الحج مدرسة
في الحج: (تعويد للنفس على الطاعة والامتثال لأمر الله __ استشعار القلوب لوحدانية الله سبحانه __ تزويد للقلوب بالإيمان والتقوى __ اختبار لقوة الإيمان __ تطهير للنفس البشرية من مظاهر الكبرياء والعظمة)
الحج مدرسة روحية تعمل على توحيد المسلمين على كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والمتأمل للأعمال والأذكار التي يقوم بها الحاج خلال رحلة الحج يجد أن الحاج يلهَج بتوحيد الله عز وجل من أول منسكه إلى نهايته: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك"؛ كما في حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه و سلم، قال: ((فأهلَّ بالتوحيد: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك»[2].
ومن منافع الحج الروحية أنه يربي الفرد والمجتمع المسلم على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالحاج يربي نفسه على متابعة هديِ النبي صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج، وفي جميع شؤون الحياة؛ استجابةً لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم»[3]، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ومدرسة الحج تربي الحاج على ذكر الله، والذكر هو أول المقاصد التي أرادها الله من عبادة الحج؛ قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27، 28]، ورحلة الحج من بدايتها إلى نهايتها ذكرٌ لله عز وجل؛ فالحاج يذكر الله بالتلبية وخلال الطواف وخلال السعي، ويصعد الحاج إلى عرفات ليدعو الله ويذكره؛ فعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»[4]، ويغادر الحاج عرفاتٍ إلى مزدلفة، إلى المشعر الحرام؛ ليذكر الله؛ قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198، 199].
عباد الله، ومن أظهر الدروس التي تتضح بجلاء في مدرسة الحج: التربية على الصبر وتحمُّل المشاق في سبيل مرضاة الله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، وفي الحج تربية على الصبر بجميع أنواعه؛ ومن ذلك:
• الصبر على طاعة الله تعالى؛ كصبر الحاج على الطواف والسعي، وصبره على الوقوف بعرفة، وصبره على المبيت بمزدلفة وعلى رمي الجمار، وصبره على لزوم الذكر والدعاء ونحو ذلك.
• والصبر عن معصية الله تعالى؛ فإذا كان الحاج يصبر ويمتنع عن بعض المباحات كاللباس والطيب، وحلق الشعر وقص الأظافر، وبقية المحظورات، فإن امتناعه عن المعاصي وصبره على ذلك من باب أولى وأوجب.
• وفي الحج صبر على الأذى؛ فإن الحاج يواجه خلال رحلة حجه صورًا من الأذى؛ بسبب جهل بعض الناس واختلاف طبائعهم، وبسب كثرة الحجيج والزحام خلال أداء المناسك، كل ذلك يربي الحاج على الصبر؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر»[5].
عباد الله: والحج مدرسة للتربية على الأخلاق الفاضلة من الحلم، والعفو، والصفح، والتسامح، والإيثار، والرحمة، والتعاون، والإحسان، والبذل، والكرم والجود، ونحو ذلك، فهي رحلة تسفر عن أخلاق الرجال، وتسهم إسهامًا عظيمًا في تربية الحاج تربية حسنة؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].
أولًا: استشعار القلوب لوحدانية الله سبحانه؛ حيث يستشعر الناس في شعيرة الحج وحدانية الله سبحانه وتعالى، وذلك من خلال وحدة المناسك والمشاعر، والقصد والسعي، والقول والدعاء، فالجميع مسلمون يطوفون ببيت واحد، ويعبدون إلهًا واحدًا، ويتبعون رسولًا واحدًا، وينتهجون منهجًا واحدًا، كل هذا تجسيد حقيقي لمدلول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير".
ثانيًا: في الحج تعويد للنفس على الطاعة والامتثال لأمر الله؛ فالحج فرض في العمر مرةً واحدةً على كل مسلم ومسلمة لمن استطاع ذلك؛ وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، ولقد بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضية الحج؛ فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحُجُّوا»[7].
ثالثًا: في الحج تزويد للقلوب بالإيمان والتقوى؛ فمن منافع الحج الروحية التزود بالتقوى؛ ولقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك بقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]، وقوله جل شأنه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وقال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
رابعًا: في الحج اختبار لقوة الإيمان؛ لأن من أهم غرائز النفس البشرية حب الشهوات من النساء والبنين والأموال، والتمتع بلذائذ الحياة الدنيا المختلفة؛ وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
وفي الحج يترك الناس هذه اللذائذ، وينسَون رغبات الدنيا ويتجنبون الشهوات، وفي ذلك اختبار لقوة الإيمان وصدق العقيدة والإخلاص في حب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم.
خامسًا: في الحج تطهير للنفس البشرية من مظاهر الكبرياء والعظمة؛ حيث يلبَس الحجاج ملابس يسيرةً، الغني والفقير سواء، لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد؛ متذكرين قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد رسول الله؛ فقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: «من صلى عليَّ صلاةً واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا»، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عن أصحابه: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحب وترضى، وهيِّئ له البطانة الصالحة التي تعينه على الحق يا رب العالمين.
[1] صححه الألباني في صحيح الجامع، الصفحة أو الرقم: 2957.
[2] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1218.
[3] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1297.
[4] أخرجه الترمذي (3585).
[5] صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 6470.
[6] ينظر: - https://www.alukah.net/sharia/0/135534 - https://khutabaa.com/ar/article-
[7] أخرجه البخاري (7288) مختصرًا، ومسلم (1337) باختلاف يسير.
__________________________________________
الكاتب: محمد بن حسن أبو عقيل
- التصنيف: