب الليالي.......وكان ذهابهن له ذهاب
قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمسلم أن يعرف شرف زمانه وقيمة وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة.
وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزولا قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه». فإذا كان الأمر كذلك:

فإياك والتسويف:
واعلم أن سوف من جند إبليس، فإن كنت اليوم في فراغ فربما تنشغل غدًا، وإن كنت في عافية فلربما تمرض غدًا، وإن كنت اليوم حيًّا فما تدري ما يأتي به غد. وكم ممن أمل بعيدًا، وبنى مشيدًا، وسوَّف مديدًا، فاجأه الموت فعاين حسرة الفوت، فنادى: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:99، 100].
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك».(رواه الحاكم والبيهقي بسند حسن).


وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو تنتظرون الساعة فالساعة أدهى وأمر».


يقول ابن القيم رحمه الله: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها.. فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرة شجرته حنظل، وإنما يكون الجذاذ (الحصاد) يوم المعاد، فعندئذ يتبين حلو الثمار من مرها.


فمن ضيع يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو فعل محمود حصله، أو علم اقتبسه، فقد فَقَدَ يومه وظلم نفسه وخان عمره.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي. نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة العمل..
فإياك أن تفوتك شهور الإجازة سبهللا من غير نفع في دينك ودنياك، وإياك أن تضيعها فتكون المغبون الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (البخاري عن ابن عباس).

التخطيط لا التخبيط:
إن من أعظم أسباب حفظ الوقت والعمر وحسن استغلاله أن يكون هناك تنظيم وحسن ترتيب وتخطيط مسبق لما تريد فعله، وتوزيع ذلك على ساعات النهار وأوائل الليل، وأعظم ما يرتب لك ذلك: المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها في المسجد في جماعة، ثم توزع أعمالك وأوقات راحتك بينها.
فبعد الفجر قرآن وحفظ الأحاديث، وبعد الظهر غداء وقيلولة، وبعد العصر... وهكذا.
ولابد أن يكون لك تصور لما تريد أن تفعله في هذه الإجازة أو تحصله، وأنا أذكرك هنا ببعض المهم من الأعمال:
· قال عليه الصلاة والسلام: «من قرأ حرفًا من كتاب الله كانت له به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها...» الحديث. فاقرأ من القرآن طاقتك، واحفظ منه ما استطعت؛ فإنه رفعة يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ وارتق كما كنت ترتل في الدنيا فإن مقامك عند آخر آية تقرؤها. والجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب.


قال صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرءًا سمع منَّا شيئًا فحفظه وأداه كما سمعه. إن حفظ حديث واحد كل يوم من أمثال: من كذب عليَّ متعمدًا..، كلمتان خفيفتان... يجعلك في نهاية الإجازة حافظًا لأكثر من 100 حديث عن رسولك عليه الصلاة والسلام.


· وهناك صلة الأرحام ، وحضور المراكز الصيفية النافعة ، وحضور بعض الدورات في اللغات أو الكمبيوتر، أو الاستعداد للعام القادم نفسيا وعلميا.. إلى غير ذلك من النافع المفيد.

رسالة إلى المسافرين:
قال ابن الجوزي: السياحة في الأرض لا لمقصود كعلم أو دعوة أو نحو ذلك منهي عنها.
هذا قولهم في السياحة التي لا معصية فيها، فكيف بسياحة التحلل والتفسخ.


إن السفر في الإسلام له حدود مرعية وضوابط شرعية؛ منها:
- أن يكون إلى بلد مسلم يحفظ الإنسان دينه وعرضه، أما السفر إلى بلاد الكافرين فمنهي عنه ومشدد فيه.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا برئٌ من رجل يبيت بين ظهراني المشركين». وإنما رخص أهل العلم فيه بشروط.. منها:
- أن يكون السفر لمطلب شرعي كعلم يحتاجه المسلمون ولا يوجد عندهم، أو لعلاج لا يوجد إلا في تلك البلاد ، أو لدعوة للمتأهلين لها.
- أن يكون لدى المسافر من التقوى ما يحجبه عن الوقوع في الشهوات.
- أن يكون لديه من العلم ما يحفظه عن الشبهات.
إننا نقول: إذا كان لابد من السياحة فنعم لسياحة التأثير لا التأثر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفلات، أما سياحة الخنا والزنا، والهربس والإيدز، والمخدرات والخمور، فلا يرضاها عقل ولا دين.

رسالة إلى الشباب:
أنتم والله عماد الأمم، وقلوبها النابضة، وشرايينها المتدفقة. أنتم جيل اليوم ورجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصناع الأمجاد وثمرات الفؤاد، اعلموا أن صلاحكم فيه منافع كثيرة لكن ولأمتكم، واعلموا أنكم مستهدفون من قبل أعدائكم؛ فاحذروا مكر الكائدين. أنتم في فورة القوة، وزهرة العمر؛ فلا يفوتنكم عمر الشباب، ولا تضيعوه فتندمون.
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا فإني وجدت العمل في الشباب.
إنها فرصة لتحصيل العلم، وبناء الجسم، وتنمية الثقافة والفكر، وإثراء العقل، فعليكم بكل نافع مفيد، وإياكم والجلوس ببلاهة أمام الشاشات الغازية والصور العارية، والأفلام الهابطة، ففيها فساد الخلق والدين.
وختاما نتمنى للجميع قضاء إجازة نافعة، وأوقاتا سعيدة في طاعة الله تعالى.

  • 1
  • 0
  • 1,852

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً